الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أحمد بن حنبل، ثم مسحت يدي على بدني وهو ينظر، فغضب غضباً شديداً وجعل ينفض يده، ويقول: عمن أخذتم هذا؟ وأنكره إنكاراً شديداً" (1).
ج- التوسل الممنوع:
- مفهوم التوسل:
قال ابن الأثير: "هي في الأصل: ما يتوصل به إلى الشيء ويتقرب به، وجمعها وسائل، يقال: وَسَلَ إليه وسيلة وتَوَسَّل"(2).
وقال ابن فارس: "الواو والسين واللام كلمتان متباينتان جداً.
الأولى: الرغبة والطلب، يقال: وسل، إذا رغب، والواسل: الراغب إلى الله عز وجل، وهو في قول لبيد:
بلى كل ذي دين إلى الله واسل
ومن ذلك القياس الوسيلة
…
" (3).
وقال الجوهري: "الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير، والجمع الوسيل والوسائل، والتوسيل والتوسل واحد، يقال: وسل فلان إلى ربه وسيلة، توسل بوسيلة: أي تقرب إليه بعمل
…
" (4).
أما التوسل الممنوع: هو التقرب إلى الله جل جلاله بوسيلة بدعية أو شركية.
- صورة التوسل الممنوع:
للتوسل الممنوع صور عديدة، لكن الصورة التي أشار لها جمال الدين السرمري رحمه الله
(1) الآداب الشرعية (2/ 225)، لابن مفلح، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعمر القيام، الطبعة الثالثة 1419، مؤسسة الرسالة، بيروت.
(2)
النهاية في غريب الحديث والأثر (5/ 402)، لابن الجزري.
(3)
معجم مقاييس اللغة (6/ 110)، لابن فارس.
(4)
الصحاح في اللغة (5/ 119)، للجوهري.
هي:
التوسل بغير الله من المخلوقين، وذلك بأن يدعوهم ويستغيث بهم ويطلب منهم ما لا يقدر عليه إلا الله، ولو بزعم أنهم واسطة فيما يطلبه من الله، وهذا الصورة من التوسل هي من الشرك الأكبر، لأنها دعاء لغير الله والتجاء إليه فيه المهمات، وهي من صرف العبادة لغير الله كما قال تعالى:{وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون: 117]، وقال تعالى:{وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5].
وفي هذا يقول جمال الدين السرمري في (منامات رؤيت لشيخ الإسلام ابن تيمية)، وهي رؤى فيها الثناء على منهج ابن تيمية في الاعتقاد، وأنه سالك طريق النبي صلى الله عليه وسلم وعلى قدمه، وقد ذكرها السرمري في سياق فضائله، وفي ذلك إشارة لتأييد السرمري لما جاء فيها، فلو كان يعتقد السرمري مخالفة المعاني العقدية التي تضمنتها هذه الرؤى لما ذكرها في سياق شمائله، قال جمال الدين السرمري في الرؤيا الرابعة: "حدثني الشيخ الصالح شهاب الدين أبو العباس أحمد بن علي
بن محمد الأنصاري البعلبكي الخياط قال: رأيت في المنام في أول شوال من سنة نيف وخمسين وسبعمائة بدمشق، وقد كنت أنكرت على بعض الفقراء التوسل بغير الله من المخلوقين، وكان قال: إني كنت مريضاً فاستغثت بالشيخ فلان والشيخ فلان فلم يجبني منهم أحد، فاستغثت بالشيخ فلان والشيخ فلان وسماهم، قال: فرأيت الشيخ فلاناً وهو راكب فيلاً والشيخ الآخر وهو راكب فرساً، فقالا لي: قم، فقمت معافاً في الحال، قال: فقلت له: هذا خطأ منك، لو أنك استغثت بالله أصبت، فإن الشيخ فلاناً وغيره من المخلوقين لا يمكلون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، فقال: أنت مالك اعتقاد في الفقراء؟ ! وجرى بيني وبينه في هذا الكلام، فرأيت تلك الليلة شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية في النوم وهو يكلمني كلاماً خفياً، فقلت: يا سيدي الشيخ والله ما أفهم ما تقول، فقال: هل عندك لوح؟ فقلت: نعم، وأتيته به، فكتب لي في سطرين، فأخذته وجعلت أنظر فيه، فما عرفت اقرأ شيئاً منه إلا قوله: صَحِّحْ تَصِحُّ، وبقيت مفكراً فيه
(
…
) (1)، ومضى علي هذا مدة نحو من خمسة وثمانين يوماً، فجرى بيني وبين فقير آخر شيء من الكلام من جنس ما جرى بيني وبين ذلك الرجل، فنمت تلك الليلة فرأيت الشيخ تقي الدين وهو على صورة طائر أخضر عظيم المنظر أكبر من الطاووس، فقال لي: يا فلان أما حفظت الذي كتبت لك، فعرفت أنه الشيخ تقي الدين، فقلت: يا سيدي والله ما حفظت منه إلا قولك: صحح تصح، فقال لي: قل:
صحح تصح لك الأمور جميع
…
إياك عن طرق الهداة تضيع
وامحوا واثبت ما تحقق يا فتى
…
إن الإله على القلوب طليع
لا تصحبن الأرذلين فإنهم
…
يوم التغابن جيلهم مقطوع (2) " (3).
