الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الرابعة: الجمع بين النصوص النبوية التي يوهم ظاهرها التعارض:
فمن منهج جمال الدين السرمري رحمه الله دفع إيهام تعارض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كما هو منهج أهل السنة، وعدم ضرب بعضها ببعض كما هو منهج أهل البدعة فقد قال في كتابه (شفاء الآلام في طب أهل الإسلام) في باب الجذام عند ذكر المرأة التي تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم فوجد البياض بكشحها فقال لها:«الحقي بأهلك» قال: "وقد ظن طائفة من العلماء أن هذه الأحاديث معارضة بأحاديث أخر تبطلها وتناقضها منها ما رواه الترمذي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بيد مجذوم فأوصلها معه في القصعة وقال: «كل باسم الله ثقة بالله وتوكلاً على الله» وبما في الصحيح أنه قال: «لا عدوى ولا طيرة» - قال: - ونحن نقول: لا تعارض بحمد الله في أحاديثه الصحيحة، فإذا وقع التعارض فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم، أو قد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتاً فالثقة يغلط، أو يكون التعارض في فهم السامع لا في نفس كلامه صلى الله عليه وسلم، فلا بد من خروجه من هذه الوجوه الثلاثة، فأما حديثان صحيحان صريحان متعارضان من كل وجه ليس أحدهما ناسخاً للآخر فهذا لا يوجد أصلاً، ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق إلا الحق، فالآفة من التقصير في معرفة المقول والتمييز بين الصحيح والمعلول، أو من القصور في فهم مراده صلى الله عليه وسلم وحمل كلامه على غير ما قصد به، أو منهما معاً، ومن هنا وقع في الاختلاف والفساد ما وقع"(1).
ومن أمثلة ذلك قوله عند الكلام على التواضع والمسكنة لله تعالى وترك التكبُّر والتجبُّر: "عن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ألا أخبركم بأهل الجنة،
كل ضعيفٍ متضعِّف، لو أقسمَ على الله لأبرَّهُ، ألا أخبركم بأهلِ النار، كل عُتُلِّ جوَّاظٍ مستكبر»
…
وأما الحديثُ الذي وردَ أن: المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، فليس هذا بالمناقض لما نحن فيه، فإن المقصودَ هنا بالقوةِ القوةُ في دين الله تعالى وعبادتهِ وامتثالِ أوامرهِ
(1) انظر: شفاء الآلام في طب أهل الإسلام (مخطوط) ورقة: 257 ب - 258 أ؛ بلوغ المُنى والظفر في بيان لاعدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر، ص 61 - 63، جار الله محمد بن عبدالعزيز ابن فهد، تحقيق: أحمد المصلحي، الطبعة الأولى 1417، دار الأندلس الخضراء، جدة، نقلاً عن كتاب السرمري (شفاء الآلام).
بالوجباتِ تضاعفاً والانزجارِ عما نهى" (1).
وقال في موضع آخر في سياق الكلام على الطيرة: "وأما ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الطيرة في ثلاث: في الدار والمرأة الفرس» فالجواب عنه: أن عائشة رضي الله عنها طعنت عليه وبيَّنت تثبيت الحديث وذنك أنها ذُكر لها قول أبي هريرة فقالت: لم يحفظ أبو هريرة، دخل علينا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:«قاتل الله اليهود؛ يزعمون أن الشؤم في الدار والمرأة والفرس» فسمع أبو هريرة آخر الحديث ولم يسمع أوله؛ وفي رواية: أن رجلين دخلا على عائشة فقالا: إن أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الطيرة في ثلاث: في الدار والمرأة والفرس» فغضبت عائشة رضي الله عنها غضباً شديداً، وقالت: والذي أنزل القرآن على أبي القاسم ما قاله، إنما قال:«أهل الجاهلية يتطيرون من ذلك» فقد بيَّنت عائشة وجه الحديث وسببه، وأن ذلك من قول اليهود والجاهلية، وبيَّنت أن أبا هريرة لم يسمع أول الحديث؛ وقد تأول قوم حديث أبي هريرة في أن الشؤم في المرأة إذا كانت لا تلد أو سيئة الخلق، وفي الدار إذا كانت بعيدة عن المسجد أو ضيقة وجيرانها جيران سوء، وفي الدابة إذا كانت تعضُّ أو ترفُس، أو كانت مربوطة للفخر والخيلاء
…
؛ فأما ما روى أنس أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا نزلنا داراً فكثر فيها عددنا وكثرت فيها أموالنا، ثم تحولنا عنها إلى أخرى، فقلَّت فيها أموالنا، وقل فيه عددنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«فَذَرُوها ذميمةً» فالجواب: أنه قال لهم: «فَذَرُوها ذميمةً» لما كان استقر في أنفسهم في زمان الجاهلية من شؤم الدار، فأمرهم بالنقلة عنها ليزول ما توهموه في قلوبهم من أن الشؤم في المسكن وما لحقهم من الاستيحاش فيها، والتثاقل بها، يستعجلوا الراحة ويزول عنهم توقع البلاء الذي قد استشعروه من نزول الحوائج،
وإن لم يكن لذلك في الحقيقة أصل، ولئلا يعتقدوا التشاؤم بالدار، ويفهم من قوله:«فَذَرُوها ذميمةً» وعدم التصريح لهم والتعريف بذكر الشؤم أن ذلك قد كان قدَّره لهم بقوله: «لا عدوى ولا طيرة» وكان سؤال السائل في ذلك على سبيل الاستفهام لما أشكل عليه وقوع النقص
(1) الأربعون الصحيحة فيما دون أجر المنيحة، ص 141، 137.