الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أبي يغزو
…
وأمي تحدث
(1)
هذا مثل شائع من أمثال العرب، وأصله فيما ذكر ابن الأعرابي: أن رجلا قَدم من غزوة، فأتاه جيرانه يسألونه عن الخبر، فجعلت امرأته تقول: قتل من القوم كذا، وأسر كذا، وجرح كذا، والرجل صامت لا يتكلم، فقال ابنها متعجبًا:"أبي يغزو وأمي تحدث"، هكذا رواه المفضل بن سلمة، والميداني، ورواه الزمخشري:"وأمي تحبِّر"، والتحبير: التزيين، ثم قال: يضرب لمن يفتخر ببلاء غيره.
وأنت ترى أيها القارئ الكريم، وأنا أرى معك تصديق هذا المثل كل يوم فيمن يتحدثون كثيرًا على السنة غيرهم، ويحملِّونهم ما لم يحملوا، ويقوِّلونهم ما لم يقولوا، وكثيرًا ما يضيفون إلى ذلك كلامًا آخر عن أنفسهم هم: معتدلين أو مبالغين.
وقد ذكرت هذا حين قرأت عقب وفاة شيخ المجمعيين الدكتور إبراهيم بيومي مدكور كلمة بالأهرام لأحد أساتذة الجامعة، نعى فيها الدكتور مدكورًا، ذاكرًا بعض مآثره وآثاره ليخلص بسرعة إلى الحديث عن نفسه هو وتلاميذه هو، ثم رآها فرصة ليضع كتفه بجوار كتفه، وهامته إلى هامته، فيذكر خلافه معه في الرأي والقضايا الفلسفية الكبرى.
وذكرت هذا المثل أيضا يَوم حصل فارس الرواية العربية *تخيب محفوظ، على جائزة نوبل العالمية، وانطلقت أقلام المنظِّرين والمتفلسفة، تحلل وتفسر، وتستنطق الأديب الكبير بما لم يقله؛ بل إن بعضهم ألبسه "برنيطة" فردًّ فَنه الروائي إلى فلان
(1) مجلة "الهلال"، يونيو 1996 م.
الإِنجليزي، أو فلان الفرنسي، والرجل ساكت لا ينطق، مجامل لا ينفي، وكأنه يقول في نفسه:"لا والله ليس الطريق هنالك! ". على أن أديبًا من هؤلاء الأدباء أعطى لنفسه خصوصية عجيبة بنجيب محفوظ، فهو لا يزال يشعرنا بأنه الأقرب والأحظى عند الأستاذ، وأنه مستودع سره، ومستراح ضميره، ويقول مرة: أبي نجيب، ومرة: عمي نجيب، ثم يتمادى فيرد أدبه إلى أدبه، ويقرن فنه بفنه، ويا بُعد ما بينهما!
ويذكر تلاميذ الأستاذ العقاد وجلساؤه أن ذلك الكتاب الذي كتبه هذا الأديب الشهير والصحفي الكبير عن "صالون العقاد" فيه تزيد غير قليل على العقاد، وأن قدرًا كبيرًا من المكتوب إنما هو عن الكاتب لا عن العقاد، هكذا قالوا والعهدة عليهم، فاني لم أجالس العقاد رحمه الله، وقد فاتني بذلك خير كثير.
على أن هذا كله يذكرنا بمثل عربي آخر، هو قولهم:"سيرين فِي خرزة"، والسير معروف، وهو من الجلد يصُنع منه النعال، ويضرب هذا لمن يجمع حاجتين في حاجة واحدة، وما أصدق العرب في أمثالها وحكمها!