وما أشار إليه جمال الدين السرمري رحمه الله في هذه الرؤيا من منع التوسل بغير الله من المخلوقين هو منهج أهل السنة والجماعة في هذا المسألة كما سيأتي بيانه.
لكن الإشكال ورود في المقابل بعض الألفاظ الموهمة في كلام جمال الدين السرمري، والتي ظاهرها التوسل الممنوع بالنبي صلى الله عليه وسلم وبآله رضي الله عنهم والاستعانة بهم في حصول المنفعة ودفع المضرة، كقوله في النبي صلى الله عليه وسلم:
"يا خيرة الرسل ويا من له
…
في حضرة القدس المحل الرفيع
أنت المُرَجَّى لدفاع الأذى
…
وكل خطب للبرايا فظيع" (4).
وهذا غلو بالنبي صلى الله عليه وسلم، بزعم أن دفع الأذى يكون بالتوسل بذاته صلى الله عليه وسلم.
وقد يكون تأثر في ذلك بالشيخ يحيى الصرصري (5) رحمه الله، وبخاصة إذا رجحنا أن ثناء
(1) كلمة غير واضحة.
(2)
ذكرت هذه الأبيات أيضاً في آخر (جامع الرسائل لابن تيمية) المجموعة الأولى ص 290، تحقيق: محمد رشاد سالم، 1405، دار المدني، جدة.
(3)
منامات رؤيت لشيخ الإسلام ابن تيمية (مخطوط) ورقة: 2 ب. وقد ذكر ابن ناصر الدين الدمشقي أنه وجد بخط السرمري ستة منامات رؤيت لشيخ الإسلام ابن تيمية، انظر: الرد الوافر ص 233، تحقيق: زهير الشاويش.
(4)
المولد الكبير للبشير النذير صلى الله عليه وسلم (مخطوط) ورقة: 1 ب.
(5)
هو يحيى بن يوسف بن يحيى الصرصري، الفاضل المادح الحنبلي الضرير البغدادي، معظم شعره في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفي سنة 656. انظر: الذيل على طبقات الحنابلة (4/ 32)، البداية والنهاية (13/ 244).
السرمري العاطر للشيخ حسان في مقدمة منظومته (نهج الرشاد في نظم الاعتقاد) أنه يقصد الصرصري (حسان السنة)(1)، وتخصيص السرمري للصرصري -على الراجح (2) - بالذكر مع عدم إدراكه له، وتصريحه بأنه متبع لمنهاجه في الاعتقاد وأنه مقتفي أثره، يشعر بشدة تأثر السرمري به، يقول جمال الدين السرمري:
"فلولا مكان الشيخ حسان أصبحت
…
مدينة سامراء في غاية الضر
ولولا خلال سدها لتعطلت
…
رسوم الهدى واستوسقت دولة الشر (3)
هو العالم المرضي والقثم الذي
…
يفتح أقفال المسائل بالسبر" (4).
إلى أن قال:
"كفاني أني أنتمي بعقيدتي
…
إليه وأني في طريقته أجري" (5).
(1) وقد وصفه بـ (حسان السنة) عدد من العلماء، كابن القيم في "اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية" ص 200، الطبعة الأولى 1404، دار الكتب العلمية، بيروت؛ وابن رجب في "الذيل على طبقات الحنابلة"(4/ 32)، وابن كثير في "البداية والنهاية"(6/ 331)، وصديق حسن خان في "التاج المكلل من جواهر مآثر الطراز الآخر والأول" ص 236، الطبعة الثانية 1428، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطر؛ وقد يكون
(2)
وقد يكون قصد السرمري بـ"حسان" هو شيخه (أبا محمد حسان بن أحمد السرّمرّي) وقد ذكره في موضعين من كتابه: شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 297 ب، 295 أ، ولم أقف له على ترجمه، والثناء الذي سيأتي ذكره في الأبيات يرجح أن يكون المقصود به "حسان السنة: الصرصري" كما سيأتي في التعليق على الأبيات.
(3)
كان الصرصري رحمه الله شديداً في السنة، مدافعاً عنها، منحرفاً على المخالفين لها، وهو القائل:
بالله يا أنصار دين محمد
…
نوحوا على الدين الحنيف وعددوا
لعبت بدينكم الروافض جهرة
…
وتألبوا في دحضه وتحشدوا.
