الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
الاستثناء في الإيمان
المراد بالاستثناء في الإيمان: هو قول الرجل: "أنا مؤمن إن شاء الله"، وهذه المسألة مرتبط بالكلام في المبحثين السابقين، وثمرة من ثمرات الخلاف فيهما، وحاصل الأقوال التي قيلت في
المسألة على ثلاثة أقوال قد جلاها شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فقال: "وأما الاستثناء في الإيمان بقول الرجل: أنا مؤمن إن شاء الله، فالناس فيه على ثلاثة أقوال: منهم من يوجبه، ومنهم من يحرمه، ومنهم من يجوز الأمرين باعتبارين وهذا أصح الأقوال.
فالذين يحرمونه: هم المرجئة والجهمية ونحوهم ممن يجعل الإيمان شيئًا واحدًا يعلمه الإنسان من نفسه كالتصديق بالرب ونحو ذلك مما في قلبه، فيقول أحدهم: أنا أعلم أني مؤمن كما أعلم أني تكلمت بالشهادتين وكما أعلم أني قرأت الفاتحة وكما أعلم أني أحب رسول الله وأني أبغض اليهود والنصارى، فقولي: أنا مؤمن كقولي: أنا مسلم وكقولي: تكلمت بالشهادتين وقرأت الفاتحة وكقولي: أنا أبغض اليهود والنصارى، ونحو ذلك من الأمور الحاضرة التي أنا أعلمها وأقطع بها، وكما أنه لا يجوز أن يقال: أنا قرأت الفاتحة إن شاء الله، كذلك لا يقول: أنا مؤمن إن شاء الله، لكن إذا كان يشك في ذلك فيقول: فعلته إن شاء الله، قالوا: فمن استثنى في إيمانه فهو شاك فيه وسموهم الشكاكة.
والذين أوجبوا الاستثناء لهم مأخذان: أحدهما أن الإيمان هو ما مات عليه الإنسان، والإنسان إنما يكون عند الله مؤمناً وكافراً باعتبار الموافاة وما سبق في علم الله أنه يكون عليه وما قبل ذلك لا عبرة به، قالوا: والإيمان الذي يتعقبه الكفر فيموت صاحبه كافراً ليس بإيمان كالصلاة التي يفسدها صاحبها قبل الكمال، وكالصيام الذي يفطر صاحبه قبل الغروب، وصاحب هذا هو عند الله كافر لعلمه بما يموت عليه، وكذلك قالوا في الكفر، وهذا المأخذ مأخذ كثير من المتأخرين من الكلابية وغيرهم ممن يريد أن ينصر ما اشتهر عن أهل السنة
والحديث من قولهم: أنا مؤمن إن شاء الله، ويريد مع ذلك أن الإيمان لا يتفاضل، ولا يشك الإنسان في الموجود منه وإنما يشك في المستقبل، وانضم إلى ذلك أنهم يقولون: محبة الله ورضاه وسخطه وبغضه قديم
…
فهؤلاء يقولون: إذا علم أن الإنسان يموت كافراً لم يزل مريداً لعقوبته فذاك الإيمان الذي كان معه باطل لا فائدة فيه بل وجوده كعدمه، فليس هذا بمؤمن أصلاً، وإذا علم أنه يموت مؤمناً لم يزل مريداً لإثابته وذاك الكفر الذي فعله وجوده كعدمه، فلم يكن هذا
كافرا عندهم أصلاً، فهؤلاء يستثنون في الإيمان بناء على هذا المأخذ، وكذلك بعض محققيهم يستثنون في الكفر مثل أبي منصور الماتريدي فإن ما ذكروه مطرد فيهما
…
" (1).
وقال في موضع آخر مبيناً مأخذ أهل السنة والجماعة: "والقول الثالث أوسطها وأعدلها: أنه يجوز باعتبار وتركه باعتبار، فإذا كان مقصوده أني لا أعلم أني قائم بكل ما أوجب الله علي وأنه يقبل أعمالي، ليس مقصوده الشك فيما في قلبه، فهذا استثناؤه حسن، وقصده أن لا يُزكي نفسه بأنه عمل عملاً كما أُمر فقبل منه، والذنوب كثيرة والنفاق مخف على عامة الناس"(2).
وقال أيضاً: "والذين استثنوا من السلف والخلف لم يقصدوا في الإنشاء وإنما كان استثناؤهم في إخباره عما قد حصل له من الإيمان فاستثنوا إما أن الإيمان المطلق يقتضي دخول الجنة وهم لا يعلمون الخاتمة كأنه إذا قيل للرجل: أنت مؤمن، قيل له: أنت عند الله مؤمن من أهل الجنة، فيقول: أنا كذلك إن شاء الله، أو لأنهم لا يعرفون أنهم أتوا بكمال الإيمان الواجب"(3).
واستدل أهل السنة على جواز الاستثناء على الأمور اليقينية بأدلة منها:
قوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: من الآية 27] مع العلم أن الله يعلم أنهم سيدخلون لا محالة.
وقال الفضل بن زياد: "سمعت أبا عبد الله يقول: إذا قال: أنا مؤمن إن شاء الله فليس هو
(1) مجموع الفتاوى (7/ 229 - 231).
(2)
مجموع الفتاوى (13/ 41).
(3)
مجموع الفتاوى (13/ 42).
بشاك، قيل له: إن شاء الله، أليس هو شكاً؟ فقال: معاذ الله، أليس قد قال الله تعالى {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ} [الفتح: من الآية 27] وفي علمه أنهم يدخلونه، وصاحب القبر إذا قيل له: وعليه تبعث إن شاء الله، فأي شك هاهنا؟ وقال النبي صلى الله عليه وسلم:«وإنا إن شاء الله بكم لاحقون» " (1).
وعن الأثرم قال: "حدثنا أبو عبدالله -يعني الإمام أحمد- بحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله»، فقال: هذا أيضاً أرجو، أي هو حجة في الاستثناء في الإيمان، أي: إنه قال أرجو وهو أخشاهم"(2).
ولم أقف على كلام صريح للإمام جمال الدين السرمري رحمه الله في مسألة الاستثناء في الإيمان، لكنه ممن يرى أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص كما تقدم، ومن قال بهذين الأصلين قال بالاستثناء في الإيمان.
قال الخلال: "دخل عليه -أي الإمام أحمد- شيخ فسأله عن الإيمان، فقال له: قول وعمل، يزيد وينقص، فقال له: أقول: مؤمن إن شاء الله؟ قال: نعم، فقال له: إنهم يقولون لي: إنك شاك، قال: بئس ما قالوا، ثم خرج، فقال: ردوه، فقال: أليس يقولون: الإيمان قول وعمل يزيد وينقص؟ قال: نعم، قال: هؤلاء يستثنون، قال له: كيف يا أبا عبد الله؟ قال: قل لهم: زعمتم أن الإيمان قول وعمل، فالقول قد أتيتم به، والعمل لم تأتوا به، فهذا الاستثناء لهذا العمل"(3).
(1) الشريعة للآجري (3/ 660).
(2)
رواه الخلال في السنة (3/ 596 - 597) ح 1055، قال محقق الكتاب -د. عطية الزهراني-:"إسناده صحيح".
(3)
مجموع الفتاوى (7/ 451).