الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
د- شد الرحال إلى القبور:
- تمهيد:
زيارة القبور مشروعة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهى عنها أولاً من باب سد الذرائع، لأن الأمم السابقة فتنت بقبور أنبيائها وصالحيها حتى أوقعهم الشيطان كرات ومرات في هوة الشرك واتخاذهم أنداداً مع الله.
فمن أجل صيانة لجانب التوحيد، وقطعاً للتعلق بالأموات، وسداً لذريعة الشرك نهى رسول الله أولاً عن زيارة القبور، ولما رسخت عقيدة التوحيد في قلوب أصحابه الكرام وأمن عليهم الفتنة رخص لهم في زيارتها، وبين لهم الغاية من زيارتها وهي أنها تذكر الآخرة، هذه واحدة، والأخرى ليستفيد الأموات من دعاء إخوتهم الأحياء.
وإذا كان الأمر كذلك، والهدف الأول وهو تذكر الآخرة أمر يتحقق بزيارة القبور القريبة والمجاورة، اكتفى الشارع الحكيم بالحد الأدنى الذي يحقق الغرض الشرعي مع تحفظات كثيرة
تسد ذرائع الفتنة والشرك: منها أن لا تتخذ مساجد، ومنها أن لا يبنى عليها، ولا تجصص، ولا يصلى عليها، ولا إليها، وغير ذلك.
ولم يشرع أبداً السفر إليها، لا بقوله ولا بفعله ، وآية ذلك: أن هذا الأمر لم ينزل فيه قرآن، ولم يثبت فيه حديث من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله، فلو كان مشروعاً لتحقق فيه كل ذلك، ولسنَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك برحلات ورحلات إلى الأنبياء والصالحين، ولملئت الدواوين برحلات الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان، ونحن نجد دواوين الإسلام من صحاح وسنن ومسانيد وكتب فقه السلف الصالح قد سجلت كل حقوق الأموات: من عيادتهم وهم مرضى، إلى غسلهم، وتشييعهم، ودفنهم، وزيارتهم، والدعاء لهم، والنهي عن الجلوس على قبورهم.
كل هذا قد طفحت به دواوين الإسلام، خالية خلواً كاملاً من حديث نبوي صحيح أو حسن، ومن أقوال الصحابة والقرون المفضلة، ومن أقوال أئمة الهدى من الحث على شد
الرحال إلى القبور (1).
- قول جمال الدين السرمري في المسألة:
لما تطرقت البدع إلى أوساط المسلمين، وبدأوا يعتقدون في المشاهد والقبور والأضرحة والمزارات مالم ينزل الله به سلطاناً، من شد الرحال إليها والاستغاثة بأهلها، صارت هذه القضية مفروغاً من الكلام فيها عند العلماء، فضلاً عن العامة من الناس، واعتُبرت من القضايا الحساسة التي تستغل لإثارة غضب الجماهير ضد من يتكلم فيها.
ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية الذي أشرب قلبه بالإيمان الخالص، والعقيدة الصحيحة، لما سُئل عن شد الرحال إلى غير المساجد الثلاثة حينما كان في القاهرة، فردّ عليه رداً مستنبطاً من الكتاب والسنة، ونهى عنه استدلالاً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ومسجد الأقصى» (2).
فاستغل هذه الفتيا سنة 726 القاضي المالكي الإخنائي (ت 750) بعد صدورها ببضع عشرة سنة، وزاد فيها ونقص، ورماه بالتنقيص بمنزلة النبي صلى الله عليه وسلم، وحرض السلطان عليه تقرّباً إليه، وكسباً لعواطف الجماهير من الناس أيضاً، وألف رسالة أسماها "المقالة المرضية في الرد على من ينكر الزيارة المحمدية"، فرد شيخ الإسلام على الإخنائي وغيره ممن رد عليه في هذه المسألة (مثل الزملكاني، والسبكي، وابن الحاج، وغيرهم) في عديد من كتبه، ومنها:"الرد على الإخنائي واستحباب زيارة خير البرية الزيارة الشرعية"، "المنسك القديم والجديد"، "الجواب الباهر في زوار المقابر"(3)، فأوضح الحق في المسألة، ودحض الشبه التي كانت تشنع عليه، إلا أن السبكي عفا الله عنه أعاد التشغيب على ابن تيمية بعد موته في التعريض بهذه المسألة، فقال:
(1) انظر: كشف زيف التصوف وبيان حقيقته وحال حملته 206 - 207، لربيع بن هادي المدخلي، الطبعة الأولى 1427، مجالس الهدى، الجزائر.
(2)
رواه البخاري (2/ 60) ح 1189، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة؛ ورواه مسلم (2/ 1014) ح 1397، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد، بمثله.
(3)
انظر: التعليق على "الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية" ص 80 - 81، لصلاح الدين مقبول أحمد.
"لو كان حيّاً يرى قولي ويسمعه
…
رددت ما قال ردّاً غير مشتبه
كما رددت عليه في الطلاق وفي
…
ترك الزيارة أقفو إثر سبسبه (1) " (2).
