الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الرابع
الكبيرة وحكم مرتكبها
إن مسألة حكم مرتكب الكبيرة من المسائل الكبار التي زلت فيها بعض الأقدام، وجرى
بسببها خلاف كبير بين أهل السنة وبين الفرق الأخرى، وصار الناس فيها طرفين ووسطاً:
فمنهم من غلب جانب نصوص الوعد، وأهمل نصوص الوعيد، وهؤلاء هم المرجئة، حيث زعموا أن من قال لا إله إلا الله محمداً رسول الله وحرم ما حرم الله وأحل ما أحل الله دخل الجنة إذا مات، وإن سرق وقتل وشرب الخمر وقذف المحصنات وترك الصلاة والزكاة والصيام إذا كان مقراً بها يُسوِّف التوبة لم يضره وقوعه على الكبائر وتركه للفرائض وركوبه الفواحش، وإن فعل ذلك استحلالاً كان كافراً بالله مشركاً وخرج من إيمانه وصار من أهل النار، وأن الإيمان لا يزيد ولا ينقص وإيمان الملائكة والأنبياء والأمم وعلماء الناس وجهالهم واحد لا يزيد منه شيء على شيء أصلاً (1).
وقابل هؤلاء من غلَّب جانب نصوص الوعيد وأهمل نصوص الوعد، وهؤلاء هم الوعيدية -الخوارج والمعتزلة-، وزعموا أن مرتكب الكبيرة حكمه في الدنيا كافرٌ كفراً أكبر -على حد زعم جمهور الخوارج- (2)، وفي منزلة بين المنزلتين -على حد زعم المعتزلة- (3)؛ أما في حكمه في الآخرة -إن لم يتب- فهو خالد مخلد في النار وقولهما في هذا واحد، غير أن الخوارج يقولون إن مرتكبي الكبائر ممن ينتحل الاسلام يعذبون عذاب الكافرين والمعتزلة يقولون إن عذابهم ليس كعذاب الكافرين (4).
(1) التنبيه والرد، ص 43.
(2)
الفرق بين الفرق وبيان الفرقة الناجية ص 56، لعبدالقاهر بن طاهر البغدادي، الطبعة الثانية 1977 م، دار الآفاق الجديدة، بيروت.
(3)
مقالات الإسلاميين ص 270.
(4)
مقالات الإسلاميين ص 124.
وهدى الله أهل السنة للجمع بين النصوص فكان منهجهم وسطاً بين الإفراط والتفريط، فقالوا: إن مرتكب الكبيرة -عدا الشرك- لا يكفر -إذا لم يستحل ذلك- ولا يخرج من الإسلام بهذه المعصية، بل هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بمعصيته، وإذا مات من غير توبة فهو تحت المشيئة، إن شاء الله غفر له ابتداءاً وأدخله الجنة رحمه منه وفضلاً، وإن
شاء عذبه بقدر ذنوبه ثم أدخله الجنه بعدله وحكمته.
ولا شك أن هذا المعنى هو ما تواترت عليه أدلة الكتاب والسنة:
قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} [النساء: 48].
قال ابن جرير في تفسير هذه الآية: "وقد أبانت هذه الآية أن كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرة شركًا بالله"(1).
فسمى الله تعالى كلا من الطائفتين المقتتلتين مؤمنة وأمر بالاصلاح بينهما ولو بقتال الباغية (2).
وكذلك في آية القصاص أثبت الإيمان للقاتل والمقتول من المؤمنين وأثبت لهم أخوة الإيمان فقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: من الآية 178].
(1) تفسير الطبري (8/ 450).
(2)
معارج القبول (3/ 1018).
وحديث أبي ذر رضي الله عنه الطويل، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن جبريل عرض له في جانب الحرة، فقال:«بشر أمتك أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة، قلت يا جبريل، وإن سرق؟ وإن زنى؟ قال: نعم، قال: قلت: وإن سرق؟ وإن زنى؟ قال: نعم وإن شرب الخمر» (1).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن رجلاً كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبدالله وكان
يُلقب "حمَاراً"، وكان يُضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأُتي به يوماً فأمَر به فجُلِد، فقال رجلٌ من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«لا تلعنوه، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله» (2).
