الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 - مسألة تسلسل الحوادث:
وهذه المسألة من المسائل الطويلة التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً فيها بطلان مذهب الفلاسفة، وأدلة المتكلمين حول إثبات الصانع وحدوث العالم، وهي مباحث عويصة قال عنها شيخ الإسلام: إنها من محارات العقول (1)، بل قال عن بعض مسائلها وفروعها: إنها من الكلام المذموم (2)، ولا شك أن شيخ الإسلام خاض فيها مضطراً؛ ليبين خطأ وضلال أولئك الذين خاضوا فيها مخالفين لمنهج الرسل -صلوات الله وسلامه عليهم-؛ وإلا فمسألة إثبات الصانع وحدوث المخلوقات من المسائل البدهية التي يعرفها عوام المسلمين.
وقد اشتهر عن ابن تيمية أنه يقول بجواز حوادث لا أول لها، وتلقفها مناوئوه وحساده من أعداء مذهب السلف فرموه صراحة بأنه يقول بقدم العالم كالفلاسفة، وممن اتهمه بذلك تقي الدين السبكي، فإنه لما اطلع على كتابه "منهاج السنة النبوية" أنشد أبياتاً مدح فيها الكتاب إلا إنه ناقره بأبيات فيها مغالطات واتهامات مختصرة، ومما قال فيها:
"يحاول الحشو أنّى كان فهو له
…
حثيث سيرٍ بشرقٍ أو بمغربه
يرى حوادث لا مبدا لأولها
…
في الله سبحانه عما يُظنّ به" (3)
وكان قد كتب التقي السبكي قصيدته البائية المذكورة بعد وفاة شيخ الإسلام كما يدل عليه قوله:
لو كان حيّاً يرى قولي ويسمعه رددتُ ما قال رداً غير مشتبه
فتصدى للتشنيع على شيخ الإسلام بذلك، والرد عليه بمثل البحر والقافية جمال الدين السرمري رحمه الله، ومما جاء فيها:
(1) منهاج السنة النبوية (1/ 207)، تحقيق: د. محمد رشاد سالم، الطبعة الأولى، مؤسسة قرطبة.
(2)
المصدر السابق (1/ 133).
(3)
ذكرها التاج السبكي في ترجمة أبيه التقي السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى"(10/ 176)، تحقيق: د. محمود الطناحي ود. عبدالفتاح محمد الحلو، الطبعة الثانية 1413، دار هجر.
"أما حوادثُ لا مبدا لأوّلها
…
فذاك من أغرب المحكي وأعجَبِهِ
قصَّرت في الفهم فاقصر في الكلام فما
…
ذا عُشُّك ادرُجْ فما صقرٌ كعُنْظُبِهِ (1)
لو قلتَ قال كذا ثم الجواب كذا
…
لبان مُخطِئُ قولٍ من مُصَوِّبِهِ
أجْمَلْتَ قولاً فأجملتُ الجوابَ ولو
…
فصَّلتَ فصَّلتُ تبياناً لأغرَبِهِ
إن قلتَ كان ولا علم لديه ولا
…
كلام لا قدرةٌ أصلاً كفرتَ بهِ
أو قلتَ أحدثها بعد استحالتها
…
في حقه سَمْتُ نقصٍ ما احتججت بهِ
وكيف يوجدها بعد استحالتها
…
منه أيقدر ميتٌ رفع مَنْكِبِهِ
أو قلتَ فعل اختيار منه ممتنع
…
ضاهيتَ قول امرئ مُغوٍ بأنصُبِهِ
ولم يزل بصفات الفعل مُتَّصفاً
…
وبالكلام بعيداً في تقرُّبِهِ
سبحانه لم يزل ما شاء يفعلُهُ
…
في كلِّ ما زمن ما من معقِّبِهِ
نوعُ الكلام كذا نوعُ الفعالِ قديـ
…
ـم لا المعيَّنُ منه في ترتُّبِهِ
وليس يفهمُ ذو عقلٍ مقارنة الـ
…
ـمفعولِ مع فاعلٍ في نفس مَنْصبِهِ
يُحبُّ يبغض يرضى ثم يغضب ذا
…
من وصفه، أرضه، بُعداً لِمُغضِبِه
والخلقُ ليس هو المخلوق تحسبه
…
بل مصدر قائم بالنفس فادر به
وقول كن ليس بالشيء المكوَّن والصـ
…
ـغير يعرفُ هذا مع تلعُّبِهِ
فالمصطفى قال كان الله قبل ولا
…
شيء سواه تعالى في تحجُّبِهِ" (2).
ويمكن تلخيص المسألة كما يأتي:
أولاً: مذاهب أهل القبلة في تسلسل الحوادث:
1 -
استدل المتكلمون بدليل حدوث العالم على توحيد الربوبية، وزعموا أن مساق دليلهم
(1) العنظب: الجراد الذكر. انظر: لسان العرب (1/ 631).
(2)
الحمية الإسلامية في الانتصار لمذهب ابن تيمية، ص 68 - 75.
يقتضي:
أ- القول بأن الفعل كان ممتنعاً على الله سبحانه وتعالى ثم صار ممكناً، لأنه لو قيل بجواز أن يكون قادراً على الخلق قبل ذلك لأدى ذلك إلى صحة القول بقدم العالم، لأنه ما من زمن يفترض فيه خلق العالم إلا وجائز أن يقع الفعل قبله، لأن الله قديم -عندهم-، وهذا ممتنع - بزعمهم -.
ب- نفي عن الله تعالى أن تقوم به صفات الأفعال، لأنه لما قيل لهم: إن قولكم إن الله خالق العالم بعد أن لم يكن العالم موجوداً هو قول بحلول الحوادث به تعالى، أجابوا بمذهبهم المشهور: إن الخلق هو المخلوق، أما أهل السنة يقولون: إن الفعل غير المفعول؛ فيفرق أهل السنة بين ثلاثة أشياء: الخالق تعالى، وصفة الخلق التي قامت به تعالى كغيرها من الصفات، والمخلوق المنفصل عنه تعالى.
وبناء على شبه المتكلمين في منع التسلسل، صارت أقوالهم في التسلسل في الآثار على قسمين:
- منعه في الماضي والمستقبل، وهذا قول جهم والعلاف، وحجة هؤلاء أنه إذا كان ممتنعاً في الماضي فيجب أن يكون ممتنعاً في المستقبل، فقال الجهم: بفناء الجنة والنار، وقال العلاف:
بفناء حركات أهلهما.
- منعه في الماضي وتجويزه في المستقبل، وهذا القول المشهور عند أهل الكلام الذين يقولون بدوام نعيم الجنة (1).
2 -
قال الفلاسفة: إن العلة التامة التي تسمى المؤثر يجب أن يقارنه معلوله في الزمان بحيث لا يتأخر عنه، وهذا سبب قولهم بقدم العالم (2).
(1) انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 996 - 998)، د. عبدالرحمن المحمود، الطبعة الأولى 1415، مكتبة الرشد، الرياض.
(2)
انظر: درء تعارض العقل والنقل (8/ 270).
ولما رأى الفلاسفة دليل المتكلمين في إثبات حدوث العالم اعترضوا عليهم بأن في ذلك -لم يكن قادراً ثم صار قادراً- ترجيحاً لأحد طرفي الممكن بلا مرجح، والترجيح لابد له من مرجح تام يجب به، ثم قالوا: والقول بوجود سبب يقتضي الترجيح يحتاج إلى سبب آخر وهكذا إلى غير نهاية فيلزم التسلسل وهو ممتنع عندكم، فوقع المتكلمون في مأزق لم يستطيعوا التخلص منه وقامت عليهم الشناعات في هذا الموضع، يقول شيخ الإسلام:"وهذا قول أكثر المعتزلة والأشعرية وغيرهم: يقرون بالصانع المحدث من غير تجدد سبب حادث، ولهذا قامت عليهم الشناعات في هذا الموضع وقال لهم الناس: هذا ينقض الأصل الذي أثبتم به الصانع، وهو أن الممكن لا يترجح أحد طرفيه على الآخر إلا بمرجح؛ فإذا كانت الأوقات متماثلة، والفاعل على حال واحدة لم يتجدد فيه شيء أزلاً وأبداً، ثم اختص أحد الأوقات بالحدوث فيه، كان ذلك ترجيحاً بلا مرجح"(1).
