الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يجب أن يفرط في مثله، وإن كان دونه - وذلك ما لا شك فيه - فتركه معجزة للقرآن فلا يجب التفريط فيه، فاستحسن الجماعة قوله، ووافقه ابن هبة الله على الحق وسكت".
فمثل هذا الكلام، وتلك الأخبار التي ملأ بها المؤلف الفاضل كتابه، مما يقوي ثقة أبنائنا بماضيهم وتراثهم، ويبعث فيهم الاعتزاز به، والحرص عليه، والدفاع عنه.
مواضع للنقد:
أما ما يندفع فيه بعض أساتذتنا وزملائنا الجامعيين، من نقد لعلوم الأمة ومعارفها، مع ما يصحب ذلك أحياناً من السخرية والاستهزاء، فهو مما لا يصح ولا يستقيم، ونعم إن في تراثنا مواضع للنقد والتتبع، وهو منقود من داخله من قديم، فقد اعترض على سيبويه إمام النحاة ونقد واستدرك عليه، وكذلك تعرض البخاري للنقد والتصحيح، وممن نبه على أوهامه الحافظ شرف الدين الدمياطي، عبد المؤمن بن خلف المتوفى بالقاهرة سنة "705 هـ"، وليس احد إلا وأنت آخذ من قوله وتارك - على ما قاله يونس بن حبيب - ولكن هذه الأمور ينبغي أن تنحى عن طلبة العلم في أول أيامهم، وتؤجل إلى أن يشتد عودهم ويستحصد زرعهم، حتى يستطيعوا أن يميزوا الخبيث من الطيب.
وقد زان هذه المعارف التي امتلأ بها الكتاب أسلوب مشرق، وبيان عذب، ارتفع بها المؤلف عن هذا الجفاف، وذلك العسر اللذين يشيعان في كتابات كثير من الجامعيين الآن.
وقد استحيا المؤلف بعض الأبنية والتراكيب الفصيحة التي يتحاشاها كثير من الكتبة الآن، استخفافاً بها، أو غفلة عنها، فمن ذلك استعماله الفعل "كسر" بمعنى قسم وفصَّل، وذلك قوله عن ابن النديم وكتابه الفهرست -ص 300 - "وقد كسر محمد بن إسحاق كتابه على عشر مقالات". وقوله عن المقَّري وكتابه نفح الطيب -ص 377 - "وكسره على ثمانية أبواب". واستعمل هذا الفعل الفصيح أيضاً في ص 145، فقال عن دراسة الدكتور حنا جميل حداد "شواهد النحو الشعرية" قال:
وكسرها على قسمين: درس في الأول منهما المناهج والمصادر، وجمع في الثاني كل شواهد النحو".
هذا وقد هُدي المؤلف الفاضل إلى تركيب قديم ضارب في التراث بعروقه، وهو ما ذكره في حديثه عن الخط العربي -ص 26 - قال:"ونحن نواجه قضية علمية لا بأس من إسقاط الروايات التي عجز أصحابها عن مواجهة المشكلة، ولم يصبروا على محنة البحث، فلاذوا بالأسطورة يجدون في رحابها التفسير والتعليل والرضا والراحة".
فقوله: "ولم يصبروا على محنة البحث" من التراكيب الدقيقة البديعة، وكنت قد علفت شيئاً شبيهاً به، وقع لي في كلام قديم، عمره أكثر من ألف عام، وذلك ما جاء في كلام للإِمام أبي سليمان الخطابي، وهو أحد أعلام العربية في القرن الرابع، ثم هو صاحب غريب الحديث، وإعجاز القرآن، وتوفي سنة "388 هـ"، قال في مقدمة كتابه غريب الحديث 1/ 57:"فحق على طالب الحديث أن يرفق في تأمل مواضع الكلام، ويحسن التأتي لمحنة اللفظ".
وهكذا تحيا الألفاظ والتراكيب العربية الفصيحة، وتنتقل من جيل إلى جيل، كما تجول النُطَف في الأصلاب الكريمة، وكما تنتقل الخصائص في السلالات الزاكية، ودعك من الذين يقولون بالأساليب التراثية، والأساليب المعاصرة، واستحداث المنافرة والمدابرة بينهما، فإنما هو العجز ولا شيء غير العجز.
وبعد: فهذا عرض سريع للكتاب يغري بقراءته، ولا يحيط بمحاسنه، ولم يبق إلا الاستجابة لما قاله المؤلف في خطبة كتابه من أنه سوف يكون سعيدا بأي ملاحظة لتقويم عمله وإصلاح ما قد يكون داخله من نقص أو خطأ.
وهو موضوع المقالة التالية إن شاء ربك.
* * *
دراسة في مصادر الأدب [2](1)
للدكتور الطاهر أحمد مكي
فرغت في المقال السابق من عرض هذا الكتاب الجليل وبيان فضله وجدواه على ناشئة هذا الجيل. واليوم أستجيب لرجاء المؤلف الفاضل في قبول أي ملاحظة تعين على تقويم عمله هذا، وتصلح ما قد يكون قد داخله من نقص أو خطأ، فأقول وبالله الاستعانة:
أول ما يجب مناقشته من قضايا الكتاب ما ذكره المؤلف الفاضل في ص 43 عن تاريخ النَّقْط في الحروف العربية، قال:"وأول محاولة للنقط كان دافعها وهدفها، كبقية العلوم الأخرى: الحفاظ على دقَّة ضبط القرآن الكريم، وكان الناس يقرأون في مصاحف عثمان رحمه الله وهي غير منقوطة ولا معجمة فيخطئون القراءة، فكلمة (سلو) قرأها حفص بن سليمان بن المغيرة (نبلو) وقرأها عبد الله بن مسعود (تتلو)، وكلمة (سسا) قرأها حفص (تثبيتا) وقرأها مجاهد بن جبر (تبيينا). والآية (جعل السفيه "السقاية" في رحل أخيه) قرأها رجل: (جعل السفينة في رجل أخيه) وأمثلة أخرى كثيرة، وقف عليها حمزة الأصفهاني مؤلفًا كاملاً هو "التنبيه على حدوث التصحيف".
ومؤدى هذا الكلام أن الاختلاف في القراءات القرآنية راجع إلى تجرد المصاحف من نقط الحروف، وأن ذلك جعل كل إنسان يقرأ بما يؤديه إليه اجتهاده.
(1) مجلة "الهلال" أغسطس 1997 م.