الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الأعراف: من الآية 54]، {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] إنما قوله لشيء إذا أراد أن يكون أن يقول له: كن فيكون، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، وهو سريع الحساب" (1).
وقال في موضع آخر: "والغرض هاهنا أنه لا يُمرض إلا الله، ولا يُعافي سواه، ولا يحيي ولا يميت إلا إياه، وهذه الأسباب التي تحصل منها التأثيرات من حمة وسقم كلها خلق من خلق الله، جارية بمشيئته وواقعة بإرادته، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين، وكل يجري لأجل مسمى ليقضي الله أمراً كان مفعولاً"(2).
المناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي:
إن كل معاني لفظ الرب في اللغة صادقة على الله سبحانه وتعالى، فهو المالك لها، والسيد عليها، والمدبر لمصالحها، والقائم بحفظها، والمؤلف بينها، لا يشاركه فيها أحد من خلقه، تعالى
الله الواحد الفرد الصمد.
المطلب الثاني: منهج جمال الدين السرمري في تقرير توحيد الربوبية:
1 - أدلة توحيد الربوبية:
قرر جمال الدين السرمري رحمه الله أن الإيمان بوجود الله قد دلت عليه بعثة الأنبياء وآياتهم، ونفى أن يكون الدليل العقلي متقدم عليها كما يزعم أهل الكلام، بل إنه أبطل دلالة العقل من القياس في الرب على معرفة الله، وقرر أنه لا يحصل للعقل من القياس في الرب إلا
(1) كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون، ص 57.
(2)
كتاب فيه ذكر الوباء والطاعون، ص 36.
العلم بالسلب، والعدم؛ إذا كان القياس صحيحاً، يقول رحمه الله:
ويكفي سُواي أنه متمسك
…
بتعليم علم المنطق السَّيئِ النَّشْرِ
عقيدته أن الكتاب وسُنَّـ
…
ـة النَّبي معاً ليسا دليلاً على أمْرِ
ولكن دليلُ الأمر والنَّهي عنده
…
نتيجةُ أفكارٍ على عقله يحري
وذاك دليلٌ في الشريعةِ باطِلٌ
…
لأنّا عرفنا الله بالنَّقل لا الفِكْرِ
ومعرفةُ الرحمن بالعقل فِريَةٌ
…
عليه وليس العُرْفُ بالشيء كالنُّكرِ
وما قرره جمال الدين السرمري رحمه الله هو قول الأئمة في هذا الباب، فأما كون أن العقل لا يحصل له من القياس في الرب إلا السلب فقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: "لكن هذا القدر يعرف انتفاء غيره أن يكون إياه، وأما عينه فلا يعرف بمجوع تلك القضايا الكلية، فلا يحصل للعقل من القياس في الرب إلا العلم بالسلب، والعدم؛ إذا كان القياس صحيحاً. ولهذا جاءت الأمثال المضروبة في القرآن -وهي المقاييس العقلية- دالة على النفي في مثل قوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ
…
} الآية [الروم: 28] ومثل قوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ
…
} الآيات [النحل: 76] وقوله:
{يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ
…
} الآية [الحج: 73] وقوله: {قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ
…
} الآية [الإسراء: 42] وقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: من الآية 91] وأمثال ذلك من الأمثال -وهي القياسات- التي مضمونها نفي الملزوم لانتفاء لازمه، أو نحو ذلك؛ ولهذا كان الغالب على أهل القياس من أهل الفلسفة، والكلام، في جانب الربوبية: إنما المعارف السلبية" (1).
وأما أن الإيمان بوجود الله قد دلت عليه بعثة الأنبياء وآياتهم فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "قال القاضي أبو يعلى في عيون المسائل: [مسألة] ومثبتو النبوات حصل لهم المعرفة بالله
(1) مجموع الفتاوى (2/ 61 - 62).
