الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفاسدة، والدعوة إلى هدم الواقع، أو تثبيت الأفكار عند مواضع العوج في دنيا الناس".
لم يعاد يوسف إدريس:
نعم أفلت الشيخ الشعراوي من ذلك كله، فلم يستغضب أحداً، ولم يعاد أحداً، وحين عبس الدكتور يوسف إدريس في وجهه وتناوله وسخر منه، لم يثأر منه ولم يحرش جماهيره به، بل تركه حتى ذهب إليه الدكتور يوسف بنفسه، واعتذر إليه، وكأنه بذلك يحقق قوله تعالى:{ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم} [فصلت]، ومن اللافت للنظر أن الشيخ الشعراوي قد ضمن هذه الآية الكريمة في شعر له قديم، قال:
يا من تضايقه الفعا
…
ل من التي ومن الذي
ادفع فديتك (بالتي) حتى ترى (فإذا الذي)
وهذا لون من الشعر، يضمن فيه الشعراء شيئاً من القرآن الكريم، ويجعلونه في قوافيهم، ومنه قول الشاعر:
ألا يا أيها المرء الـ
…
ـذي ألهمُّ به بَرَّحْ
وقد انشد بيتاً لم
…
يزل في فكره يسنح
إذا اشتد بك العسر
…
ففكر في (ألم نشرح)
فعسر بين يسرين
…
إذا أبصرته فافرح
انظر: زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 9/ 166.
وممن عرف بهذا اللون من الشعر أبو بكر محمد بن أحمد المعروف بالخباز البلدي، من شعراء الفرن الرابع، قال:
سار الحبيب وخلف القلبا
…
يبدي العزاء ويضمر الكربا
قد قلت إذ سار السفين
…
بهم والشوق ينهب مهجتي نهبا
لو أن لي عِزَّا أصول به
…
(لأخذت كل سفينة غصبا)
والحديث عن موقف الشيخ الشعراوي من الشيوعية - وهو موقف مفتعل كما قلت - يقودنا إلى ما يراه بعضهم من أن الشيخ يمثل ظاهرة سياسية، بجانب كونه ظاهرة دينية، ومن ذلك ما كتبه الدكتور محمد أبو الإِسعاد في المصور 26/ 6، وأول ما يلقانا من كلام الدكتور قوله عان الشيخ الشعراوي، إنه تأثر بالمذهب الوهابي، بدرجة واضحة، ويرد الدكتور ذلك إلى عمل الشيخ بالسعودية، ومشاركته في إنشاء رابطة العالم الإِسلامي هناك.
وهذا القول غير صحيح، فإن مذهب الشيخ مباين تماماً للمذهب الوهابي، أو مذهب "الشيخ محمد بن عبد الوهاب" كما يحب السعوديون أن يسمَّى، فالشيخ الشعراوي صوفي الوجه واليد واللسان، وأنت لا تخطئ صوفيته هذه في كل ما يقول، ولا يخفى الفرق بين الصوفية ومذهب القوم هناك "يا بعد يبرين من باب الفراديس". والسعوديون يعلمون جيداً صوفية الشيخ الشعراوي، ولم يمنعهم ذلك من أن ينزلوه منزلاً كريماً بينهم، وأن يوسعوا له في مجالسهم، بل أن وزيرهم النابه "محمد عبده يماني" هو الذي قدم الشيخ إلى الأستاذ أحمد فراج، فكانت الشهرة العريضة.
ويرى الدكتور أبو الإِسعاد أن الشيخ قد دخل طرفاً في الصراع بين التيار القومي الاشتراكي وبين التيار الإِسلامي السلفي، وهو ذلك الصراع الذي ساد منطقتنا العربية في الستينات، ويدلل على ذلك بانضمامه إلى رابطة العالم الإِسلامي بمكة المكرمة - وليس في جدة - عام 1962 م، وهذا الكلام هو من إسراف المؤرخين والمثقفين في التحليل والاستنتاج، فالحقيقة أن الشيخ لم يدخل طرفاً في أي صراع، وانضمامه إلى رابطة العالم الإِسلامي لم يكن لمواقف سياسية مأثورة عنه، وإنما كان لأنه كان شخصية بارزة في المجتمع المكي، بمحاضراته القيمة وتدريسه المتميز في كلية الشريعة بمكة المكرمة، والسعوديون يحرصون دائماً على اجتذاب النماذج المتميزة في مؤسساتهم العلمية والتعليمية، ولو كانوا يخالفونهم أحياناً (ولا ينبئك مثل خبير).