3 -
لما رأى شيخ الإسلام ابن تيمية بطلان مذهب الفلاسفة وأدلة المتكلمين حول إثبات الصانع وحدوث العالم، خاض فيها مضطراً لبيان الحق في المسألة، فقال: "والمقصود هنا أن
هؤلاء المتكلمين الذين جمعوا في كلامهم بين حق وباطل، وقابلوا الباطل بباطل، وردوا البدعة ببدعة، لما ناظروا الفلاسفة وناظروهم في مسألة حدوث العالم ونحوها استطال عليهم الفلاسفة لما رأوهم قد سلكوا تلك الطريق التي هي فاسدة عند أئمة الشرع والعقل، وقد اعترف حذاق النظار بفسادها، فظن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بامتناع حوادث لا أول لها، وأقاموا الدليل على دوام الفعل، لزم من ذلك قدم هذا العالم ومخالفة نصوص الأنبياء وهذا جهل عظيم، فإنه ليس للفلاسفة ولا لغيرهم دليل واحد عقلي صحيح يخالف شيئاً من نصوص الأنبياء، وهذه مسألة حدوث العالم وقدمه، لا يقدر أحد من بني آدم أن يقيم دليلاً على قدم الأفلاك أصلاً، وجميع ما ذكروه ليس فيه ما يدل على قدم شيء بعينه من العالم
(1) درء تعارض العقل والنقل (8/ 107).
أصلاً، وإنما غايتهم أن يدلوا على قدم نوع الفعل، وأن الفاعل لم يزل فاعلاً، وأن الحوادث لا أول لها، ونحو ذلك مما لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم، وهذا لا يخالف شيئاً من نصوص الأنبياء، بل يوافقها؛ وأما النصوص المتواترة عن الأنبياء بأن الله خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام وأن الله خالق كل شيء، فكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن، فلا يمكن أحداً أن يذكر دليلاً عقلياً يناقض هذا
…
" (1).
وقال في موضع آخر: "أنهم -أي المتكلمين- لما اعتقدوا أن هذا هو دين الإسلام أخذوا يحتجون عليه بالحجج العقلية المعروفة لهم، وعمدتهم التي هي أعظم الحجج، مبناها على امتناع حوادث لا أول لها، وبها أثبتوا حدوث كل موصوف بصفة، وسموا ذلك إثباتاً لحدوث الأجسام، فلزمهم على ذلك نفي صفات الرب عز وجل، وأنه ليس له علم ولا قدرة ولا كلام يقوم به، بل كلامه مخلوق منفصل عنه
…
وكان ذلك مما سلط الدهرية القائلين بقدم العالم، لما علموا حقيقة قولهم وأدلتهم وبينوا فساده، ثم لما ظنوا أن هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم واعتقدوا أنه باطل، قالوا: إن الرسول لم يبين الحقائق، سواء علمها أو لم يعلمها، وإنما خاطب الجمهور بما يخيل لهم وما ينتفعون به، فصار أولئك المتكلمون النفاة مخطئين في السمعيات والعقليات، وصار
خطؤهم من أكبر أسباب تسلط الفلاسفة، لما ظن أولئك الفلاسفة الدهرية أنه ليس في هذا المطلوب إلا قولان: قول أولئك المتكلمين وقولهم؛ وقد رأوا أن قول أولئك باطل، فجعلوا ذلك حجة في تصحيح قولهم، مع أنه ليس للفلاسفة الدهرية على قولهم بقدم الأفلاك حجة عقلية أصلاً، وكان من أعظم أسباب هذا أنهم لم يحققوا معرفة ما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم " (2).
وموقف شيخ الإسلام ابن تيمية إجمالاً هو: جواز تسلسل المخلوقات في الماضي والمستقبل، وأنه تعالى لم يزل مريداً، خالقاً، فاعلاً، فما من زمن يفترضه العقل حدًّا لابتداء الخلق إلا أمكنه أن يتصور قبله زماناً وقع فيه الخلق، فيكون هذا الزمان الآخر سابقاً له،
(1) درء تعارض العقل والنقل (8/ 279 - 280).
(2)
مجموع الفتاوى (18/ 224 - 225).
وماتصوره العقل في الثاني يصدق عليه ما صدق على الأول، وهكذا إلى ما لا نهاية، مع القطع بأن أعيان الحوادث مخلوقة كائنة بعد أن لم تكن (1).
