الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسائل الجامعية .. و .. ساعة ثم تنقضي
(1)
الدراسات العليا الجامعية هي أعلى دراجات السلم التعليمي، وهي ذؤابته وسنامه، وهي غاية كل طالي علم ومنتهى أمله، ثم هي الصورة الصادقة للأمم وحظها من التقدم والرقي، ولجامعاتنا المصرية في ذلك قدمه وتاريخ وأثر (يسعدني كثيراً أن أرى في المؤتمر العام لمجمع اللغة العربية بالقاهرة الأستاذ الدكتور شوقي ضيف، وعن يمينه الأستاذ الدكتور ناصر الدين السيد، وعن يساره الأستاذ الدكتور شاكر الفحام، وهما من تلاميذه، ومن أعلام الأمة العربية).
والذين شاهدوا مناقشة الرسائل الجامعية في الخمسينات والستينات ثم يشاهدونها الآن فروقاً واضحة بين ما كان وما هو كائن، وليست من الذين يرون الماضي خيراً كله، وأن الحاضر شر كله، ففي الناس بقايا خير، كما يقول الحافظ الذهبي (سير أعلام النبلاء 7/ 250) ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجة، كما يقول العز بن عبد السلام (البرهان في علوم القرآن للزركشي 1/ 379)، ولكننا بإزاء مقارنة وموازنة ليست في صالح الحاضر.
ولست أريد من هذه الفروق، الفروق العلمية، فلذلك حديث آخر، وإنما أريد تلك الفروق التي تتصل بالهيئة التي تتم بها مناقشة الرسائل، ثم بأسلوب بعض الأساتذة المناقشين في استقبال ذلك الأمر الجليل، وطريقتهم في إدارة الحوار.
(1) مجلة "هلال"، يونية 1999 م.
هذا المقال كتبه الراحل د. محمود الطناحي قبيل، وكأنه يكتب وصيته الأخيرة.
وأول ما يلقاك أيها القارئ الكريم من ذلك في الماضي تلك الهيبة الخاشعة التي تحف بأعضاء هيئة المناقشة حين يدخلون القاعة؛ لأنهم قضاة، ومجالس القضاء مصحوبة دائماً بمظاهر الجلال والوقار، ويظل أعضاء المناقشة مدة المناقشة كلها على هذا الحال من الجد والصرامة، أذكر يوماً حضرت فيه مناقشة، وكان رئيس الجلسة الأستاذ عباس حسن رحمة الله، وكان فيه بأو وصرامة، وحين استقر على المنصة هو وزميلاه نظر فوجد باقات من الورد أمامه وأمام الطالب، استدعى العامل، وقال له، ارفع هذا، هل نحن في فرح؟
ويسري هذا الجد إلى الحضور جميعهم، فلا كلمة ولا تعليق، ولا تسمع إلا همساً، وإذا بدا للطالب أن يتظرف ليخفف من حدة مناقشة، أعيد بقسوة إلى حالة الوقار والجد، أذكر مرة للأستاذ عباس حسن أيضا، أنه ورد على الطالب ملاحظة تتصل بالدقة في نقل الأرقام من المصادر، فقال للطالب: أنت ذكرت رقم الصفحة (245) والصواب: (254)، فقال الطالب: لا بأس يا أستاذنا، فقد حصل فيها قلب مكاني! فما كان من الأستاذ عباس حسن إلا أن نهره بقوة، وقال: عيب يا ولد (القلب المكاني في علم الصرف هو تقديم حرف على حرف، ومثاله في الفصحى: جذب وجبذ، وجاه ووجه، وفي العامية: أراني وأنارب، ومسرح ومرسح، وزنجبيل وجنزبيل).
ثم لم يكن يسمح فيما مضى لأحد من الحضور أن يعلق على ما يدور من مناقشة، بل لم يكن الحديث يتجه إليهم أصلاً، وإنما الكلام بين المناقشين والطالب ليس غير، ثم لم يكن يسمح للأطفال بحضور تلك المناقشات.
أما اليوم، فالأساتذة يدخلون في موكب بهيج من الضحك والانبساط والتطلق، ويسري هذا كسابقة إلى الحضور، فترى القاعة تموج بالانشراح والبهجة والتعليقات الحلوة، والأطفال يتقافزون ويمرحون في القاعة، وقد جئ بهم ليروا (بابا) في يوم عُرسع، والنساء يزغردون عند إعلان النتيجة، بل إني سمعت إحداهن تنشد لقريبها الطالب: