الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يكبر ويعظم شأنها على من اتبعها نفسه، واشتغل بها، وأكثر العناية بها، وتذهب وتضمحل عمن لم يلتفت إليها، ولا ألقى إليها باله، ولا شغل بها نفسه وفكره، واعلم أن من كان معتنياً بها، قائلاً بها، كانت إليه أسرع من السيل إلى منحدره، وتفتحت له أبواب الوساوس فيما يسمعه ويراه ويعطاه، ويفتح له الشيطان فيها من المناسبات البعيدة والقريبة في اللفظ والمعنى ما يفسد عليه دينه، وينكد عليه عيشه. . . " (1).
قال ابن رجب رحمه الله: "والطيرة من أعمال أهل الشرك والكفر، وقد حكاها الله تعالى في كتابه عن قوم فرعون، قوم صالح، وأصحاب القرية التي جاءها المرسلون"(2).
ب- التبرك الممنوع:
- مفهوم التبرك:
التبرك: مصدر تبرَّك يتبرَّك تبرُّكاً، وهو طلب البركة، والتبرك بالشيء طلب البركة
بواسطته (3).
وأصل البركة: الثبوت واللزوم، قال ابن فارس رحمه الله:"بَرَكَ: الباء والراء والكاف أصل واحد، وهو ثبات الشيء، ثم يتفرع فروعاً يقارب بعضها بعضاً"(4).
وتطلق أيضاً على النماء والزيادة، جاء في كتاب جمهرة اللغة:"يقال: لا بارك الله فيه: أي لا نمّاه"(5).
وفي معجم مقاييس اللغة: "قال الخليل: البركة من الزيادة والنماء"(6).
(1) مفتاح دار السعادة ومنشور ولاية العلم والإرادة (2/ 229 - 230)، لابن القيم، دار الكتب العلمية، بيروت.
(2)
لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف ص 142، لابن رجب الحنبلي، تحقيق: ياسين السواس، الطبعة الخامسة 1420، دار ابن كثير، دمشق.
(3)
التبرك أنواعه وأحكامه ص 30، لناصر الجديع، الطبعة الخامسة 1421، مكتبة الرشد، الرياض.
(4)
معجم مقاييس اللغة (1/ 227).
(5)
جمهرة اللغة (1/ 325)، لابن دريد، تحقيق: رمزي بعلبكي، الطبعة الأولى 1987 م، دار العلم للملايين، بيروت.
(6)
معجم مقاييس اللغة (1/ 230).
وتطلق أيضاً على السعادة، قال الفراء في قوله تعالى:{رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: من الآية 73] قال: "البركات: السعادة"(1).
وقال أبو منصور الأزهري بعد ذكره قول الفراء: "وكذلك قوله في التشهد: (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته)، لأن من أسعده الله بما أسعد به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد نال السعادة المباركة الدائمة"(2)، وأما معنى السعادة فهي التوفيق للخير (3).
أما التبرك الممنوع: طلب حصول الخير بمقاربة شيء وملابسته بما لم يقم عليه دليل من الشرع.
- صورة التبرك الممنوع:
للتبرك الممنوع صور عديدة، لكن الصورة التي تطرق لها جمال الدين السرمري رحمه الله هي: التبرك بقبور الصالحين، قال جمال الدين السرمري رحمه الله بعد كلامه عن التداوي
بالأتربة: "وإذا كان هذا في هذه التربات فما ظنك بأطيب تربة على وجه الأرض وأبركها، وقد خالطت ريق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقارنت رقيته باسم ربه وتفويض الأمر إليه
…
وأبلغ من هذا ما رأيته من شيخنا الصالح تقي الدين محمد بن إبراهيم الخالدي (4)، فإنه جاء إليّ يوماً ومعه قليل من طين من قبر الإمام أبي عبدالله أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، فقال لي: كنت في زيارة الإمام، وقد أخذت هذا من طين قبره، وهو مشدود في طرفي منديله، فقلت: ما تصنع به؟ فقال: أداوي به عيني، فإن لي مدة ما تشتكي عيني إلا أخذت من تراب قبره فاكتحلت به، فأبرأ بإذن الله؛ وأظن أنه أثر مثل هذا عن بعض أشياخه، فإذا كان تراب قبر الإمام أحمد يبرئ أمراض العين، فما ظنك بتراب قبر سيد الرّسل وأفضل الخلق عليه الصلاة
(1) معاني القرآن (2/ 23)، لأبي زكريا الفراء، تحقيق: أحمد نجاتي ومحمد نجار وعبدالفتاح شلبي، دار المصرية، مصر.
(2)
تهذيب اللغة (10/ 131)، لأبي منصور الأزهري، تحقيق: محمد عوض مرعب، الطبعة الأولى 2001 م، دار إحياء التراث العربي، بيروت.
(3)
التبرك أنواعه وأحكامه ص 25 - 27، لناصر الجديع.