وقد توفي رحمه الله شهيداً عند اجتياح التتار لبغداد، فقد دخل عليه التتار وكان ضريراً، فطعن بعكّازه بطن أحدهم فقتله، ثم قُتل، وهو القائل:
طوبى لمن قتلوه منّا إنّه
…
أبداً مع الشهداء حي يرزق. انظر: اجتماع الجيوش الإسلامية ص 204، مقدمة تحقيق "الدرة اليتيمة والمحجة المستقيمة" للصرصري ص 25، جاسم الدوسري، الطبعة الأولى 1424، دار ابن حزم، بيروت.
(4)
نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 27 - 28.
(5)
نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 28.
وقد كان الصرصري رحمه الله، شديداً في السنة، منحرفاً عن المخالفين لها، وشعره مملوء بذكر أصول السنة ومدح أهلها، وذم مخالفيها (1)، غير أنه له أبيات في التوسل والاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم أنكرها العلماء، ومن ذلك قوله في النبي صلى الله عليه وسلم:
"أنت جاري وعدّتي ونصيري وعمادي في شدتي ورخائي
فأعني على زمان فظيع الخط
…
ـب في أهله شديد العناء
وأسألِ اللهَ حين تُعرض أعما
…
لي عليك الغفران لي يا رجائي" (2).
وقوله:
"نصحت له نصحاً برئياً من القذى إذا شاب قومٌ نصحهم بالعبائث
فقلتُ له إن رُمتَ أمناً وعزة
…
فعُذ من عوادي النائبات الكوارث
بأفضل مبعوث إلى خير أمة
…
بخير كتاب جاء من خير باعث" (3).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولهذا أنكرنا على الشيخ يحيى الصرصري ما يقوله في قصائده في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم من الاستغاثة به مثل قوله: بك أستغيث وأستعين وأستنجد"(4)، والله أعلم بالصواب.
ومن الألفاظ الموهمة التي وردت في كلام جمال الدين السرمري قوله في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم:
"عليهم سلامي ما حييت وإن أمت
…
تحييهم عني عظامي من قبري
هم عدتي في شدتي وذخيرتي
…
لآخرتي مصباح ديني غنى فقري" (5).
وهذا أيضاً من الغلو في آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فالعدة في الشدة، والذخيرة للآخرة ليست التوسل بذواتهم رضي الله عنهم، بل ظاهر هذا القول هو من قبيل قول المشركين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا
(1) وصفه بذلك ابن رجب في "الذيل على طبقات الحنابلة"(4/ 34).
(2)
ذيل مرآة الزمان (1/ 259)، لليونيني، الطبعة الأولى 1374، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر اباد.
(3)
ذيل مرآة الزمان (1/ 266 - 267).
(4)
مجموع الفتاوى (1/ 70).
(5)
نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 44.
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزُّمَر: من الآية 3].
لكن لعل الإمام جمال الدين السرمري عفا الله عنه لم يرد هذا، وإنما قصد محبتهم التي هي من العمل الصالح، لا سيما أن هذه الألفاظ الموهمة جاءت في سياق نظم، والوزن أحياناً يعيق عن الإفصاح.
أما منهج أهل السنة والجماعة في هذه المسألة هو منع التوسل بغير الله من المخلوقين:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وإن أراد بالواسطة: أنه لابد من واسطة في جلب المنافع ودفع المضار مثل: أن يكون واسطة في رزق العباد، ونصرهم، وهداهم، يسألونه ذلك، ويرجون إليه فيه، فهذا من أعظم الشرك الذي كفر الله به المشركين، حيث اتخذوا من دون الله أولياء وشفعاء، يجتلبون بهم المنافع ويجتنبون المضار"(1).
وقال الإمام العز بن عبد السلام: "ومن أثبت الأنبياء وسواهم من مشايخ العلم والدين وسائط بين الله وبين خلقه كالحجّاب الذين بين الملك ورعيته، بحيث يكونون هم يرفعون إلى
الله تعالى حوائج خلقه، وأن الله تعالى إنما يهدي عباده ويرزقهم وينصرهم بتوسطهم، بمعنى أن الخلق يسألونهم، وهم يسألون الله كما أن الوسائط عند الملوك يسألون الملك حوائج الناس لقربهم منهم، والناس يسألونهم أدباً منهم أن يباشروا سؤال الملك، ولأن طلبهم من الوسائط أنفع لهم من طلبهم من الملك، لكونهم أقرب إلى الملك من الطلب، فمن أثبتهم وسائط على هذه الوجه فهو كافر مشرك يجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل، وهؤلاء مشبِّهون لله، شبهوا الخالق بالمخلوق، وجعلوا لله أنداداً
…
" (2).
(1) مجموع الفتاوى (1/ 123 - 124).
(2)
التوسل أنواعه وأحكامه ص 97، لمحمد ناصر الدين الألباني، تنسيق: محمد عيد عباسي، الطبعة الخامسة 1406، المكتب الإسلامي.