ثانياً: أقوال أهل السنة في تسلسل الحوادث:
أما أقوال أهل السنة في المسألة فهي على ما يأتي:
القول الأول: أن جنس الحوادث لا أول له، وأن القول بأن جنس الحوادث له أول يلزم منه أنه سبحانه كان معطلاً عن الصنع في الماضي -تعالى عن ذلك-، فصفة الخلق لابد لها من مفعول، وأنه كما أن صفة الكلام قديمة النوع حادثة الآحاد فكذلك صفة الخلق قديمة النوع حادثة الآحاد، وأن من عسر عليه فهم هذا فليعتبر بما لا يزال يخلق في الجنة من أنواع النعيم كقوله تعالى:{أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} [الرعد: من الآية 35] فثمرها الذي يؤكل لا ينقطع، ثمرة بعد ثمرة، وإن كان أعيان الثمار فانياً، فكذلك جنس الحوادث لا أول له وإن كان أعيانها حادثة، وأن الأحاديث الواردة في أول الخلق المقصود فيها هو: أول هذا العالم المشهود لا جنس الحوادث، وذهب إلى هذا شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم فقال:
"والآخرون أولو الحديث كأحمد
…
ذاك ابن حنبل الرضى الشيباني
قد قال إن الله حقاً لم يزل
…
متكلماً إن شاء ذو إحسان
جعل الكلام صفات فعل قائم
…
بالذات لم يفقد من الرحمن
وكذا نص على دوام الفعل بالـ
…
إحسان أيضاً في مكان ثان
وكذا ابن عباس فراجع قوله
…
لما أجاب في مسائل القرآن
وكذا جعفرٌ الإمام الصادق الـ
…
ـمقبول عند الخلق ذي العرفان
قد قال لم يزل المهيمن محسناً
…
براً جواداً عند كل أوان
(1) انظر: مجموع الفتاوى (18/ 210 - 243)؛ النبوات ص 43، المطبعة السلفية، 1386، القاهرة؛ درء تعارض العقل والنقل (8/ 270).
وكذا الإمام الدرامي فإنه
…
قد قال ما فيه هدى الحيران
قال الحياة مع الفعال كلاهما
…
متلازمان فليس يفترقان
صدق الإمام فكل حي فهو فعا
…
ل وذا في غاية التبيان
إلا إذا ما كان ثم موانع
…
من آفة أو قاسر الحيوان
والرب ليس لفعله من مانع
…
ما شاء كان بقدرة الديان
ومشيئتة الرحمن لازمة له
…
وكذاك قدرة ربنا الرحمن
هذا وقد فطر الإله عباده
…
أن المهيمن دائم الإحسان
أولست تسمع قول كل موحد
…
يا دائم المعروف والسلطان
وقديم الإحسان الكثير ودا
…
ئم الجود وصاحب الغفران
من غير إنكار عليهم فطرة
…
فطروا عليها لا تواص ثان
أو ليس فعل الرب تابع وصفه
…
وكماله أفذاك ذو حدثان
وكماله سبب الفعال وخلقه
…
أفعالهم سبب الكمال الثاني
أو ما فعال الرب عين كماله
…
أفذاك ممتنع على المنان
أزلاً إلى أن صار فيما لم يزل
…
متمكناً والفعل ذو إمكان
تالله قد ضلت عقول القوم إذ
…
قالوا بهذا القول ذي البطلان
ماذا الذي أضحى له متجدداً
…
حتى تمكن فانطقوا ببيان
والرب ليس معطلاً عن فعله
…
بل كل يوم ربنا في شان (1)
إلى أن قال:
هذا وما دون المهيمن حادث
…
ليس القديم سواه في الأكوان
والله سابق كل شيء غيره
…
ما ربنا والخلق يقترنان (2)
(1) توضيح المقاصد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم (1/ 345 - 346)، لأحمد بن عيسى، الطبعة الثالثة 1406، المكتب الإسلامي، بيروت.
(2)
توضيح المقاصد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم (1/ 353).