(4)
تقدمت ترجمته في شيوخ السرمري.
والسلام، فحينئذٍ إما أن يكون نفع هذه الأطيان بالطبع أو بالبركة الحاصلة فيها بمن أثر فيها أو بهما، فإن كان الأول فلا شك أن للبقاع من الأرض خواص ومنافع كالأتربة والمعادن وما يتولد فيها، إن كان الثاني فضيلة بركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أشهر وأظهر من أن يحتاج إلى أدلة، وكل ذلك إن كان منهما، وبركة الإمام أحمد قد ثبتت من غير وجهٍ في حياته وبعد وفاته
…
" (1).
وقال في موضع آخر: "فما ظنك بتربة هي أطيب تربة على وجه الأرض وأبركها، وقد خالطت ريق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وقارنت ريقه باسم ربه وتفويض الأمر إليه، ولا يستعب الشفاء ببعض الترب المضافة إلى بعض الأنبياء والصالحين والأئمة على هذا التقدير، فقد دخل علي بعض شيوخنا ببغداد، وكان في زيارة قبر الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وفي منديل الشيخ شيء مصرور، فقلت: ما هذا؟ فقال: شيء من تربة قبر الإمام أحمد، فقلت: ما يفعل به، فقال: اكتحلت به، فقلت: وهل يكتحل بالتراب؟ فقال: إني منذ سنين ما ترمد عيني إلا اكحلها بتراب قبره فتبرأ؛ وأظنه أثر مثل ذلك عن بعض شيوخه، وقد بعد عهدي
بالحكاية" (2).
وقد أعاد نفس الحكاية في موضع آخر بعد ذكره حديث «تربة أرضنا، بريقة بعضنا، تشفي سقيمنا، بإذن ربنا» فقال: "وإذا كان قد تبرك بتراب قبر بعض صالحي أمته واستشفى به من الرمد ونحوه كما ذكرنا عن بعض مشائخنا أنه كان يستشفي من وجع عينيه بتراب قبر الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه، فتراب أرض قبره فيها الأولى وأحرى أن يكون شفاء من كل داء، والله أعلم"(3).
وما قرره جمال الدين السرمري رحمه الله من فضل التداوي بتربة قبور الصالحين لتناله بركتهم غير صحيح، ومحل التبرك الممنوع في كلام جمال الدين السرمري ليس التداوي بالتراب، وإنما
(1) شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 156 ب - 157 أ.
(2)
شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 303 أ.
(3)
شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 258 ب.
تفضيل تربة قبور الصالحين على سائر الأتربة بالتداوي، وهذا من التبرك الممنوع المخالف لمنهج أهل السنة والجماعة من عدة أوجه:
أ- أن هذا التبرك لم يرد فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم ينقل عن الصحابة، ولا عمن تبعهم بإحسان، وإنما فعله بعض المتأخرين من غير دليل شرعي.
ب- أن ذلك ناشئ عن اعتقاد في ذات صاحب ذلك القبر أنها سبب للنفع، ولم يجعلها الله سبباً شرعياً ولا قدرياً في هذا المسبب -الاستشفاء بها من الرمد-.
ج- أن في المنع من ذلك سداً لذريعة الغلو في قبور الصالحين.
قال العلامة حافظ الحكمي في الاستشفاء بتربة القبور: "تربة القبور وما أكثر ما يستشفى بها لا شفاهم الله، واستعمالهم لها على أنواع: فمنهم من يأخذها ويمسح بها جلده، ومنهم من يتمرغ على القبر تمرغ الدابة، ومنهم من يغتسل بها مع الماء، ومنهم من يشربها، وغير ذلك، وهذا كله ناشئ عن اعتقادهم في صاحب ذلك القبر أنه ينفع ويضر، حتى عدوا ذلك الاعتقاد فيه إلى تربته، فزعموا أنها فيها شفاء وبركة لدفنه فيها، حتى إن منهم من يعتقد في تراب بقعة لم
يدفن فيها ذلك الولي بزعمه، بل قيل له: إن جنازته قد وضعت في ذلك المكان، وهذا وغيره من تلاعب الشيطان بأهل هذه العصور، زيادة على من تلاعب بمن قبلهم، نسأل الله العافية" (1).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما التمسح بقبر النبي صلى الله عليه وسلم وتقبيله فكلهم -أي الفقهاء- كره ذلك ونهى عنه، وذلك لأنهم علموا ما قصده النبي صلى الله عليه وآله وسلم من حسم مادة الشرك، وتحقيق التوحيد وإخلاص الدين لله رب العالمين"(2).
وقد أنكر الإمام أحمد إنكاراً شديداً على من تمسح به طلباً للبركة بله بمن يتبرك بتربة قبره: "روى الخلال في أخلاق أحمد عن علي بن عبدالصمد الطيالسي قال: مسحت يدي على
(1) معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول (2/ 498 - 499).
(2)
مجموع الفتاوى (27/ 80).