المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌وجهان للفعل الواحد: - مقالات الطناحي صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب - جـ ٢

[محمود محمد الطناحي]

فهرس الكتاب

- ‌هذه النقطة .. وقضية التصحيف والتحريف

- ‌التصحيف .. وتغيير التنقيط:

- ‌ ضوابط القراءة المقبولة

- ‌السيرة الذاتية .. والصدق مع النفس [1]

- ‌مثل قديم:

- ‌فائدة:

- ‌كل ما يعجبك، والبس ما يعجب الناس

- ‌الجزئي دون الكلي

- ‌صحة العقل:

- ‌السيرة الذاتية .. والصدق مع النفس [2]

- ‌الصراحة الكاشفة:

- ‌من حصاد الندوات:أولية الطباعة العربية في مصر

- ‌مطبعة بولاق:

- ‌ مجموع ما طبعته مطبعة بولاق، منذ إنشائها سنة 1821 م وحتى سنة 1878 م بلغ (603890) كتاباً

- ‌ تقييم أعمال مطبعة بولاق

- ‌أولاً: كان إنشاء محمد علي مطبعة بولاق متزامناً مع إرساله البعثات لتلقي العلم في أوروبا

- ‌ثانياً: يلاحظ في السنوات الأولى من نشاط مطبعة بولاق غلبة للكتب المترجمة في الشؤون الطبية والزراعية والهندسية وتدبير المعاش

- ‌ثالثاً: إن الذين قاموا على نشر كتب التراث بتلك المطبعة كانوا يستهدفون غاية ضخمة، هي إبراز كنوز الفكر العربي والإِسلامي

- ‌رابعاً: تزامن نشاط مطبعة بولاق مع الدعوة إلى العامية التي تولى أمرها تفر من الأجانب الذين حلوا بمصر

- ‌خامساً: أقدمت مطبعة بولاق في ذلك الزمان المبكر على طبع الموسوعات الضخمة

- ‌سادساً: حرصت مطبعة بولاق في كثير من منشوراتها على طبع كتاب أو أكثر بهامش الكتاب الأصلي

- ‌سابعاً: لم تكن مطبوعات بولاق كلها على نفقة الدولة، ففد رأينا جهود الأفراد والجماعات وأموالهم وراء كثير من مطبوعات تلك المطبعة العتيقة

- ‌المرحلة الثانية:مرحلة مطابع إدارات الجيش والمدارس الحكومية

- ‌المرحلة الثالثة: المطابع الأهلية

- ‌محمود محمد شاكر .. والتكريم المستحق

- ‌ شيخ العربية وحارسها: الإِمام أبو فهر محمود محمد شاكر

- ‌ولد شيخنا بمدينة الإِسكندرية يوم الاثنين العاشر من المحرم سنة 1327 ه

- ‌ خالط أبو فهر العربية منذ أيامه الأولى

- ‌ سارت حياة أبي فهر في طريقين استويا عنده استواء واضحاً عدلاً:

- ‌الطريق الأول طريق العلم والمعرفة

- ‌والطريق الثاني التنبه الشديد لما يحاك لأمتنا العربية من كيد ومكر

- ‌وقد حارب أبو فهر في جهات كثيرة، وخاض معارك كثيرة:

- ‌النحو العربي .. والحِمى المستباح [1]

- ‌كتاب سيبويه والقياس:

- ‌مقتضى المعنى وحق الإِعراب:

- ‌وجهان للفعل الواحد:

- ‌اللغة ليست هي النحو:

- ‌الفرق بين الرفع والنصب:

- ‌ضعف الحجة:

- ‌مظاهر الاهتمام بالنحو:

- ‌النحو العربي .. والحِمى المستباح [2]

- ‌الاهتمام بالنحو كان متزامناً مع النهضة العامة التي كانت آخذة في النمو والاتساع

- ‌الاستشهاد بالشعر:

- ‌كلام فظيع جداً:

- ‌اختلاف الألسنة:

- ‌(تحقيق):شاعت عن ابن خلدون في حق ابن هشام كلمة تناقلها مترجموه، وهي قوله: "ما زلنا ونحن بالمغرب نسمع أنه ظهر بمصر عالم بالعربية، يقال له ابن هشام، انحى من سيبويه

- ‌تعمق مذهب النحاة:

- ‌هجوم وازدراء:

- ‌هل أدلّكم على تجارة

- ‌نهر العطاء:

- ‌تفاصيل المشروع:

- ‌غياب الكتاب العربي:

- ‌مكتبة العرب:

- ‌محمود محمد شاكر ..ومنهجه في تحقيق التراث

- ‌أعلام في ميدان التحقيق:

- ‌أصل في علم البلاغة:

- ‌الشيخ واللغة:

- ‌تصحيح الكلام:

- ‌تصحيح رواية الشعر:

- ‌الحضارة العربية:

- ‌مواضع للنقد:

- ‌السند المتصل:

- ‌مناقشات مهمة:

- ‌الشيخ محمود شاكر .. وتاريخ ضخم

- ‌محمود شاكر .. والديار التي خلت

- ‌أجمل كتاب في حياتي:"البيان والتبيين"، للجاحظ

- ‌أسس حضارة فتية:

- ‌التصاق الفن بالنفس:

- ‌ترك الأستاذ على جهله:

- ‌كتاب شامل للحضارة العربية:

- ‌أيُّ شلَاّل هادر توقَّف

- ‌تاج العروس" .. والزمن البعيد

- ‌مطبعة للمنشورات .. وليست للثقافة

- ‌كمال النجمي .. والثغور التي تتساقط

- ‌الناشرون الأوائل .. وسماحة مصر

- ‌الآي تترى

- ‌الشيخ الشعراوي .. والموازين الصحيحة

- ‌فهم النص واستيعابه:

- ‌مبالغات:

- ‌لم يعاد يوسف إدريس:

- ‌موقف غريب

- ‌الشيخ الشعراوي .. والفتنة بما يقوله الكبار

- ‌أنوار اليقين:

- ‌صنعة أم صبغة

- ‌حفظ القرآن:

- ‌دلائل لغوية:

- ‌قراءات ربانية:

- ‌مآخذ على الزركلي:

- ‌إنكار حرب رمضان وشماتة لا تليق:

- ‌سقطات:

- ‌ملاحظات تفصيلية:

- ‌محمود محمد شاكر

- ‌محمود محمد شاكر .. والسِّهام الطائشة

- ‌القرآن الكريم .. وتفسير العوام

- ‌فقه التفسير:

- ‌غاية دينية:

- ‌تفسير العلوم:

- ‌علي الجارم…لغوياً نحوياً

- ‌الجارم لغوياً ونحوياً:

- ‌تراثنا .. رحلة شاقة

- ‌مراحل النشر:

- ‌المرحلة الأولى لنشر التراث:

- ‌المرحلة الثانية: (مرحلة الناشرين النابهين):

- ‌المرحلة الثالثة: (مرحلة دار الكتب المصرية):

- ‌المرحلة الرابعة: (مرحلة الأفذاذ من الرجال):

- ‌بنت الشاطئ .. وتحقيق التراث

- ‌هل هو علم الرجال

- ‌مرحلة النشر العلمي:

- ‌الإرث العظيم:

- ‌الرسائل الجامعية .. و .. ساعة ثم تنقضي

- ‌حديث عجيب:

- ‌لا يجوز:

- ‌مقالات قصيرةبعنوان:الكلمة الأخيرة

- ‌المؤتمرات العلمية…والنغمة المكرورة

- ‌الجزار الثالث

- ‌العامية في مهرجان أمير البيان

- ‌ما المسؤول عنها بأعلم من السائل

- ‌أبي يغزو…وأمي تحدث

- ‌الندواتية

- ‌موائد الرحمن

- ‌جلال معوض .. وزمن الورد

- ‌زاحم بعود أو فدغ

الفصل: ‌وجهان للفعل الواحد:

النظم هي مجلى ذلك الربط، وبتأمل هذه النظرية نستطيع أن ندرك أن المنهج العقلي المحكم الذي سار عليه عبد القاهر "هو الذي قاده إلى اعتماد النحو التقعيدي (نحو الصنعة) أساساً لإِدراك القيمة الحقيقية للصياغة، وما يمكن أن يتيحه هذا النحو من إمكانات تركيبية تقترب من الإِنسان ومقاصده الواعية"، كما قال الدكتور محمد عبد المطلب في كتابه قضايا الحداثة عند عبد القاهر الجرجاني ص 286.

ومما ينبغي التنبه له أن عبد القاهر الجرجاني هذا مع شهرته الواسعة في البلاغة بكتابيه دلائل الإِعجاز وأسرار البلاغة، يُعرف عند الأقدمين بعبد القاهر النحوي.

فهذا النحو القائم على رعاية التراكيب والدلالات في الكلام العربي الملفوظ والمكتوب هو النحو الذي ينبغي معرفته وتأمله والاستكثار منه؛ لأنه بهذا المفهوم مِلاك العربية وقِوامها، بل إنه كان يعبر عنه أحياناً في القديم بالعربية، حكى ابن جني عن أبي العباس ثعلب، قال:"وكان يعقوب - يعني ابن السكيت - وضيئاً عظيم الخَلْق، وكان ذكياً حافظاً عالماً بالشعر واللغة، صالح المعرفة بالعربية، وكان ابن قادم وغيره من أصحابنا يحتاجون إليه في الشعر واللغة، ويحتاج هو إليهم في العربية"، (الخاطريات ص 198)، وكذلك عبر ابن خلدون عن النحو بعلم العربية. (انظر: مقدمة ابن خلدون ص 532).

