الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصحيح، والدين الخالص.
ولقد سار الإمام جمال الدين السرمري على هذا النهج في حراسة الدين وإبطال البدع،
يوضح ذلك رده على تقي الدين السبكي لما شنع على شيخ الإسلام ابن تيمية رده رفض ابن مطهر الحلي، حين قال السبكي:
"والناس في غُنية عن ردِّ إفكهمُ
…
لهجنة الرفض واستقباح مذهبه" (1).
فرد عليه الإمام جمال الدين السرمري ببيان وجوب حراسة الدين وإبطال البدع، وأن هذا هو منهاج الأئمة، بل هذا داخل دخولاً أولياً في شريعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقال:
"والله لا غنية عن رد إفكهم
…
بل رده واجب أعظم بموجبه
أيتركون يسبون الصحابة والـ
…
إسلام يختال زهواً في تصلبه
هذا مقال شنيع لم يقل أحد
…
به ولا رهط جهم في تحزبه
والله لولا سيوف من أئمتنا
…
في كاهل الرفض لا تُلْوى ومنكبه
لأضحت السنة الغراء دائرة
…
بين البرية كالعنقا وأغربه
إلى أن قال:
أيترك الأمر بالمعروف مطرحاً
…
والنهي عن منكر ما من يقول به
كلا ومن رفع السبع الطباق على
…
وجه الثرى وتعالى في تحجبه" (2).
ثانياً: الهجر:
الأصل في الشرع هو هجر المبتدع، لكن ليس عاماً في كل حال ومن كل إنسان ولكل مبتدع، ومشروعية الهجر هي في دائرة ضوابطه الشرعية المبنية على رعاية المصالح ودرء المفاسد،
(1) ذكرها التاج السبكي في ترجمة أبيه التقي السبكي في "طبقات الشافعية الكبرى"(10/ 176).
(2)
الحمية الإسلامية، ص 58 - 60.
وهذا مما يختلف باختلاف البدعة نفسها واختلاف مبتدعها واختلاف أحوال الهاجرين، واختلاف المكان والقوة والضعف، والقلة والكثرة، وهكذا من وجوه الاختلاف والاعتبار التي
يرعاها الشرع.
وميزانها للمسلم الذي به تنضبط المشروعية هو: مدى تحقق المقاصد الشرعية من الهجر: من الزجر، والتأديب، ورجوع العامة، وتحجيم المبتدع وبدعته وضمان السنة من شائبة البدعة.
ويحسن هنا أن أنقل بالنص فتوى شيخ الإسلام رحمه الله حول أحكام الهجر، وحكمته، فقد سئل رحمه الله عمن يجب أو يجوز بغضه أو هجره أو كلاهما لله تعالى؟ وماذا يشترط على الذي يبغضه أو يهجره لله تعالى من الشروط؟ وهل يدخل ترك السلام في الهجران؟ وإذا بدأ المهجور بالسلام فهل يجب الرد عليه أم لا؟ وهل يستمر البغض والهجران لله عز وجل حتى يتحقق زوال الصفة المذكورة التي أبغضه وهجره عليها؟ أم هل يكون لذلك مدة معلومة؟ فإن كان لها مدة معلومة فما حدها؟
فأجاب رحمه الله: "الهجر الشرعي نوعان: أحدهما بمعنى الترك للمنكرات، والثاني: بمعنى العقوبة عليها.
فالأول: هو المذكور في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 68]، وقوله تعالى:{وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ} [النساء: من الآية 140].
فهذا يراد به أنه لا يشهد المنكرات لغير حاجة مثل قوم يشربون الخمر يجلس عندهم، وقوم دعوا إلى وليمة فيها خمر وزمر لا يجيب دعوتهم، وأمثال ذلك؛ بخلاف من حضر عندهم للإنكار عليهم، أو حضر بغير اختياره، ولهذا يقال: حاضر المنكر كفاعله، وفي الحديث:«من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يشرب عليها الخمر» ، وهذا الهجر من
جنس هجر الإنسان نفسه عن فعل المنكرات، كما قال صلى الله عليه وسلم:«المهاجر من هجر ما نهى الله عنه»
ومن هذا الباب الهجرة من دار الكفر والفسوق إلى دار الإسلام والإيمان، فإنه هجر للمقام بين الكافرين والمنافقين الذين لا يمكنونه من فعل ما أمر الله به، ومن هذا قوله تعالى:{وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدَّثر: 5].
