الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمفعول، فلهذا عظم النزاع، وأشكلت المسألة على الطائفتين وحاروا فيها" (1).
وقال في موضع آخر: "ولكن طائفة من أهل الكلام -المثبتين للقدر- ظنوا أن الفعل هو المفعول والخلق هو المخلوق، فلما اعتقدوا أن أفعال العباد مخلوقة مفعولة لله، قالوا فهي فعله، فقيل لهم مع ذلك: أهي فعل العبد؟ فاضطربوا؛ فمنهم من قال: هي كسبه لا فعله ولم يفرقوا بين الكسب والفعل بفرق محقق، ومنهم من قال: بل هي فعلٌ بين فاعلين، ومنهم من قال: بل الرب فعل ذات الفعل والعبد فعل صفاته؛ والتحقيق ما عليه أئمة السنة وجمهور الأمة من الفرق
بين الفعل والمفعول والخلق والمخلوق، فأفعال العباد هي كغيرها من المحدثات مخلوقة مفعولة لله، كما أن نفس العبد وسائر صفاته مخلوقة مفعولة لله وليس ذلك نفس خلقه وفعله، بل هي مخلوقة ومفعولة، وهذه الأفعال هي فعل العبد القائم به ليست قائمة بالله، ولا يتصف بها، فإنه لا يتصف بمخلوقاته ومفعولاته، وإنما يتصف بخلقه وفعله كما يتصف بسائر ما يقوم بذاته، والعبد فاعل لهذه الأفعال وهو المتصف بها، وله عليها قدرة وهو فاعلها باختياره ومشيئته، وذلك كله مخلوق لله، فهي فعل العبد ومفعولة للرب
…
" (2).
وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري مذهب أهل السنة الجماعة من التفريق بين الفعل والمفعول، فقال في معرض رده على السبكي:
"والخلق ليس هو المخلوق تحسبه
…
بل مصدر قائم بالنفس فادر به
وقول كن ليس بالشيء المكوَّنِ والصَّـ
…
ـغيرُ يعرفُ هذا مع تلَعُّبِه" (3)
وقد تقدم الإشارة إلى ما يتعلق بهذا الأصل في مسألة (تسلسل الحوادث).
المطلب الرابع: الأحكام الشرعية والأحكام القدرية:
ومن مزلات الأقدام ومضلات الأفهام منازعة الأحكام الشرعية بالأحكام القدرية، وقد
(1) مجموع الفتاوى (8/ 122 - 123).
(2)
مجموع الفتاوى (2/ 119 - 120).
(3)
الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية، ص 74.
حارت القدرية في الجمع بينهما، وقد فصل شيخ الإسلام أقوالهم فيها إلا ثلاثة أصناف:
1 -
القدرية المشركية: وهم الذين اعترفوا بالقضاء والقدر، وزعموا أن ذلك يوافق الأمر والنهي، وقالوا:{لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: من الآية 148]، فهؤلاء يئول أمرهم إلى تعطيل الشرائع والأمر والنهي، حتى يخرج من يخرج منهم إلى الإباحة للمحرمات وإسقاط الواجبات ورفع العقوبات، ويكثر هذا المذهب عند غلاة الصوفية، وهذا حاصل مذهب الجبرية، وهؤلاء شر الخلق.
2 -
القدرية المجوسية: الذين يجعلون لله شركاء في خلقه، فيقولون: خالق الخير غير خالق الشر، ويقولون: إن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله تعالى، وغلا بعضهم فقال: ولا يعلمها، ويقولون: إن جميع أفعال الحيوان واقع بغير قدرة الله ولا صنعه، فيجحدون مشيئته النافذة وقدرته الشاملة، ويزعمون أن هذا هو العدل، وهذا قول المعتزلة، والشيعة المتأخرين، وهؤلاء أقرب إلى الكتاب والسنة والدين من القدرية المشركية، المعطلة للأمر والنهي.
3 -
القدرية الإبليسية: وهم الذين صدقوا بأن الله صدر عنه الأمران الشرعي والقدري، لكن عندهم هذا تناقض وهم خصماء الله كما جاء في الحديث، ويكثر هذا عند بعض سفهاء الشعراء، ونحوهم من الزنادقة (1).
وأما مذهب أهل السنة والجماعة فهو التصديق بالقدر والخلق، والتصديق بالشرع والوعيد، فقوله تعالى:{فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] إثبات للقدر بقوله: {فَأَلْهَمَهَا} ، وإثبات لفعل العبد بإضافة الفجور والتقوى إلى نفسه، لِيعلم أنها هي الفاجرة والمتقية، وقوله بعد ذلك:{قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 9 - 10] إثبات لفعل العبد والوعد والوعيد بفلاح من زكى نفسه، وخيبة من دساها، وهذا صريح في الرد على القدرية المجوسية وعلى الجبرية، وأما المظلمون للخالق فإنه قد دل على عدله بقوله:{وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] والتسوية: التعديل، فبيَّن أنه عادل في تسوية النفس التي ألهمها
(1) انظر: مجموع الفتاوى (8/ 256 - 260)، (16/ 239).