الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب السابع: الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي:
من المعلوم أن كثيراً من الكافرين والمشركين الضالين، والمقصرين في عبادة الله، والمنحرفين عن منهج الله، قد وجدوا مجالاً للاحتجاج به على كفرهم وفسادهم وتقصيرهم، وتوهموا التعارض بين الشرع -المقتضي للتكليف ثم الحساب والجزاء- والقدر المقتضي لكمال ربوبيته تعالى ونفوذ مشيئته وكمال قدرته في خلقه، ولذلك ورد في أقوال العلماء ما يرد على هؤلاء جميعاً ويدحض حججهم كلها، ومن ذلك ما يلي:
1 -
أنه قد علم بالاضطرار أن الاحتجاج بالقدر حجة باطلة وداحضة باتفاق كل ذي عقل، ودين من جميع العالمين، ويوضح هذا: أن الواحد من هؤلاء إما يرى القدر حجة للعبد، وإما أن لا يراه حجة للعبد، فإن كان القدر حجة للعبد فهو حجة لجميع الناس، فإنهم كلهم مشتركون في القدر، فحينئذ يلزم أن لا ينكر على من يظلمه ويشتمه، ويأخذ ماله، ويفسد حريمه، ويضرب عنقه، ويهلك الحرث والنسل، وهؤلاء جميعاً كذابون متناقضون، فإن أحدهم لا يزال يذم هذا، ويبغض هذا، ويخالف هذا، حتى إن الذي ينكر عليهم يبغضونه ويعادونه، وينكرون عليه، فإن كان القدر حجة لمن فعل المحرمات، وترك الواجبات، لزمهم ألا يذموا أحداً، ولا يبغضوا أحداً، ولا يقولوا في أحد: إنه ظالم ولو فعل ما فعل، ومعلوم أن هذا لا يمكن أحداً فعله، ولو فعل الناس هذا لهلك العالم، فتبين أن قولهم فاسد في العقل كما أنه كفر في الشرع.
وهذا يدل على ما يختلج في النفوس من شهوات وشبهات، ولذلك تراهم يحتجون بالقدر على أفعالهم ومعاصيهم، وفي نفس الوقت ينتقمون ممن اعتدى عليهم أو ظلمهم، ولو احتج عليهم بالقدر لما قبلوا، بل لو كان الاعتداء بما يحسن الاحتجاج بالقدر عليه كالمصائب التي يقدرها الله سبحانه وتعالى لاعترضوا ولم يقبلوا أن يحتج بالقدر من كانت على يديه هذه المصائب دون عمد منه أو تفريط، وعند الاستقراء تجد أن هؤلاء يحتجون بالقدر في ترك حق ربهم، ومخالفة أمره، لا في ترك ما يرونه حقاً لهم، ولا مخالفة أمرهم.
2 -
أنه يلزم على الاحتجاج بالقدر لازم باطل ألا وهو تعطيل الشرائع، وحين تعطل الشرائع يلزم عليها أن يكون إبليس، وفرعون، وقوم نوح، وعاد وكل من عذبه الله بسبب مخالفته أمره معذوراً، ويلزم أيضاً ألا يفرق بين المؤمنين والكفار، ولا بين أولياء الله وأولياء الشيطان، وهذه كلها لوازم معلوم بطلانها بالضرورة.
ولو كان القدر حجة للعباد لم يعذب أحد من الخلق لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولم تقطع يد سارق، ولا أقيم حد على زان، ولا جوهد في سبيل الله.
3 -
أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وهو متمكن من الإيمان قادر عليه، وكما هو معلوم فإن القدرة التي هي شرط في الأمر تكون موجودة قبل الفعل لكل مكلف، ومن ثم فالإنسان قادر متمكن، وقد خلق الله فيه القدرة على الإيمان، وحينئذ فحين لا يؤمن يكون هو الذي لا يريد الإيمان، ومادام الأمر كذلك فليس لأحد أن يقول: لماذا لم يجعلني الله مريداً للإيمان، لأنه لو أراد الإيمان لقدر عليه، ومادام الإنسان مريداً قادراً فاحتجاجه بالقدر باطل.
وينبغي أن يعلم أن الاحتجاج بالقدر إنما يَرِد على من لا يقر للإنسان بإرادة ولا قدرة كالجهمية والأشاعرة، أما على مذهب أهل السنة الحقيقي فلا يَرِد، لأنهم يقولون إن الإنسان مريد وفاعل حقيقة، وله قدرة يقع بها الفعل.
4 -
وأقرب مثال على بطلان الاحتجاج بالقدر أن يقال: إذا كان معلوماً أن الله قد علم وكتب أن فلاناً يتزوج امرأة ويطؤها ويولد له، وأن فلاناً يبذر البذر فينبت الزرع
…
إلخ، ولا يمكن لأحد أن يحتج بالقدر هنا فيقول: أنا لا أتزوج أو أطأ امرأة، فإن كان قدر الله أن يولد لي ولد فسيولد، أو يقول: أن لا أبذر البذر، فإن كان قدر الله أن تنبت أرضي زرعاً فستنبت، لأن من قال هذا عد من أجهل الجاهلين؛ إذا وضح هذا المثال فنقول: إن الله تعالى علم وكتب أن فلاناً يؤمن ويعمل صالحاً فيدخل الجنة، وفلاناً يعصي ويفسق فيدخل النار، وحينئذ فمن قال: إن كنت من أهل الجنة فأنا سأدخلها بلا عمل صالح، كان قوله قولاً باطلاً متناقضاً، لأنه علم أنه يدخل الجنة بعمله الصالح، فلو دخلها بلا عمل كان هذا مناقضاً لما علمه الله وقدره، وهذا
شبيه بمن قال: أنا لا أطأ امرأة، وإن كان قد قدر أن يأتيني منها ولد فسيأتيني.
ومن ثم فالاحتجاج بعلم الله السابق باطل، وبهذا تبطل كثير من الشبه التي تثار حول الاحتجاج بالقدر (1).
وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري مذهب أهل السنة والجماعة من التسليم والاستسلام لله تعالى في كل ما يقضيه ويقدره، وفي كل ما يشرعه ويأمر به وينهى عنه، ومن التحذير من
الاحتجاج بالقدر، ومن ذلك قوله:
"ولا نجعل التقدير للذنب حجة
…
لنا بل علينا حجة الله بالنذر" (2).
(1) انظر: القضاء والقدر، ص 413 - 420.
(2)
نهج الرشاد في نظم الاعتقاد، ص 34.