ولو كان الأمر كما يرى الدكتور لاستغل السعوديون الشيخ في صراعهم المر مع الرئيس جمال عبد الناصر إبان حرب اليمن وغيرها. ولم يؤثر عن الشيخ شيء في ذلك.
وأما ما ذكره الدكتور من أن الشيخ الشعراوي قد صلَّى ركعتين شكراً لله على نكسة 1967 م، فهذه زلة عظيمة من الشيخ غفر الله له، ولا يعتذر له عنها، مهما كانت الأسباب والمسوغات، وما أظن أن الشيخ قال هذه القولة الذميمة استجابة لموقف سياسي معين، وإنما قالها صدى لبعض أصوات العامة التي سمعناها تقول غداة هزيمة "67":"الحمد لله العساكر كانوا حيركبونا"، وقد سمعتها أنا بأذني من الأحياء الشعبية التي كنت أعيش فيها تلك الأيام، ومعلوم أن الشيخ كان كثير المخالطة للعامة.
وكذلك ليس صحيحاً أن الشيخ وظف شعبيته الدينية لدعم نظام الرئيس السادات، فالسادات كان قد كسب شعبية كبيرة بعد انتصار حرب 1973 م لأنه مسح العار عن جبين مصر والأمة العربية، وذلك قبل أن يلتقي بالشيخ الشعراوي وزيراً عام 1976 م، ولم يؤخذ على الشيخ إلا قوله في حق الرئيس السادات: لا يُسأل عما يفعل. وهذه قد غضب منها المتدينون، لأنها قيلت في حق المولى عز وجل، والحق أنها كانت غلطة من الشيخ، لا يعتذر عنها إلا بأنها زلة أديب، لا عالم، كما استهجن الناس من قبل قول ابن هانئ الأندلسي (362 هـ) في الخليفة المعز لدين الله الفاطمي:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار
…
فاحكم فأنت الواحد القهار
ومع ذلك فلم تطل إقامة الشيخ الشعراوي بالوزارة، ويقولون إن خلافات نشبت بينه وبين الرئيس السادات، بسبب قضية الأوقاف، وبخاصة ما يتصل منها بسور نادي الزمالك، ويروون في ذلك نكتة لاذعة بينه وبين السادات "وكلاهما كان صاحب دعابة"، وأعرف ما يقول الخبثاء الآن!
أما موقف الشيخ من غزو الكويت وتأثيم ذلك الغزو، وإجازته الاستغاثة بجيوش غير إسلامية لإِنقاذ الكويت، فلم يكن هذا موقف الشيخ وحده.
ولعل ردنا هذا الموجز على مقالة الدكتور أبو الإِسعاد يكون هو مدخلنا إلى الحديث الموجز أيضاً، عن الطائفة الثانية - ومعظمها من المثقفين والأدباء والجامعيين - التي أعرضت عن الشيخ وأبغضته، ولم تكتف بذلك الإِعراض وهذا البغض حتى ضمت إليهما هزءاً بالشيخ وسخرية منه، فقالوا: إنه رجل دنيا، وإنه ممثل، وإنه بهلوان - ونعوذ بالله من سوء القول، ويستشهدون لذلك بأنه كثير التلفت وتحريك أعضائه والغمز بعينيه.
وهذه حجة داحضة، لأن هذا الذي يأخذونه على الشيخ إنما هو من أدوات الواعظ والخطيب، ولا ننسى أن الشيخ كان في أول أمره معلماً، على أن استعانة الشيخ بجوارحه للشرح والتبيين - فضلاً عن أنه من أدوات الخطيب والمعلم - من أساليب القدماء في الشرح والإِبانة.
