الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
محمود شاكر .. والديار التي خلت
(1)
وقالوا الإِمام قضى نحبه
…
وصيحة من قد نعاه علَت
فقلت فما واحد قد مضى
…
ولكنه أمة قد خلت
وليس في وصف محمود شاكر بأنه أمة وحده شيء من استرسال القلم بدواعي الشجن لحادثة الموت وفوت الأماني بطلب البقاء، فإن سيرة هذا الرجل تنطق بأنه واحد في هذا العصر، فلا يشبهه أحد من أدباء زماننا، وما ظنك بأديب قرأ كتب العربية في فنونها كلها، لا أستثني فناً ولا علماً. أقول قولي هذا غير شاك ولا متردد، فقد خالطت محمود شاكر ثلاثين عاماً، وخبرت سواده وبياضه، وعرفت علنه، وأطلعني على كثير من سره، ونظرت في مكتبته الضخمة فإذا على كل كتاب منها اثر قراءة ونظر وتعليق.
لقد ولد محمود شاكر في أول فبراير 1909 م، وتوفي في 7 أغسطس 1997 م، فهذه ثمانية وثمانون عاماً، قضى منها سبعين عاماً في القراءة والنظر والكتابة، وهذا تاريخ موثوق به، فقد ظهر اسمه في أول عمل علمي سنة 1937، حين صحح صفحات من كتاب "أدب الكاتب" لابن قتيبة، الذي أخرجه الشيخ محب الدين الخطيب في ذلك العام، وأشار إلى صنيع محمود شاكر في مقدمته، ومعلوم أنه التحق بكلية الآداب عام 1926 م، وقد اتصل بالعلم من قبل، فقد أخبرني رحمه الله أنه قرأ "لسان العرب" كله، و "الأغاني" كله، وهو طالب بالثانوي، فهل تظن أن أديباً من أدباء عصرنا قرأ هذين الأثرين، وهو في سن الثالثة عشرة أو الخامسة عشرة؟
(1) جريدة "الأهرام"(مصر)، 22 أغسطس 1997 م.
وتروح أيام وتجيء أيام، ويظل محمود شاكر لصيقاً بالكتاب، لا يكاد يدير وجهه عنه. لقد ألقى محمود شاكر الدنيا خلف ظهره ودَبْر أذنيه، ولم يبال بإقبالها أو إدبارها، وفرغ للعلم والمعرفة، وقد أعانه على أمره عقل فذ، ونفس متوثبة، وأشياء كثيرة مركوزة في الطبع، مذخورة في أصل الخلقة، مما يصطفي الله بها خلقه من الأنبياء وأصحاب الرسالات وصناع الحضارات.
وقد كتبت عن محمود شاكر كثيراً، وحاولت أن ألتمس وجوهاً من الوصف تنبئ عن حقيقة حاله ومكنون أمره، وغاية ما انتهيت إليه أن الرجل رزق عقل الشافعي وعبقرية الخليل ولسان ابن حزم وجلَّد ابن تيمية، بل إني رأيت أن ليس بينه وبين الجاحظ أحد في الكتابة والبيان، وكنت أرى أن كل هذا الذي قلته غير كاف في حقه، حتى وقفت على ما أريد من وصفه في كلام لأبي حيان التوحيدي، يقارن بين الجاحظ وابن العميد، يقول أبو حيان:
"إن مذهب الجاحظ مدبر بأشياء لا تلتقي عند كل إنسان، ولا تجتمع في صدر كل أحد، بالطبع والمنشأ والعلم والأصول والعادة والعمر والفراغ والعشق والمنافسة والبلوغ. وهذه مفاتح قلما يملكها واحد، وسواها مغالق قلَّما ينفك منها أحد".
فهذا كلام مفصل على محمود شاكر تفصيلاً، ومصروف إليه صرفاً، ويزد عليه غيرته الشديدة على العربية ودفاعه الحار عنها، وخوضه تلك المعارك الرهيبة التي خاضها بقلب رجل صلب عنيد فاتك، وقد خاض معاركه كلها وحده، غير متحيز إلى فئة ولا منتصر بجماعة.
وبعد: فيا أبا فهر، أي علم باذخ طوي بموتك، وأي دليل هاد غاب برحيلك، وأي ضوء ساطع طفئ بغيابك، وأي حزن أسود نشب بالقلب بفقدك:
ما في الصحاب أخو وجد نطارحه
…
حديث نجد ولا صب نجاريه
وليرحمك ويرحمنا الله.
* * *