النوع الثاني: الهجر على وجه التأديب، وهو هجر من يظهر المنكرات، يُهجر حتى يتوب منها، كما هجر النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمون الثلاثة الذين خلفوا حتى أنزل الله توبتهم حين ظهر منهم ترك الجهاد المتعيّن عليهم بغير عذر، ولم يهجر من أظهر الخير وإن كان منافقاً، فهنا الهجر هو بمنزلة التعزير.
والتعزير يكون لمن ظهر منه ترك الواجبات وفعل المحرمات: كتارك الصلاة والزكاة والتظاهر بالمظالم والفواحش والداعي إلى البدع المخالفة للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة التي ظهر أنها بدع.
وهذه حقيقة قول من قال من السلف والأئمة: إن الدعاة إلى البدع لا تقبل شهادتهم، ولا يصلى خلفهم، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون.
فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا؛ ولهذا يُفرقون بين الداعية وغير الداعية، لأن الداعية أظهر المنكرات فاستحق العقوبة بخلاف الكاتم فإنه ليس شراً من المنافقين الذين كان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل علانيتهم ويكل سرائرهم إلى الله مع علمه بحال كثير منهم، ولهذا جاء في الحديث:«إن المعصية إذا خفيت لم تضر إلا صاحبها، ولكن إذا أعلنت فلم تنكر ضرت العامة» ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوْشَك أن يعمهم الله بعقاب منه» ، فالمنكرات الظاهرة يجب إنكارها، بخلاف الباطنة فإن عقوبتها على صاحبها خاصة، وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم، فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث
يُفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعاً، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر،
بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر، والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي يتألف قوماً ويهجر آخرين
…
وإذا عرف هذا فالهجرة هي من الأعمال التي أمر الله بها ورسوله، فالطاعة لابد أن تكون خالصة لله وأن تكون موافقة لأمره فتكون خالصة لله صواباً، فمن هجر لهوى نفسه أو هجر هجراً غير مأمور به، كان خارجاً عن هذا، وما أكثر ما تفعل النفوس ما تهواه ظانة أنها تفعله طاعة لله
…
" (1).
وقد نقل ابن حجر رحمه الله أقوال الأئمة في هذه المسألة عند تبويب البخاري (باب من لم يُسلم على من اقترف ذنباً)، فقال: "وقد ذهب الجمهور إلى أنه لا يسلم على الفاسق ولا المبتدع، قال النووي: فإن اضطر إلى السلام بأن خاف ترتب مفسدة في دين أو دنيا إن لم يسلم سلم، وكذا قال ابن العربي وزاد: وينوي أن السلام اسم من أسماء الله تعالى، فكأنه قال: الله رقيب عليكم، وقال المهلب ترك السلام على أهل المعاصي سنة ماضية وبه قال كثير من أهل العلم في أهل البدع،
…
وحكى ابن رشد قال: قال مالك: لا يسلم على أهل الأهواء، قال ابن دقيق العيد: ويكون ذلك على سبيل التأديب لهم والتبري منهم" (2).
وقد قرر الإمام جمال الدين السرمري رحمه الله هذا المنهج في التعامل مع أهل البدع في أكثر من موضع؛ فمن ذلك قوله عند الحديث الوارد في النهي عن التهاجر والتشاجر: "يشترط في هذه الهجرة أن تكون في غير ذات الله تعالى، كمن هجر مسلماً غير مبتدع، بل لحظ النفس، فذلك الذي لا يجوز هجره أكثر من ثلاثة أيام، وهو الذي يُحبس عن دخول الجنة؛ وأما إن كان الهجر لبدعة، فهو مندوب إليه، ويثاب المسلم عليه، ولا يجوز أن يُسَلَّم عليه ما دام على بدعته، لأنه ورد أن: من سلَّم على صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام"(3).
(1) مجموع الفتاوى (28/ 203 - 207).
(2)
فتح الباري (11/ 40).
(3)
الأربعون الصحيحة، ص 71.
وقال في كتاب الأدب من كتابه إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة: "ولا تهجر مسلماً
فوق ثلاث إلا لبدعة" (1).
وقال في منظومته في الاعتقاد:
"ومن كان بدعيًّا أُمرنا بهجره
…
وقلنا لهم لا قوه بالزجر لا البشر" (2).
(1) إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 668.
(2)
نهج الرشاد، ص 36.