الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كمال النجمي .. والثغور التي تتساقط
(1)
عرفته في أوائل الستينيات، وكنت يومئذ غارقاً في هوى الشيخ مصطفى إسماعيل وأم كلثوم، ولا أدير أذني عنهما، ولا أقبل فيهما شريكاً ولا مزاحماً، وكان يسوؤني أن يضعهما احد في مقارنة.
وفي أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات لم يكن يزاحم الشيخ مصطفى إسماعيل إلا الشيخ عبد الباسط عبد الصمد، ذلك الفتى الأسمر الوسيم القادم من أقصى صعيد مصر (وقد أطلقت عليه مجلة الجيل الجديد آنذاك: الشيخ مارلون براندو)، وقد أحدث ظهوره في أوائل الخمسينيات دويّاً هائلاً بصوته الأبيض الجلي الرنان ونفسه الطويل المعجب، ولكني كنت أرى يومذاك أن الفرق بين الشيخين بعيد جداً، وكنت أسمع ذلك الرأي أيضاً من هؤلاء السميعة الكبار الذين كنت أحضر مجالسهم في الموالد التي كان يقرأ فيها الشيخ مصطفى، وكان من أشهر تلك الموالد التي يبدع فيها الشيخ: مولد السلطان أبو العلا، والشيخ سلامة الراضي ببولاق.
ثم كان يحزنني أيضاً ما يقوله بعض الناس: أن أسمهان لو عاشت لكانت قد حجبت أم كلثوم، أو أن سعاد محمد صوتها أعذب من صوت أم كلثوم، أو قول بعضهم: اصبروا قليلاً على هذه الفتاة السورية - يعنون فايزة أحمد - فسوف يكون لها شأن مع أم كلثوم!
(1) مجلة "الهلال"، مارس 1998 م.
ومهما يكن من أمر: فقد خلا لي وجه الشيخ مصطفى والست أم كلثوم، أعب من صوتهما عباً، لكن إحساسي بعبقرية صوتهما كان إحساساً غامضاً، أو قل إنه كان إحساساً ساذجاً، يقف عند حدود الإِعجاب والطرب الذي يقنع بالاهات والتنهدات و (إيه الحلاوة دي) و (مفيش كده)، وإن كان قلبي يغلي بمشاعر الإِكبار لهذين الصوتين العجيبين، لكن يضيق صدري ولا ينطلق لساني، فلم أكن في ذلك الزمان قد عرفت صنعة الكتابة والإِبانة عما في النفس، وأيضاً فإني كنت أستشرف إلى من يأخذ بيدي لتحليل هذين الصوتين تحليلاً فنَيّاً يقوم على أسس ومعايير تتعدى هذا الإِعجاب الساذج الذي يستوي فيه العامة.
صحيح أنَ أذني في تلك الأيام كانت قد التقطت من مجتمعات السمِّيعة أسماء المقامات: السيكاه والصبا والنهاوند والراست والبياتي والحجاز، ولكن كيف تنزل هذه المقامات على منازلها، وكيف يتصرف أهل الطرب فيها، وتلفت حولي في ذلك الزمان فلم أجد من عُني بالشيخ مصطفى وإخوانه من قراء القرآن سوى الأستاذ محمود السعدني في كتابه الذي أصدره في سنة 1959 م باسم (ألحان من السماء)، والأستاذ السعدني سميع كبير وصاحب قلم سيّال، ولكنه صاحب دعابة، وإغراقه في الدعابة يميل به أحياناً عما ينتظره أهل الجد من التحليل والغوص في الكشف والإِبانة، ولذلك لم أجد عنده شيئاً ذا بال عن الشيخ مصطفى، وكذلك نظرت فيما كتب عن أم كلثوم، فلم أجد وقتها إلا كتاب الدكتورة نعمات أحمد فؤاد، وقد شغلتني حلاوة بيانها عن كل شيء، والدكتورة نعمات صاحبة بيان آسر، وقلمها نديّ رقراق، ولكن الذي أريده عن أم كلثوم شيء آخر، فالذي قالته عن أم كلثوم لا يخرج عما قاله ابن الرومي في "وحيد" المغنية:
يسهل القول إنها أحسن الأشـ
…
ـياء طراً ويعسر التحديد
(ديوانه 763)
وظللت أتقلب في حيرتي وعجزي حتى أذن ربك بالفرج وجاءني اسم "كمال النجمي" من فم سميع كبير كنت أراه في جلسة الطرب القديم التي كان يقيمها معهد
الموسيقى العربية يوم الثلاثاء كل أسبوعين في أوائل الستينيات، وهذه الجلسة كان يشهدها حراس الطرب القديم، مثل عباس البليدي وعبده السروجي وطبقتهما، وأنماط غريبة من عجائز الرجال والنساء، شهود عصر النغم الذهبي في مصر المحروسة. ولعل جلسة الطرب هذه هي التي أوحت إلى الراحل الكبير عبد الحليم نويرة بفكرة "فرقة الموسيقى العربية" التي يرى بعض أهل زماننا من المتفلسفة أنها قامت لتغطية هزيمة 67، بالبحث عن أمجاد قديمة، وهو إغراق في التفلسف والهرطقة.
