الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المؤتمرات العلمية
…
والنغمة المكرورة
(1)
حضرت منذ أيام مؤتمرا علميًا لإِحدى الكليات النظرية، تحت عنوان "التجديد في العلوم العربية والإِسلامية"، وقد كثرت هذه المؤتمرات في السنوات الأخيرة كثرة ظاهرة، ولو أن إنسانًا شغل نفسه بتتبع هذه المؤتمرات فتأمل الأوراق المقدمة لها، والتوصيات التي انتهت إليها، لوجد تشابها واضحًا في هذه وتلك، فالقضايا هي القضايا، والتوصيات هي التوصيات، وقد يجد اختلافا فَي طريقة المعالجة وفي صورة التوصيات، ولكن الجوهر هو هو، على ما قال الشاعر:
عباراتنا شتى وحسنك واحد
…
وكل إلى ذاك الجمال يشير
ولو أن الأمور كانت تجري في هذه المؤتمرات على سنن من الاستقامة والإِنصاف والعدل، لقلنا لا بأس ولا نكران، فالطارف يذكر بالتليد، والمكرر أحلى - كما يقول أهل الحديث، ولكن المشاركين في هذه المؤتمرات يشرقون ويغربون، وتأتي كلمة التجديد بلمعانها وبريقها معينة لهم على ما هم بسبيله من التنقص والمعابة لعلومنا جميعها، ولتاريخنا كله، فلا مهابة لعلم، ولا حصانة لأحد، ألسنا تحت مظلة "البحث العلمي والموضوعية والتجرد"؟
وتسمع في هذه المؤتمرات أحكامًا ضخمة مكرورة، مثل: تفسير القرآن مليء بالإِسرائيليات.
(تنبيه: نحن لم ننه عَن الإِسرائيليات جملة، وكيف وقد اخرج البخاري ومسلم
(1) مجلة "الهلال"، يونيه 1995 م.
وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج"، أي بما لا تعلمون كذبه).
ومن هذه الأحكام أيضًا قولهم: الحديث مشحون بالوضع والضعف. والنحو تعقيد وتأويلات، والبلاغة تكلف وأصباغ، والعروض قيود ودوائر تدير الرأس، والتاريخ ارستقراطي، كتُبِ لَلخلفاء والملوك، والجغرافيا العربية بلهاء، وأدبنا العربي غارق في الذاتية ومجالس السمر، إلى آخر هذه القضايا المألوفة، وهي "شنِشْنِةَ أعرفِهُا من أخَزْمَ " كما تقول العرب في أمثالها.
لكن الخطورة في هذا الكلام في تلك المؤتمرات يقال بمحضر من الطلبة. وهم على ما نعرف من قلَّة المحصول. وقد قام عندهم شيء من الشك في هذا الذي يسمعون لا يستطيعون له دفعا وَلا ردا. َ لغرارتهم وجهلهم لها وللمكانة العالية لأساتذتهم عندهم. وبخاصة أن هذه القضايا تساق في ثياب مزركشة من مثل "الموضوعية والجدلية والإِشكالية وحتمية التاريخ والمنظومة الحضارية"، وهي كلمات شديدة الأسر نافذة التأثير.
ويحدثني كثير من الطلبة عما يجدونه من تناقض صريح بين ما يسمعونه في هذه المؤتمرات، وما يلقى عليهم داخل المدرجات وكأنهم يقولون:"كيف تبُغَضَوُن إلينا طعاما ثَم تدعوننا إلى أكله".
فيا أساتذتنا الأكرمين، ويا زملاءنا الأعزاء: رفقا بَهؤلاء الصغار، حتى لا توقعوا الشك في قلوبهم، وتورثوهم الحيرة والبلبلة، فتزل قَّدم بعد ثبوتها.