ثم قال:
فلئن زعمتم أن ذاك تسلسل
…
قلنا صدقتم وهو ذو إمكان
كتسلسل التأثير في مستقبل
…
هل بين ذينك قط من فرقان
والله ما افترقا لذي عقل ولا
…
نقل ولا نظر ولا برهان
في سلب إمكان ولا في ضده
…
هذي العقول ونحن ذو أذهان
فليأت بالفرقان من هو فارق
…
فرقاً يبين لصالح الأذهان
وكذاك سوى الجهم بينهما كذا
…
العلاف في الانكار والبطلان
ولأجل ذا حكما بحكم باطل
…
قطعاً على الجنات والنيران
فالجهم أفنى الذات والعلاف
…
للحركات أفنى قاله الثوران
وأبو علي وابنه الأشعري
…
وبعده ابن الطيب الرباني
وجميع أرباب الكلام الباطل الـ
…
مذموم عند أئمة الإيمان
فرقوا وقالوا ذاك فيما لم يزل
…
حق وفي أزل بلا إمكان
قالوا لأجل تناقض الأزلي والـ
…
أحداث ما هذان يجتمعان
لكن دوام الفعل في مستقبل
…
ما فيه محذور من النكران
فانظر إلى التلبيس في ذا الفرق تر
…
وريجاً على العوران والعميان
ما قال ذو عقل بأن الفرد ذو
…
أزل لذي ذهن ولا أعيان
بل كل فرد فهو مسبوق بفر
…
د قبله أبداً بلا حسبان
ونظير هذا كل فرد فهو ملـ
…
ـحوق بفرد بعده حكمان
النوع والآحاد مسبوق وملـ
…
ـحوق وكل فهو منها فان
والنوع لا يفنى أخيراً فهو لا
…
يفنى كذلك أولاً ببيان" (1).
وممن قال بهذا القول جمال الدين السرمري رحمه الله كما تقدم، وغيرهم.
(1) توضيح المقاصد في شرح قصيدة الإمام ابن القيم (1/ 368 - 369).
وأما الفرق بين هذا القول وقول الفلاسفة فمن وجوه:
منها: أن أصحاب هذا القول يقررون أن الله متصف بصفات الكمال، كالعلم والإرادة والقدرة والخلق والكلام وغيرها، أما الفلاسفة فينكرون هذه الصفات جميعها، وهذا غاية التعطيل والنقص، ولذلك آلت أقوالهم في التسلسل إلى القول بقدم العالم، وإذا أقروا بوجود الله سموه علة فاضت منها نفوس وعقول وأفلاك بلا إرادة منه، إلى غير ذلك من أقوالهم الفاسدة.
ومنها: أن الفلاسفة لم يفرقوا بين الآحاد والنوع في المفعولات، وقالوا بقدم الآحاد، وهذا هو التسلسل الباطل الممتنع.
ومنها: أنه يلزم على قول الفلاسفة أن لا يحدث في العالم شيء، وهذا باطل مخالف للمحسوس، وقولهم: إن الفلك أزلي مقارن لفاعله بالزمان، وهذا باطل لأن الخالق لابد أن يتقدم على مخلوقة (1).
القول الثاني: منع تسلسل الحوادث في الماضي، وأنه لا يلزم من هذا القول أنه كان معطلاً عن الصنع، فليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري، وأن القول بأن جنس الحوادث لا أول لها يلزم منه القول بأن أعيان الحوادث لا أول
لها، فإن الجملة ليست شيئاً أكثر من الأفراد مجتمعة (2)، وأن الكلام في أن جنس الحوادث لا أول لها دون الأعيان شبيه بالفلسفة وعلم الكلام، وممن ذهب إلى هذا القول -منع تسلسل الحوادث في الماضي- الشيخ الألباني رحمه الله في تعليقه على حديث «إن أول شيء خلق الله تعالى القلم» فقال: "وفيه ردٌّ أيضاً على من يقول بحوادث لا أول لها، وأنه ما من مخلوق إلا وهو مسبوق بمخلوق قبله، وهكذا إلى ما لا بداية له، بحيث لا يمكن أن يقال: هذا أول مخلوق، فالحديث يبطل هذا القول، ويعين أن القلم هو أول مخلوق، فليس قبله قطعاً أي
(1) انظر: موقف ابن تيمية من الأشاعرة (3/ 1003 - 1004)
(2)
انظر: ابن تيمية السلفي ص 122، 127 - 128، لمحمد خليل هراس، الطبعة الأولى 1404، دار الكتب العلمية، بيروت.
مخلوق؛ ولقد أطال ابن تيمية رحمه الله في الكلام في رده على الفلاسفة محاولاً إثبات حوادث لا أول لها، وجاء في أثناء ذلك بما تحار فيه العقول، ولا تقبله أكثر القلوب، حتى اتهمه خصومه بأنه يقول بأن المخلوقات قديمة لا أول لها، مع أنه يقول ويصرح بأن ما من مخلوق إلا وهو مسبوق بالعدم، ولكنه مع ذلك يقول بتسلسل الحوادث إلى ما لا بداية له، كما يقول هو وغيره بتسلسل الحوادث إلى ما لا نهاية، فذلك القول منه غير مقبول، بل مرفوض بهذا الحديث، وكم كنا نود أن لا يلج ابن تيمية رحمه الله هذا المولج، لأن الكلام فيه شبيه بالفلسفة وعلم الكلام الذي تعلمنا منه التحذير والتنفير منه، ولكن صدق الإمام مالك رحمه الله حين قال: ما منا من أحد إلا رَدَّ ورُدَّ عليه إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم " (1).