كاشفت ذلك السَّمَيع الكبير عن حيرتي في البحث عن محلل لصوت الشيخ مصطفى وأم كلثوم، فقال لي: عليك بكاتب عظيم اسمه "كمال النجمي" فستجد عنده ضالتك ومأمولك، وقمت من فوري ألتمس كتابات هذا الرجل، وجمعت ما تيسر لي منها وعكفت عليها، فانفتح أمامي باب ضخم من أبواب المعرفة النغمية والصوتية بكلام عال نفيس مباين لكل ما يكتبه الكاتبون في هذه الأبواب، وكان أول ما قرأته له كلام عن الأصوات العربية من الرجال، وكان مما قاله: إن أكمل الأصوات العربية من الرجال هو المطرب اللبناني وديع الصافي، ثم يليه مباشرة صوت الشيخ مصطفى إسماعيل، ثم قدم لذلك بشواهده ودلائله، وقد مكن هذا الكلام للشيخ مصطفى في نفسي، ثم دلني أيضاً على وديع الصافي، وكنت في غفلة عنه.
وهكذا ظللت أتتبع كلام النجمي عن المقامات الغنائية والمسارات اللحنية والفروق بين القراء بعضهم مع بعض، وكذلك أهل المغنى في التصرف بهذه المقامات والانتقال من بعضها إلى بعض، والقَفْلات والعَفْق والعُرَب، وطبقات الصوت، من الفرار والجواب وجواب الجواب.
ولقد يكتب بعض الناس عن هذه المصطلحات، ولكن يظل الفرق واضحاً بين ما يكتبونه وما يكتبه النجمي، إن النجمي صاحب خلفية فنية ضخمة، ثم هو يأوي إلى ركن شديد من المعرفة النغمية الممتدة الضاربة بعروقها في التاريخ. والشواهد على ذلك من كتاباته كثيرة، من أبرزها ما كتبه عن غناء زرياب والموصلي، ثم هذه السياحة الطويلة في كتاب أبي الفرج الأصبهاني "الأغاني"، ومن الدلائل أيضاً على
محصوله واطلاعه الواسع ما ذكره في شرح زجل "الشيخة زعزوعة" تلك الزجالة المصرية القديمة:
دواخل مصر في قاعه
…
حداهم بنت جنكِيَّة
وزعزوعة ترقصْهم
…
على شامي وشامية
يقول النجمي: "ولقولهم "دواخل" أصل قديم، ففي كتابه "شفاء الغليل" يقول مؤلفه: "المحدثون يسمون حسن الصوت دخولاً، ويسمون ضده خروجاًَ"، انظر كتابه: محمد عبد الوهاب ص 70.
وأقول: شفاء الغليل فيما في كلام العرب من الدخيل، من كتب المعرَّب في اللغة، ومؤلفه هو شهاب الدين أحمد بن محمد بن عمر الخفاجي المصري. توفي سنة 1069 هـ= 1659 م، ومن كتبه الكبار: عناية القاضي وكفاية الراضي، وهي حاشية على تفسير البيضاوي، وشرح درة الغواص للحريري، وريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا، وهو من رجال البعث والإِحياء والنهضة العربية في تلك الحقبة التي يسميها بعض أهل زماننا عصور الظلام!
ومن وراء ذلك كله فالنجمي شاعر، يعرف جمال الكلمة ويحسها ويتذوقها، والكاتب إذا اجتمعت له الأصول المعرفية والشاعرية، مع الصدق واستقامة القصد والترفع عن الدنايا وسفاسف الأمور، بلغت كتابته مبلغها، وانتهت إلى غايتها. وهكذا كان كمال النجمي وكانت كتاباته عن الأنغام والأصوات العربية: قديمها الذي جاء موصوفاً في الكتب، وحديثها الذي حفظته الأسطوانات والأشرطة. لقد كتب النجمي كثيراً، وحلل كثيراً، وسجل تاريخاً عزيزاً، ومن أبرز ما شهده وسجله بقلمه البديع: ذلك اليوم المشؤوم الحزين الذي احتبس فيه صوت الشيخ محمد رفعت وسط مستمعيه يوم الجمعة بمسجد مصطفى فاضل باشا بدرب الجماميز (بور سعيد الآن)، وما احسب أن أحداً سجل هذا اليوم الأسود غير كمال النجمي.
ومن أشهر ما كتب النجمي: أصوات والحان عربية، وسحر الغناء العربي، والغناء العربي من عصر زرياب إلى عصر أم كلثوم وعبد الوهاب، والغناء المصري: مطربون ومستمعون. والموجة الجديدة وما بعد الثمانينات، والشيخ مصطفى إسماعيل: حياته في ظل القرآن، ومحمد عبد الوهاب مطرب المائة عام. وهذا الكتاب لم يقف عند حدود محمد عبد الوهاب، فهو كشف عام عن الغناء والمغنين في مصر، فضلاً عما استطرد إليه من حديث كاشف عن أم كلثوم
…
إلى غير ذلك مما نثره في مقالات ذوات عدد بمجلة الهلال وغيرها من المجلات العربية.
