الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فجورها وتقواها (1).
وقد قرر جمال الدين السرمري مذهب أهل السنة والجماعة من الإيمان بالأحكام الشرعية والأحكام القدرية والتسليم لهما، فقال في منظومته في الاعتقاد:
"وما جاء من خير وشر مقدَّر
…
كذلك ما يأتي من الحلو والمر
ولو شاء لا يعصى تقدس ذكره
…
لما خلق الشيطان في سالف العصر
ولا أمر إلا من كتاب وسنة
…
كذا الضد كالتحليل للشيء والحِظر" (2).
فالبيت الأول والثاني فيه رد على القدرية المجوسية الذين قالوا: خالق الخير غير خالق الشر، وأن الذنوب الواقعة ليست واقعة بمشيئة الله تعالى؛ والبيت الثالث فيه رد على القدرية المشركية الذين عطلوا الشرائع والأمر والنهي.
المطلب الخامس: السبب والمسبب:
تأثير الأسباب في المسببات أمر معلوم بالعقل والمشاهدة، وقد ذكر الله ذلك في كتابه، قال تعالى:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} [الأعراف: من الآية 57]، وقال تعالى:{وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: من الآية 164]، وقال تعالى:{قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: من الآية 14] وغيرها من الآيات.
والله سبحانه وتعالى هو خالق السبب والمسبَّب، فلا يجوز نسبة الانفراد بالخلق في صفة الفعل لغير الله تعالى، فمثل هذه الإضافة بالانفراد لا تخرج في حكمها عن كونها شركًا في الربوبية.
(1) انظر: مجموع الفتاوى (16/ 242 - 244).
(2)
نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 34.
وعلى الضد من ذلك يدخل في الانحراف -أيضاً- نفي التأثير للأشياء التي جعلها الله تعالى أسبابًا ووسائط على المسبّبات.
وقد ضل في هذه المسألة الأشاعرة والمعتزلة على اختلاف مذاهبهم.
فأما الأشاعرة فقد نحوا منحى الجبرية، حيث لا يثبتون في المخلوقات قوًى وطبائع، ويقولون: إنَّ الله فعل عندها لا بها، وإنَّ قدرة العبد لا تأثير لها في الفعل، فليس في النار قوة الإحراق لكن عند وجود النار يخلق الله الإحراق بلا تأثير من النار، وليس في الماء قوة الإغراق، وإنما عند وجود الماء يخلق الله الإغراق بلا تأثير من الماء، ولا في السكِّين قوة القطع، وإنما عند
وجود السكين يخلق الله القطع بلا تأثير من السكين، ولا في الماء والخبز قوة الرَّي والتغذِّي به، وإنما عند وجود الماء والخبز يخلق الله الرَّي والتغذيةَ بلا تأثير من الماء والخبز، ونحو ذلك مما قد أجرى الله العادة بخلق المسبَّبات عند وجود هذه الأسباب.
وهذا المعنى -بلا شك- طردٌ لعقيدة الجبرية على قاعدة: «أنه لا فاعل إلا الله» .
وعلى النقيض من هذا المذهب ما قررته القدرية من أنَّ العبد هو الموجِد لفعله، ويضاف إليه الانفراد بالتأثير، وكذا الأسباب فهي مؤثرة بذاتها من غير أن يكون لله تقدير ومشيئة.
وأما وأهل السنة لا ينكرون تأثير القوى والطبائع في مسبَّباتها، والله تعالى خالق السبب والمسبَّب، وحدوث المسبَّب بالسبب لا عند السبب، فرجع الكل إلى محض خلق الله وأمره وفضله ورحمته، وضمن هذا المعنى يقول ابن تيمية رحمه الله:"فالذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أهل السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر المخالفون للمعتزلة إثبات الأسباب، وأن قدرة العبد مع فعله لها تأثير كتأثير الأسباب في مسبَّباتها، والله تعالى خلق الأسباب والمسبَّبات، والأسباب ليست مستقلة بالمسبَّبات، بل لا بدَّ لها من أسباب أُخَر تعاونها، ولها -مع ذلك- أضداد تمانعها، والمسبَّب لا يكون حتى يخلق الله جميع أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته، كما يخلق سائر المخلوقات، فقدرة العبد سبب من الأسباب، وفعل العبد لا يكون بها وحدها، بل لا بد من الإرادة الجازمة مع القدرة، وإذا أريد بالقدرة القوة القائمة بالإنسان فلا بد من إزالة الموانع كإزالة القيد والحبس ونحو ذلك، والصاد عن السبيل كالعدو وغيره"(1).
(1) مجموع الفتاوى (8/ 487 - 488).