الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يا شجره يا حلوه يا مفرعه
…
شرفت أعمامك الأربعة
وهكذا والله.
ثم تجري المناقشة مصحوبة أيضاً بتلك الحال من البهجة والتطلق، والمزاح مع الطالب، ونعم نحن نتبسط مع أبنائنا في المرحلة الجامعية الأولى، بلون من المفاكهة، لندفع عنهم أسباب الملال، ثم لنغريهم باستقبال ما يرد عليهم من ألوان العلم، أما في هذا اليوم الكبير فلا، وإن جاء شئ من ذلك فيكون في أضيق الحدود.
وأسوأ ما يكون هو التوجه إلى الحضور بنوع من طلب الرضا والاستحسان، أو التماس والتأييد والنصرة، وكل ذلك يجر إلى المشاركة في المناقشة، وهذا عيب قادح فادح، فالكلام في هذه المواطن إنما يكون للجالسين على المنصة والطالب ليس غير.
أما ما يكون من تقارض الثناء بين أعضاء المناقشة، فهو باب واسع جداً، وأظهر ما فيه قول المناقش الثاني: إن زميلي الجليل الذي سبقني قد كفاني مؤونة الكلام في كثير من القضايا، وهذا كلام قد يكون صحيحاً، ولكن استفاضته وتفشيه وتتابع المناقشين عليه أذهب الثقة به.
فهذا ما كان حديث المقارنة بين الهيئة التي كانت تتم عليها المناقشات في الماضي، والهيئة التي تتم عليها الآن.
حديث عجيب:
أما الحديث عن أسلوب بعض الأساتذة المناقشين في استقبال ذلك الأمر الجلل، وطريقتهم في إدارة الحوار، فهو حديث عجب، ولا سبيل إلى استقصائه وبلوغ الغاية منه، وأول ما تأتيك به المقارنة بين ما كان وما هو كائن في هذا الصدد: أن الأستاذ المناقش فيما مضى كان يدخل إلى المناقشة وهو محتشد، قد أخذ للأمر عدته، وجمع له أدواته، وكانت مناقشته، تطول جداً؛ لأنه أعطى الرسالة حظها من
النظر والتأمل، فقرأها كلها، أما اليوم فأنت تحس من أول لحظة بأن الأمر هين، بل هو بالغ السهولة.
وبدءه ذي بدء ذي بدء فإني أقول بحق وبصدق إن كثير من الأساتذة الجامعيين علماً، ولكنهم لا يخرجونه، ليس ضناً به ولا كزازة، ولكنهم لا يبذلون جهدًا في قراءة الرسالة الجامعية، لأنهم يزنون الأمور بميزان العائد المادي، فماذا تعطيك الرسالة من المال؟ إن كتابة ثماني صفحات في مجلة كذا تعطيك ثمانمائة جنيه (800) مع الشهرة والرنين، ونعم إن الكتابة في هذه المجلة الغنية لا تتاح لكثير منهم، لكن هناك وجوهاً أخرى من الكسب تعطي أجزل مما تعطيه الرسالة الجامعية، ولذلك فإن بعضهم لا يقرأ الرسالة كلها، بل يكتفي منها بصفحات قليلة، يوزعها على امتداد الرسالة أثلاثاً أو أرباعاً، فلا يخرج علمه كله، فهو كما قال الله تعالى:{ولا يُنفِقُونَ إلَاّ وهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54].
وعدم قراءة الرسالة كاملة يفضي أحياناً إلى خلل شديد، أعلم يقيناً أن رسالة جامعية للدكتوراه نوقشت وأجيزت بمؤتبة الشرف الأولى، وقد اكتشف الطالب بعد المناقشة أنه سقط منها في أثناء التجليد نحو مائتي ورقة، وكان موضوع الرسالة تحقيق نص من نصوص النحو، وفي الغالب لا يقرأ الأساتذة النصوص المحققة كلها، وهذا هو الذي حجب عنهم اكتشاف هذا السقط.
ومن أمارات الاستخفاف أن بعض الأساتذة يصرح في أول مناقشته بأنه اعتاد ألا يتجاوز ساعة واحدة، كأنه يريد أن يطمئن المشرف والمناقش الثاني والجمهور والطالب، ويظل الحضور ينظرون في ساعتهم. وحين توشك الساعة أن تنقضي يرتفع صوت واحد من الحاضرين: الساعة خلصت يا دكتور، فيرد عليه الدكتور: لا ياخويا، فاضل دقيقتين، ساعتك غير مضبوطة، ويتضاحك الجميع. ومن هنا فقد زالت أسباب الخوف والهيبة عن كثير من الطلبة، وأصبح بعضهم يُنشد بعضًا:
وما هي إلا ساعة ثم تنقضي
…
ويذهب هذا كله ويزول
ولكن الفرق بين "ساعة" ذلك الدكتور و"ساعة" هذا الشاعر فرق كبير، فساعة الدكتور ساعة زمانية، ستون دقيقة ليس غير، أما ساعة الشاعر فيراد بها مطلق الوقت، الذي قد يتجاوز مدى الساعة الزمانية.