ومن وراء ذلك الجهد الضخم في رصد وتحليل الغناء العربي كان للنجمي جهد آخر، تجلى في كتاباته بمجلة الهلال عن ظاهرة شعارير الحداثة وما بعد الحداثة، وقد سلقهم النجمي بألسنة حداد، وكشف ضعفهم وتهافتهم، وكان رحمه الله يربط ربطاً محكماً بين ظهور شعراء الحداثة، ومطربي الأغاني الهابطة.
وأقول: لقد صدق النجمي في هذا الربط. فما هو الفرق بين قول الشاعر الحداثي: "أتمضمض بالشمس وأحلب ثدي النملة. إني أعطس في شهر أغسطس. وبين قول ذلك المغني الهابط: "قزقز لبك على القهوة وخُشّ فْ عبي لا تستهوى"، إنها فجاجة وفساد يأخذ بعضه برقاب بعض!
وهناك جهد ثالث نهض به النجمي: وهو ذلك الباب الذي كان يصدر بمجلة الهلال باسم "لغويات"، فقد كان هو صاحبه ومحرره، ولقد ناقشته يوماً في بعض ما كتب فيه بمقالة في مجلة الهلال (أغسطس 1992) ثم ناقشته أيضاً في كتابه عن الشيخ مصطفى إسماعيل (يوليو 1992) فما ضاق بنقدي وما عاب عليَّ منه شيئاً، وهذا هو شأن العلماء الكبار.
وبعد: لقد مات كمال النجمي كما مات من قبله وكما يموت من بعده، فالموت حق لكن القرآن الكريم سمَاه: مصيبة، فقال تعالى: {الذين إذا أصابتهم
مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون} [البقرة: 156]، وقوله تعالى:{إن أنتم ضربتم فى الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} [المائدة: 106]- وإن كانت المصيبة في اللغة كل ما أصاب الإِنسان - وتعظم هذه المصيبة إذا كان الراحل يقف على ثغر من ثغور العلم ولا يقوم أحد مقامه، وما أكثر الثغور التي تسقط برحيل حراسها، ولقد عاش كمال النجمي حياته كلها حارساً أميناً من حراس الفن الراقي -كلمة مقروءة ونغمة مسموعة - يجلوه ويذود عنه.
إننا إذا رحل عنا عزيز نقول كما قال التابعي الجليل يوسف بن أسباط: "ذهب من يؤنس به ويستراح إليه"(صفة الصفوة لابن الجوزي 4/ 263). وما أحرانا إذا رحل عنا عالم أن نقول: اللَّهُمَّ عوضنا به خيراً، وهيئ لهذه الأمة رشدها، ثم نأمل الخير في الاستخلاف، ونتشبث بمثل قول العز بن عبد السلام:"ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجة"(البرهان في علوم القرآن للزركشي 1/ 379)، وبمثل قول الحافظ الذهبي:"ففي الناس بقايا خير"، (سير أعلام النبلاء 7/ 250).
ولا يبقى إلا رجاء: إلى دار الهلال، ثم إلى أولاد الراحل الكريم:
فأما الذي إلى دار الهلال: فهو أن تصدر الأعمال الكاملة لكمال النجمي، على أن يشمل ذلك كتبه المطبوعة بين دفتين، ثم مقالاته المتناثرة في الهلال والمصور والكواكب وغيرها.
وأما الذي إلى أولاده: فألا يفرطوا في أي قصاصة ورق تكون في مسودة من مسودات والدهم ويدفعوها إلى دار الهلال لنشرها، ثم رجاء آخر إلى هؤلاء الأولاد البررة، أن يحافظوا على مكتبة والدهم، وليعلموا أن أباهم كان يحب كتبه كما يحب أولاده، ولعله قد أخذ عليهم موثقاً في ذلك، وليس لي أن أقترح وجهاً من وجوه المحافظة على مكتبة الراحل العزيز، لكني أخشى أن تدفع إلى من لا يعرف قيمتها، أو أن تبقى حبيسة الأرفف والجدران تغتالها الأيام اغتيالاً.
وأنتم أيها الكتاب والمفكرون - أطال الله في النعمة بقاءكم - لا تغفلوا عن
حادثة الموت، وأخرجوا ما عندكم من علم ولا تضنوا ببذله لقرائكم أو تلاميذكم، ولا تنتظروا به الفرصة المناسبة والزمن المواتي فاني أعلم أن بعضكم يدخر الموضوع الفلاني للندوة الفلانية، والفكرة الفلانية للمؤتمر الفلاني، وتأملوا قول الله تعالى:{إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون} [نوح: 4].
لقد قلت غداة وفاة شيخنا محمود شاكر - برَّد الله مضجعه - إن الذي دفن في صدر محمود شاكر معه في قبره من العلم أضعاف ما أخرجه للناس.
رحم الله كمال النجمي رحمةَ واسعة سابغة، وإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوَة إلا بالله.
* * *