وقال في موضع آخر: "قلت: ذكر الشارح هنا أن العلماء اختلفوا: هل القلم أول المخلوقات أو العرش؟ على قولين لا ثالث لهما، وأنا وإن كان الراجح عندي الأول، كما كنت صرحت به في تعليقي عليه
…
فإني أقول الآن: سواء كان الراجح هذا أم ذاك، فالاختلاف المذكور يدل بمفهومه على أن العلماء اتفقوا على أن هناك أول مخلوق، والقائلون بحوادث لا أول لها، مخالفون لهذا الاتفاق، لأنهم يصرحون بأن ما من مخلوق إلا وقبله مخلوق، وهكذا إلى ما لا أول له، كما صرح بذلك ابن تيمية في بعض كتبه، فإن قالوا: العرش أول مخلوق، كما هو
ظاهر كلام الشارح، نقضوا قولهم بحوادث لا أول لها، وإن لم يقولوا بذلك خالفوا الاتفاق، فتأمل هذا فإنه مهم، والله الموفق" (2).
ولعل من الذين ذهبوا إلى هذا القول الإمام الطحاوي رحمه الله كما رجح ذلك الإمام ابن أبي العز عند شرحه على قول الإمام الطحاوي: "ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري"(3) يشير أنه موصوف بهذه الصفات وإن لم تظهر آثارها، وأنه لا يلزم من القول بأن جنس الحوادث لها أول أنه كان معطلاً عن الصنع، وهذا مخالف لقول
(1) سلسلة الأحاديث الصحيحة (1/ 258)، لمحمد ناصر الدين الألباني، مكتبة المعارف، الرياض.
(2)
العقيدة الطحاوية شرح وتعليق ص 20 - 21، لمحمد ناصر الدين الألباني.
(3)
شرح العقيدة الطحاوية، ص 87.
من يقول: أن صفة الخلق تستلزم المفعول.
القول الثالث: التوقف في المسألة، وأن هذه من الغيبيات التي لم يخبرنا الله تعالى عنها، وممن ذهبوا إلى هذا الشيخ ابن جبرين رحمه الله فقال:"ونتوقف عن تسلسل الحوادث في الماضي، ونقول: الأمر غيبٌ، ولم يخبرنا الله تعالى بشيء من ذلك، وليس لنا التدخل في هذه الأمور، لأنها من الأمور التي لا يضر جهلها، ولا يفيد علمها، وقد توقع في شيء من الحيرة والاضطراب، والمسلم عليه أن يقتصر على ما فيه فائدة له في العقيدة، وأنه يعتقد ما ينفعه، ويكون دافعاً له لمعرفة ربه بأسمائه وصفاته، وإلى التقرب إلى الله تعالى بموجب تلك الأسماء"(1).
هذا ما وقفت عليه من أقوال أهل السنة في مسألة تسلسل الحوادث، وقد قصدت توضيح الأقوال باختصار، وليس حصر القائلين.
رأي الباحث في مسألة تسلسل الحوادث:
لا ريب أن المسألة بتفصيلاتها ولوازمها دقيقة المنزع، وعرة المسلك، بعيدة الغور، إلا أن هناك أصلين من أقر بهما فقد برئ من البدعة، وهما مما أجمع عليه أهل السنة حتى المختلفون في
بعض تفاصيل المسألة، وإنما وقع الخلاف في لوازم الأقوال أنها تقدح في أحد هذين الأصلين:
1 -
أن الله تعالى لم يزل مريداً، خالقاً، فاعلاً، فلم يأت عليه زمن كان معطلاً فيه عن صفة الخلق؛ وهذا الأصل ضل فيه المتكلمون.
2 -
أن أعيان الحوادث مخلوقة كائنة بعد أن لم تكن؛ وهذا الأصل ضل فيه الفلاسفة.
(1) الرياض الندية على شرح العقيدة الطحاوية (1/ 454)، تعليق: د. عبدالله عبدالرحمن الجبرين، الطبعة الأولى 1431، دار الصميعي، الرياض.