الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
عصر جمال الدين السرمري
قبل الحديث عن ترجمة الإمام جمال الدين السرمري، لابد من نبذة مختصرة عن عصره، فإن الظروف التي تحيط بالشخص، والبيئة التي يعيش فيها، لهما أثر كبير في تكوين حياته، وطبعها بطابع خاص، وذلك لأن الإنسان كما يقال: ابن بيئته، فيتأثر - غالباً - بما يدور حوله من أحداث سياسية وحروب ونزاعات، كما يتأثر بالوضع الإجتماعي والعلمي.
ولما لهذه الجوانب من أثر في حياة العالم أو إنتاجه العلمي، فإني سألقي الضوء باختصار على أهم هذه الجوانب.
المطلب الأول: الحالة السياسية:
لقد ولد وعاش جمال الدين السرمري في أوضاع سياسية قلقة وغير مستقرة، فقد مُني العالم الإسلامي في هذه الفترة بأحداث جسام، كان من أبرزها:
1 - سقوط مدينة بغداد عاصمة الخلافة العباسيّة:
كانت الخلافة الإسلامية في بغداد قبل وصول التتار (1) قد تداعت أركانها، ولم يكن زمام الأمور في بغداد في يد واحدة، فكان الوزراء كل منهم ينقم على الآخر.
وكان سكان بغداد من أهل السنة والشيعة والنصارى واليهود، وبينهم من الخلاف الشيء الكثير.
(1) التتار: شعب بدوي يعيش بأطراف بلاد الصين، وهم سكان البراري، ومشهورون بالشر والغدر، يعبدون الكواكب، ويسجدون للشمس أثناء شروقها، وتنتشر عندهم الإباحية، وتعرف ديانتهم القديمة بالشامانية، يقدمون الأضاحي لبعض الحيوانات الشريرة، ويقدسون أرواح الأجداد، والتتار هم أصل القبائل المتفرعة عنهم جميعاً من مغول وترك وسلاجقة وغيرهم، ولما سيطر المغول أيام جنكيز خان على قبائل التتار شمل الجميع اسم المغول، ولما سيطر التتار أيام تيمور لنك شمل الجميع اسم التتار. انظر: التاريخ الإسلامي (6/ 329)، محمود شاكر، الطبعة السادسة 1421، المكتب الإسلامي.
في هذه الظروف كان الوزير الشيعي ابن العلقمي (1) يدير مؤامرة كبرى للقضاء على دولة الخلافة، وإبادة أهل السنة، وإقامة دولة على مذهب الشيعة الرافضة، فاستغل منصبه، وحظوظه عند الخليفة، وبدأ ينفث سمومه رويداً رويداً في قلب الخلافة العباسية ليضعفها، وقد حاك خيوط المؤامرة بوسائل متعددة، ومن أهمها (2):
1 -
تقليل قوام الجيش:
قال ابن كثير رحمه الله: "وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرف الجيوش وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر -والد المستعصم- قريباً من مائة ألف مقاتل
…
فلم يزل يجتهد في تقليلهم إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف" (3).
2 -
معاداة أهل السنة:
فقد زادت تحركات العناصر الشريرة في الدولة تحت وصاية الوزير ابن العلقمي ضد علماء السنة وأكابر البلد (4).
3 -
اتصالات سرية مع العدو:
قال ابن كثير عنه: "كاتب التتار وأطمعهم في أخذ البلاد وسهل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال، وذلك كله مطمعاً منه أن يزيل السنة بالكلية، وأن يظهر بدعة الرافضة، وأن يقيم خليفة من الفاطميين، وأن يبيد العلماء والمفتين
…
" (5).
وكان يناصره في هذه الخيانة نصير الشرك الطوسي (6).