وأحاديث الشفاعة لأهل الكبائر جميعها دالة على هذا المعنى، وقد تقدمت في مطلب الشفاعة.
وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري رحمه الله هذا الأصل، وبيَّن أن لا يكفر أحد من أهل القبلة بكل ذنب، ولا يخرج من الإسلام بمعصية، وأنه يُرجى للمحسن، ويُخاف على المسيء، فقال:
"ولا يخرج الإيمان من قلب مؤمن مصرٍّ على فعل المآثم مستجري
ونرجوا الرِّضا عمَّن قضى وهو مؤمن ويُخشى على من مات وهو على شرِّ" (3).
وقال في موضع آخر في بيان عدم خلود أهل الكبائر في النار:
"ويدخل ناسٌ بالمعاصي جهنماً
…
فيأخذهم منها على قدر الوزر
ويشفع فيهم سيد الخلق أحمد
…
عليه صلاة الله ما غرَّد القمري
ويخرج مَن في قلبه وزن ذرة
…
بلا شك منها مِن مُقارفة البِرِّ" (4).
(1) أخرجه البخاري (8/ 94)، كتاب الرقاق، باب المكثرون هم المقلون، ح 6443.
(2)
أخرجه البخاري (8/ 158)، كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر وإنه ليس بخارج من الملة، ح 6780.
(3)
نهج الرشاد، ص 36.
(4)
نهج الرشاد، ص 38.
وما قرره الإمام جمال الدين السرمري رحمه الله هو ما أجمع عليه أهل السنة والجماعة في هذه المسألة.
قال ابن بطة: "وقد أجمعت العلماء لا خلاف بينهم أنه لا يكفر أحد من أهل القبلة بذنب، ولا نخرجه من الإسلام بمعصية، نرجو للمحسن، ونخاف على المسيء"(1).
وقال أبو الحسن الأشعري: " وأجمعوا -يعني أهل السنة- على أن المؤمن بالله تعالى وسائر ما دعاه النبي إلى الإيمان به لا يخرجه عنه شيء من المعاصي ولا يحبط إيمانه إلا الكفر، وأن العصاة من أهل القبلة مأمورين بسائر الشرائع غير خارجين عن الإيمان بمعاصيهم"(2).
وقال الإمام الصابوني: "ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة صغائر وكبائر فإنه لا يكفر بها، وإن خرج من الدنيا غير تائب منها ومات على التوحيد والإخلاص، فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً غير مبتلى بالنار ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عفا عنه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار"(3).
وقال شيخ الإسلام في معرض ذكره لأصول أهل السنة: "وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي
…
ولا يسلبون الفاسق الملِّي الإيمان بالكلية ولا يخلدونه في النار كما تقوله المعتزلة
…
ويقولون: هو مؤمن ناقص الإيمان أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق ولا يسلب مطلق الاسم" (4).
(1) منهج الإمام ابن بطة في تقرير عقيدة السلف والرد على أهل الأهواء والبدع (2/ 639)، د. حمد بن عبدالمحسن التويجري.
(2)
رسالة إلى أهل الثغر، ص 274.
(3)
عقيدة السلف وأصحاب الحديث، ص 276.
(4)
مجموع الفتاوى (3/ 151 - 152).
وقال ابن أبي العز الحنفي: "أهل السنة متفقون كلهم على أن مرتكب الكبيرة لا يكفر كفراً ينقل عن الملة بالكلية
…
ومتفقون على أنه لا يخرج من الإيمان والإسلام، ولا يدخل في الكفر، ولا يستحق الخلود مع الكافرين" (1).
(1) شرح الطحاوية، ص 301 - 302.