فتصدى للتشغيب على شيخ الإسلام بذلك، والرد عليه جمال الدين السرمري رحمه الله، فقال:
"وفي الزيارة لم تُنْصف رددتَّ على
…
ما لم يقلهُ ولم تَمرر بِسَبْسَبِه (3)
ردّاً ملخصه أشياء أذكرها
…
إما حديث ضعيف عند مطلبه
إما صحيح ولكن لا دليل به
…
على مُرادك بل هدم لمنصبه
إما بمجمل لفظٍ قولُ خصمكَ من
…
أقوى المقال به قسراً وأصوبه
إما بلا علم لي والجهل غايته
…
أيعذر الشخص فيما لا أحاط به
فأيُّ رد لعمري قد رَدَدْتَّ وما
…
ذا قلتَ إذ قلتَ أقفو إثر سبسبه
إن كان عندك في شد الرحال إلى الـ
…
ـقبور نقل فعارضه بموكبه
ليعرف الحق من كان أخا نظر
…
خالٍ من العلم ناءٍ عن تعصبه
أنَّى وذلك كالعنقاء (4) في عدم
…
وكالسَّمندل (5) يحكى مع تغيبه
ما أنت إلا كما قد قيل في مثل
…
خالف لتعرف مشهور لِضُرَّبِهِ
فشيخنا بصريح الحق حجته
…
ونقد نقلك زيف في تقلبه
فمن أحق بحق القول إن ظهر الـ
…
إنصاف مرتفعاً من فوق مرقبه" (6).
(1) السبسب: المفازة أو الأرض المستوية البعيدة. القاموس المحيط ص 123، ويقصد بـ"أقفو إثر سبسبه": أتتبع غرائبه وشوارده.
(2)
ذكرها التاج السبكي في ترجمة أبيه التقي السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى"(10/ 176).
(3)
يشير إلى قول السبكي المتقدم آنفاً.
(4)
العنقاء: طائر عظيم معروف الاسم مجهول الجسم. الصحاح في اللغة (4/ 220).
(5)
السمندل: قيل: "طائر إذا انقطع نسله وهرم ألقى نفسه في الجمر فيعود إلى شبابه"، وقيل:"هو دابة يدخل النار فلا تحرقه". انظر: لسان العرب (11/ 348).
(6)
الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية، ص 80 - 83.
ويبين كلام السرمري ويؤيده قول العلامة ابن عبدالهادي في كتابه (الصارم المنكي في الرد على السبكي) من إهمال السبكي النظر في الحديث صحة وضعفاً، وإلزام شيخ الإسلام بما لا يلزم، فقال:"فإني وقفت على الكتاب الذي ألفه بعض قضاة الشافعية في الرد على شيخ الإسلام تقي الدين أبي العباس أحمد ابن تيمية في مسألة شد الرحال وإعمال المطيّ إلى القبور، وذكر أنه كان قد سمّاه (شن الغارة على من أنكر سفر الزيارة) ثم زعم أنه اختار أن يسميه (شفاء السقام في زيارة خير الأنام) فوجدت كتابه مشتملاً على تصحيح الأحاديث المضعفة والموضوعة، وتقوية الآثار الواهية والمكذوبة، وعلى تضعيف الأحاديث الصحيحة الثابتة والآثار القوية المقبولة، وتحريفها عن مواضعها، وصرفها عن ظواهرها بالتأويلات المستنكرة المردودة، ورأيت مؤلف هذا الكتاب المذكور رجلاً ممارياً معجباً برأيه متبعاً لهواه"(1).
وما قرره جمال الدين السرمري هو قول الأئمة في هذه المسألة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما السفر إلى قبور الأنبياء والصالحين فهذا لم يكن
موجوداً في الإسلام في زمن مالك، وإنما حدث هذا بعد القرون الثلاثة، قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم، فأما القرون التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن هذا ظاهراً فيها، ولكن بعدها ظهر الإفك والشرك
…
" (2).
وقال في موضع آخر: "وأما إذا كان قصده بالسفر زيارة قبر النبي دون الصلاة في مسجده فهذه المسألة فيها خلاف، فالذي عليه الأئمة وأكثر العلماء أن هذا غير مشروع، ولا مأمور به، لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى» "(3).
وقال الشيخ سليمان بن عبدالوهاب تعليقاً على حديث: «لا تتخذوا قبري عيداً، ولا
(1) الصارم المنكي في الرد على السبكي، ص 13.
(2)
الجواب الباهر في زوار المقابر ص 50، لابن تيمية، تحقيق: سليمان الصنيع وعبدالرحمن المعلمي، 1404، الرئاسة العامة لإدارة البحوث العلمية والافتاء، الرياض.
(3)
مجموع الفتاوى (27/ 26 - 27).
بيوتكم قبوراً، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم»:"وفي الحديث دليل على منع شد الرحال إلى قبره صلى الله عليه وسلم، وإلى غيره من القبور والمشاهد، لأن ذلك من اتخاذها أعياداً، بل من أعظم أسباب الإشراك بأصحابها، كما وقع من عباد القبور الذين يشدون إليها الرحال، وينفقون في ذلك الكثير من الأموال، وليس لهم مقصود إلا مجرد الزيارة للقبور تبركاً بتلك القباب والجدران فوقعوا في الشرك"(1).
هـ- أما المسائل التي اكتفى فيها جمال الدين السرمري رحمه الله بذكر الأدلة في النهي عنها، فهي: السحر، الحلف بغير الله، تجصيص القبور، والبناء عليها، واتخاذها مساجد، ونحو ذلك من المسائل.
وبالجملة لم أقف على كلام كثير للإمام جمال الدين السرمري رحمه الله في تقرير مسائل
هذا النوع من أنواع التوحيد، حتى إنه أهمل ذكره في منظومته البديعة (نهج الرشاد في نظم الاعتقاد)، مع أنه ذكر فيها جل مباحث الاعتقاد، وقد يكون توسع في تقرير مسائل توحيد الألوهية في كتبه الأخرى التي لم أقف عليها، ككتابه (صحاح الأحكام وسلاح الحكام) فإنه "جمعه في قوله عليه الصلاة والسلام: «بني الإسلام على خمس
…
الخ» " (2)، والله أعلم.
(1) تيسير العزيز الحميد، ص 312.
(2)
كشف الظنون (2/ 1070).