‌وجهان للفعل الواحد:

ومن الشواهد على سلطان النحو على اللغة ما ذكره أبو حيان التوحيدي قال: "سمعت في مجلس أبي سعيد - يعني السيرافي - شيخا من أهل الأدب يقول: ومن الأفعال ما له وجهان، كشيء ينصرف على معنيين: مثل: أصاب عبدُ الله مالاً، وأصاب عبدَ الله مالٌ، إذا أصابه مال من قسمة، ووافق زيد حديثَنا، إذا صادفهم يتحدثون، ووافق زيداً حديثُنا، إذا سره وأعجبه، وأحرز زيدٌ سيفَه، إذا صانه في غمده، وأحرز زيداً سيفُه، إذا خلّصه من القتل وشبهه. ولو قلت: أحرز امرؤ أجلَه لم يجز؟ لأن الرجل لا يحرز أجله، ولكن أجله يُحرزه، إلا أن تذهب إلى قولك: أحرزت أجلي بالعمل الصالح.

ص: 442

ثم يقول أبو حيان: انظر - فديتك - إلى أثر النحو في هذا القدر اليسير، وتعجب عنده من أبي حنيفة الصوفي حين قال لك: إن الله عز وجل أمرنا بالطاعة والإِيمان، وإنه لم يأمرنا بالنحو، وإلا فهاب أنه يدل على أنه أمرنا بأن نتعلم "ضرب عبد الله زيدا"، وقد رأيت روغانه عن تحصيل الحجة في معرفة ذلك: ألا يعلم أن الكلام كالجسم والنحو كالحلية وأن التمييز بين الجسم والجسم إنما يقع بالحلى القائمة والأعراض الحالّة فيه، وأن حاجته إلى حركة الكلمة بأخذه وجوه الإِعراب حتى يتميز الخطأ والصواب، كحاجته إلى نفس الخطاب، وليس على كلامه قياس، ولا في ركاكة بني جنسه التباس، وإنما غرَّه من هو أنقص منه فطرة، وأخس نظراً وفكرة، أتراه يصل إلى تخليص اللفظ المبني على معنى دون اللفظ المبنى على معنى آخر، إلا بحفظ الأسماء وتصريفها؟ أو تراه يقف على تحصيل المعنى المدفون في هذا اللفظ دون المعنى المدفون في هذا اللفظ إلَّا بتمييز وجوه حركات اللقط؟ "، (البصائر والذخائر 1/ 179 - 180).

وفي هذا النص - فوق ما أوردته له - إشارة إلى ضيق بعض الناس بالنحو من قديم، وهذا مما يرجع إلى ضعف الهمم وقصور الخطى ليس غير، على نحو ما قال ربنا عز وجل:{وإذ لم يهتدوا فسيقولون هذا إفك قديم} [الأحقاف: 11]، فما ينبغي أن يتخذ مثل ذلك حجة على اطراح النحو أو إهماله.

على أن مثل "أبي حنيفة الصوفي" هذا لا ينبغي أن يهتم برأيه في النحو واستصعابه له، وذلك لجهالة شأنه وخفوت ذكره، أما أن يأتي شاعر ضخم مثل الفرزدق فيسخر من قواعد النحو، فيما أجاب به عبد الله بن أبي إسحاق الحضرمي، في القصة المشهورة، وقوله:"علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا"، أو أن يؤثر عن الفيلسوف الشهير "ابن الراوندي - على زندقته وإلحاده - طعن في النحو ونقض على النحويين، فهذا الذي ينبغي الوقوف عنده والاحتفال به، وقد قلت رأيي في قصة الفرزدق تلك، في الهلال (ديسمبر 1992 م)، وانتهيت يومئذ إلى أن قول الفرزدق وقول سواه من الشعراء الذين أظهروا سخطهم على النحو وقواعده إنما هو

ص: 443

من باب المعابثة والاستطالة بالذكاء، وكأنهم يريدون أن يقولوا: إن نحوكم أيها النحاة صنعة، ونحونا فطرة، وآية ذلك أن شعرهم الذي حمل سخريتهم من النحاة ليس فيه شيء خارج عن النظام النحوي، أو خارق لقواعده، وكأنها سخرية بالنحاة لا بالنحو.

ومع هذا المأثور عن الفرزدق من استخفافه بالنحاة وخروجه أحياناً قليلة عن النظام النحوي، فقد بقي جمهور شعره على الجادة النحوية، وظل مدداً ثريّاً للنحاة، ينتزعون منه شواهدهم في الدرس النحوي واللغوي والصرفي والصوتي.