(1) محمد بن أحمد (أو محمد بن محمد بن أحمد) بن علي، مؤيد الدين المعروف بابن العلقمي البغدادي الرافضي، كان غالياً في التشيع إلى غاية ما يكون، وكان وزيراً للمستعصم بالله، توفي سنة 656. انظر: سير أعلام النبلاء (23/ 361 - 362)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط، الطبعة التاسعة 1413، مؤسسة الرسالة، بيروت؛ الأعلام (5/ 321)، الطبعة الخامسة عشر، عام 2002 م، دار العلم للملايين، بيروت، وقد وصفه مؤلف الأعلام بقوله:"صاحب الجريمة النكراء".
(2)
انظر: أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه (2/ 1003 - 1004)، لعلي الصلابي، مكتبة الصحابة، الإمارات، 1425.
(3)
البداية والنهاية (13/ 235)، تحقيق: علي شيري، الطبعة الأولى 1408، دار إحياء التراث العربي.
(4)
انظر: مقدمة تحقيق (الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية) ص 11، لصلاح الدين مقبول أحمد، الطبعة الأولى 1412، مجمع البحوث الإسلامية، الهند.
(5)
البداية والنهاية (13/ 235).
(6)
هو محمد بن محمد بن الحسن، أبو جعفر، وكان يقال له: نصير الدين، فيلسوف، توفي سنة 672. انظر: الأعلام (7/ 30)، قال عنه ابن القيم في إغاثة اللهفان (2/ 267)، تحقيق: محمد حامد الفقي، الطبعة الثانية 1395، دار المعرفة، بيروت: "نصير الشرك والكفر وزير الملاحدة وزير هلاكو
…
قتل الخليفة والقضاة والفقهاء والمحدثين واستبقى الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين والسحرة
…
".
وفي تلك الظروف، أرسل هلاكو إلى الخليفة رسالة، يهدده فيها، ويأمره بتسليم بغداد. فلم يكترث الخليفة للأمر.
فقرر الزحف إلى بغداد مع مائتي ألف مقاتل إلى بغداد، وأول من برز إليه مهنئاً له ومرحباً به هو ابن العلقمي ثم رجع وأشار على الخليفة بالمثول بين يديه لتقع المصالحة، فخرج الخليفة مع سبعمائة راكب من أعيان الدولة وأكابر البلد فسلم نفسه وعاصمته بلا قيد أو شرط بعد أن وعده هولاكو بالأمان - وأنَّى لكافر أمان - فغدر بهم.
وأشار ابن العلقمي والنصير الطوسي وغيرهم من المنافقين على هولاكو بقتل الخليفة: "فقتلوه رفساً
…
وقيل: بل خنق، ويقال بل أغرق" (1).
ثم مالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار، إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، ولم ينج منهم سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار جاسوسهم ابن العلقمي الرافضي (2).
كما خربوا المساجد، وأتلفوا المكتبات، بإحراق الكتب، أو بإلقائها في نهر دجلة، ودخل كثير من الناس الآبار، وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لايظهرون، وما زال السيف يقتل أهل بغداد أربعين يوماً، حتى قد قدر المؤرخون القتلى بمليون، وثمانمائة ألف! (3)، وكان قصدهم إفناء النوع وإبادة العالم لا قصد الملك والمال (4).
(1) البداية والنهاية (13/ 234 - 235).
(2)
البداية والنهاية (13/ 235).
(3)
انظر: البداية والنهاية (13/ 235)، العبر في خبر من غبر (3/ 278)، تحقيق: أبو هاجر محمد السعيد، الطبعة الأولى 1405، دار الكتب العلمية، بيروت؛ حاضر العالم الإسلامي وقضاياه المعاصرة (1/ 57)، د. جميل عبد الله المصري، الطبعة الأولى، 1407، مطابع الجامعة الإسلامية، المدينة.
(4)
انظر: تاريخ الخلفاء ص 403، للسيوطي، تحقيق: محمد محي الدين عبدالحميد، الطبعة الأولى 1371، مطبعة السعادة، مصر.