قال السيوطي في المزهر 1/ 144: "إذا سئل العربي أو الشيخ عن معنى لفظ فأجاب بالفعل لا بالقول يكفي، قال في الجمهرة: ذكر الأصمعي عن عيسى بن عمر، قال: سألت ذا الرمة عن النضناض، فلم يزدني على أن حرك لسانه في فيه. قال ابن دريد: يقال: نضنض الحية (الثعبان) لسانه في فيه: إذا حركه.
وقال القالي في أماليه: سئل الأصمعي عن العارضين من اللحية، فوضع يده على ما فوق العوارض من الأسنان".
وحكى ثعلب في مجالسه ص 409 عن معاوية أنه قال لعقبة بن أبي سفيان: "يا أخي، أما ترى ابن عباس قد فتح عينيه ونشر أذنيه، ولو قد قدر أن يتكلم بها فعل".
وهذه الحركات من سمات الخطباء والوعاظ، وتجدها كثيراً في البيان والتبيين للجاحظ، وقال الذهبي في ترجمة أبي منصور العبادي، من سير أعلام النبلاء 20/ 231:"واعظ باهر، حلو الإِشارة، رشيق العبارة"، وأيضاً فإن تحريك الأعضاء يعكس حالة انفعالية يعانيها الشخص، قد تكون رضا، وقد تكون سخطاً. روي أن معاوية سمع رجلاً يغني فطرب لغنائه، فحرك رجله، ففال له عبد الله بن جعفر:
ما هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال معاوية: إن الكريم طروب. مجالس ثعلب ص 47.
على أن هذه الحركات من الشيخ إنما تدل على حالة مزاجية خاصة كانت تلازمه في دروسه ومجالسه، وهي حالة من البهجة والنشوة كانت تتلبس الشيخ حين يسبح في أنوار القرآن، ويرتع في رياض العربية: فصاحتها وبيانها، وقل من يتنبَه لهذا الأمر في تحليل شخصية الشيخ: إنه يتلذذ بما يقول، ويطرب لما يجري على لسانه، فيتلذذ معه الناس ويطربون، والواعظ الجيد كان يوصف قديماً بالمطرب، قال الذهبي في ترجمة العبادي المذكور قريباً:"الواعظ المشهور المطرب".
وقد صرح الشيخ بهذه الحالة المزاجية، فقال رداً على سؤال للأستاذ صلاح منتصر، عن سر جاذبيته:"يعلم الله أني ما أقبلت على لقاء أو تسجيل أو ندوة أو حديث إلا وأنا أدرك حلاوة ما أقبل عليه" الأهرام 20/ 6.
وأنت لو أرهفت سمعك مع الشيخ لسمعته حين يحلق مع خواطره يتواجد ويطرب فيقول لنفسه بصوت خفيض ولكنه مسموع - "الله الله" - يعني بالتعبير المصري: الرجل بيشتغل بمزاج - وهذا شيء معهود في قراء القرآن والمطربين، يهمهمون أحياناً تعبيراً عن سعادتهم ونشوتهم، وقد لا يهمهمون ولكن حالتهم المزاجية تدل على ذلك.
وفي تسجيل نادر للشيخ مصطفى إسماعيل في سورة هود، وصل الشيخ رحمه الله إلى درجة عالية جدّاً من حلاوة الصوت وجمال الأداء، فقال له أحد المستمعين:"وحياة النبيّ أنت بتسمع معانا الليلة دي"!
وفي تسجيل حفلة لمطرب المائة عام -كما كان يقول أستاذنا كمال النجمي رحمه الله محمد عبد الوهاب - صدح بأغنية "كل ده كان ليه"، وكانت الحفلة في نادي الضباط، أوائل الثورة، وصل عبد الوهاب إلى الغاية في الحلاوة والسلطنة، فسمعناه يخاطب أعضاء فرقته الموسيقية:"قولوا لنا حاجة، ما تقولوا لنا حاجة"، كأنه يقول لهم: إنني في حالة من الوجد والنشوة فشاركوني انتم أيضاً في ذلك بالعزف المنفرد (الصولو) على آلاتكم.
أما أم كلثوم العظيمة فهمهماتها معروفة مسموعة.