وأما "ابن الراوندي" أحمد بن يحيى بن إسحاق (298 هـ) الفيلسوف المعروف، والزنديق المجاهر بالإِلحاد، فقد عرف عنه الطعن على النحويين، وذلك ما ذكره أبو حيان التوحيدي قال:"وأما قوله - يعني أبا حنيفة الصوفي -: فقد نقض على النحويين ابن الراوندي نحوهم، فإنه ذاهب بهذا القول عن وجه الرشد؟ لأن ابن الراوندي لا يلحن ولا يخطئ، لأنه متكلم بارع، وجهبذ ناقد، وبحاث جَدِل، ونظار صبور، ولكنه استطال باقتداره على علل النحويين، ورآها مفروضة بالتقريب، وموضوعة على التمثيل؟ لأنها تابعة للغة جيل من الأجيال، ومقترنة بلسان أمة من الأمم، فلم يكن للعقل فيها مجال إلا بمقدار الطاقة في إيضاح الأمثال وتصحيح الأقوال"، (البصائر والذخائر 1/ 181).

وهذا النص مهم جدا، وهو شاهد صريح على ما قلته أنا منذ أربع سنوات بمجلة الهلال، من أن الذين يهاجمون النحو قديماً لا يلحنون ولا يخطئون، وإنما هو الضيق بنحو الصنعة ليس غير، و "علل النحويين" التي ذكرها أبو حيان، إنما هي من أبرز نحو الصنعة، ومن التوافق العجيب أن هذا النص الشاهد لما قلته قد جاء فيه لفظ "الاستطالة" أيضاً، وقد استعملته أنا وصفاً لموقف الفرزدق من النحاة، واستعمله أبو حيان وصفاً لموقف ابن الراوندي من النحاة أيضاً.

وضح إذن أن النحو نحوان: نحو الصنعة، ونحو التراكيب، فالأول هو النظام

ص: 444

والقواعد والتعريفات والقوالب، وما صحب ذلك كله من العلة والعامل، ولبعض خلق الله الحق في أن يضيقوا بالنحو على هذا الوصف؟ لأن فيه أحياناً ما يكد الذهن ويصدع الرأس، مع ما في بعض النحويين قديماً وحديثاً من ثقل وغثاثة، ولكنه على كل حال علم ينبغي أن يعرف ويحاط به.

والنحو الثاني: نحو التراكيب، وهو الذي اتكأ على النظام وانطلق منه إلى إدراك العلائق بين أجزاء الكلام، وتلك المنادح الواسعة التي ذكرتها من قبل، وهذا تستطيع أن تدركه من أول كتاب سيبويه إلى النحو الوافي لعباس حسن، على تفاوت بين النحاة في ذلك، وتستطيع أن تدركه أيضاً في كتب أعاريب القرآن وتوجيه القراءات السبع والعشر والشواذ، وشروح الحديث النبوي وفي شروح الشعر وكتب الأمثال وعلوم البلاغة. والنحو بهذا الوصف لا يصح أن يُطعن فيه أو يُنتقص منه، لأن الطاعن فيه منتقص للعربية كلها، ذاهب عنها جميعها.

ومن أعجب العجب أننا لا ننتبه لمناطق العظمة في تراثنا إلا إذا نبَّهنا إليها غيرنا من الطارئين على ثقافتنا وفكرنا، وهم طائفة من المستشرقين الجادين الذين عملوا بإخلاص وتفان في الكشف عن كنوزها وإبرازها، فحين التفتوا إلى ابن جني وعبقريته الفذة التفتنا نحن أيضا إليه، ويوم أن خرج اللغوي الأمريكي المعاصر "تشومسكي" بنظريته في النحو التحويلي التوليدي، وما قاله عن "البنية العميقة" و "البنية السطحية" فرح كثير من المشتغلين بالدراسات النحوية عندنا، وقالوا: إن ذلك يتشابه مع كثير مما قدمه النحويون العرب القدماء في معالجتهم لتفسير الجمل في العربية، وجهد بعضهم في المقارنة بين جهود عبد القاهر الجرجاني وجهود تشومسكي في هذا السبيل، ويرد الدكتور محمد حماسة عبد اللطيف ذلك فيقول:"ومهما تكن أسباب هذا التشابه أو التقارب في أسس المعالجة فإنه ينبغي ألا نعد ذلك من جانبنا شهادة للنحو العربي، بل قد أبالغ فأقول وبغير تواضع كاذب أو إدعاء خادع إن العكس هو الصحيح، أي أن هذا التقارب أو التشابه قد يعد شهادة لنظرية تشومسكي"، (من الأنماط التحويلية في النحو العربي ص 6).

ص: 445