ومن أعجب ما رأيته من علامات الاستخفاف أن زميلاً كان يناقش بجواري فقال للطالب: والله يا بني أنت حظك حلو، أنا قرأت رسالتك في القطار! قطار يا دكتور؟ كيف يحدث هذا؟ ألا تحتاج إلى مرجع تعوّل عليه أو تصحح منه؟ ولهذا يدخل الطالب لجنة المناقشة محتشدًا جامعًا، حتى إذا رأى ذلك كله سكن رُوعه، وهدأت نفسه، ثم تلا قوله تعالى:{فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي العَذَابِ المُهِينِ (14)} [سبأ: 14].
والسَّوأة السَّوآء، بعد ذلك هي هذه العامية القبيحة التي يستكثر منها بعض المناقشين، ويدير عليها حواره كله، فتسمع مثلاً أمثال هذه العبارات: واخد بالك من الحتة دي-خد بالك من الرأي دوّتْ-كده هوّت- إحنا بنتكلم عشان خاطر نعلمك يا بني- نبض نلاءي (أي ننظر نلاقي).
هذا شيء محزن حقًا، لا ينبغي السكوت عليه أو المصانعة فيه، ونحن نلم أحيانًا بالعامية في أسلوب الربط، ولكنها العامية المقبولة، التي تأتي في حدود الضيقة، إنه يكاد يسري في أثناء المناقشة كلها، إنك لو أغمضت عينيك، وسمعت بعض المناقشين لظننت أنك في موقف أحمد حلمي أو القُللي، والمنادي ينادي: واحد دكرنس، واحد المنصورة، وقد سرت هذه العدوى إلى شباب المعيدين، طلبت يومًا من أحدهم شيئًا، فقال: حاضر يا عسل! فقلت: ما هذا يا بني؟ لا ينبغي أن تستعمل مثل هذه الألفاظ، فقال: لقد سمعتها من فلان وفلان وفلان، وذكر أسماء كبيرة، فلكا سمعت هذا قلت له: خلاص يا حلاوة-براءة- أنت كده في السليم، فنظر إلي نظرة انتصار، فهممت أن أقول له:"متبصليش بعين رديَّة شوف إيه اللي عملته في شرح الألفية" (بالمناسبة أنا مدرس نحو، أدرس لطلبتي شرح ابن عقيل
على ألفية ابن مالك، ولا أرضى به بديلاً)، وهكذا يتسلل إلينا البلاء، وتسري بننا العدوى، فلا نملك لها صرفًا ولا تحويلاً:
تثاءب عمرو إذ تثاءب خالد
…
بعدوى فما أعدتني الثُّؤَباءُ
ورحم الله شيخنا أبا العلاء، والبيت من قصيدة باذخة، اطلبها في اللزوميات، واقرأها وأقرئها تلاميذك.
ومع هذه العامية البغيضة التي ذكرتها، فإن بعضهم يتحرى الفصحى، ولكنه يُخلِّط تخليطًا شديدًا في أبنية الأسماء والأفعال، ثم يلحن ولا يعطي الإعراب حقه.
وإذا كنا قد أخذنا على بعض المناقشين الليونة والاستخفاف، فإننا نأخذ على بعضهم أيضًا اصطناع الشدة والقسوة، واللجوء إلى الصياح والجبلة وقعقعة السلاح، والنظر إلى الطالب على أنه ذبيحة يتناولها بالمدى والسكاكين، ومحاولة إحراجه وإلجائه إلى أضيق الطرق، ثم ما يكون من تضييع الوقت في أشياء هينة، كالحديث عن علامات الترقيم والأخطاء المطبعية، والفرق بين المصادر والمراجع، ثم التهويش بما لا دليل عليه، كأن يقول المناقش: لقد سكتُّ عن أشياء مهمة لضيق الوقت! إن الأشياء المهمة يا زميلي العزيز لا ينبغي تجاهلها أو السكوت عليها، وإلا فلم كانت هذه المناقشات العلنية؟ ثم إن مثل هذا الكلام يوقع الطالب في حرج: لأنه يوحي للحاضرين أنه قد وقع في الخطأ إلى أذنيه، ثم هي إلصاق تهم لا يستطيع أن يدفعها عن نفسه.
وأمر آخر خطير جداً: إن المشرف قديمًا كان يشترك مع زملائه في مناقشة الطالب، وتدور مناقشته حول مخالفة الطالب عن أمره فيما رسمه له من خطة الرسالة، أو بأنه حين قرأ الرسالة كاملة ظهرت له جهات من النقص يرى ضرورة تنبيه الطالب عليها، وأذكر أن الأستاذ عمر الدسوقي، وكان مشرفًا على أخي وعشيري عبد الفتاح الحلو، رحمهما الله جميعًا، أذكر أنه حمل عليه حملة شديدة في المناقشة، فاقت مناقشة الآخرين: الدكتور عبد الحكيم بلبع رحمه الله، والدكتور عبد القادر القط، أطال الله في عمره. أما الآن فالمشرف يتعصب جدًا للطالب،