تعالى بثبوت النبوة من غير نظر واستدلال في دلائل العقول، خلافاً للأشعرية في قولهم: لا تحصل حتى تنظر وتستدل بدلائل العقول
…
وقال البيهقي في كتاب الاعتقاد ماذكره الخطابي أيضاً في "الغنية عن الكلام وأهله": وقد سلك بعض من بحث في إثبات الصانع وحدوث العالم طريق الاستدلال بمقدمات النبوة ومعجزات الرسالة، لأن دلائلها مأخوذة من طريق الحس لمن شاهدها، ومن طريق استفاضة الخبر لمن غاب عنها، فلما ثبتت النبوة صارت أصلاً في وجوب قبول ما دعا إليه النبي، وعلى هذا الوجه كان إيمان أكثر المستجيبين للرسول؛ وذكر قصة جعفر وأصحابه مع النجاشي، وقصة الأعرابي الذي قال: من خلق السماء، وغير ذلك. -ثم قال شيخ الإسلام-: وأما الطريقة التي ذكرها المتقدمون فصحيحة إذا حررت، وقد جاء القرآن بها في قصة فرعون فإنه كان منكراً للرب، قال تعالى:{فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا} [الشعراء: 16 - 18]-إلى قوله-: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي
لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الشعراء: 23 - 33] فهنا قد عرض عليه موسى الحجة البينة التي جعلها دليلاً على صدقه في كونه رسول رب العالمين، وفي أن له إلهاً غير فرعون يتخذه. وكذلك قال تعالى:{فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [هود: من الآية 14] فبين أن المعجزة تدل على الوحدانية والرسالة" (1).
وقال في موضع آخر: "قيل لابن عباس: بماذا عرفت ربك؟ فقال: من طلب دينه بالقياس لم يزل دهره في التباس، خارج عن المنهاج، ظاعناً في الاعوجاج، عرفته بما عرف به نفسه،
(1) مجموع الفتاوى (11/ 277 - 279).
ووصفته بما وصف به نفسه؛ فأخبر أن معرفة القلب حصلت بتعريف الله: وهو نور الإيمان، وأن وصف اللسان حصل بكلام الله: وهو نور القرآن" (1).
وقال ابن القيم: "وهذه الطريق -يعني دلالة بعثة الأنبياء وآياتهم على وجود الله- من أقوى الطرق وأصحها وأدلها على الصانع وصفاته وأفعاله، وارتباط أدلة هذه الطريق بمدلولاتها أقوى من ارتباط الأدلة العقلية الصريحة بمدلولاتها، فإنها جمعت بين دلالة الحس والعقل، ودلالتها ضرورية بنفسها، ولهذا يسميها الله آيات بينات"(2).
وبيان هذا الدليل من وجهين:
الوجه الأول: الآيات والبراهين -وهي المعجزات:
من المعلوم أن الرسول إذا جاء قومه وادعى أنه رسول الله يُوحَى إليه بأنه لا إله إلا الله، أيده الله وصدقه بآية، فههنا أمور:
الأول: دعواه أنه رسول.
الثاني: أن الله هو الذي أرسله سواء كان المُخاطَب يقر بوجوده أو لا يقر.
الثالث: أنه مرسل لدعوة الناس إلى إفراد الله بالألوهية.
فإذا جاء الرسول بآية وهي العلامة التي تدل على صدقه ثبتت الرسالة وكذلك الربوبية ضمناً.
الوجه الثاني: العلوم والأحكام المتضمنة لمصالح الخلق التي جاءوا بها:
أولا: العلوم:
لا يُعقل أن يتحدث الإنسان ويخبر بأشياء غيبية ويصدق فيها دائماً دون تردد، ودون أن يجرب عليه كذب إلا إذا كان مُوحى إليه، فيدل ذلك على صدقه في الرسالة، وعلى وجود الخالق سبحانه، لأنه هو الذي أطلعه على ذلك.
(1) مجموع الفتاوى (2/ 18).
(2)
الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة (3/ 1197).