الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول: لزوم الجماعة وذم الفرقة
مفهوم الجماعة:
الجماعة في اللغة: مأخوذة من الاجتماع، وهو ضد التفرق، يقال: جمع الشيء عن تفرقة فاجتمع، وجمعت الشيء إذا جئت به من هاهنا وهاهنا، وأجمع أمره أي جعله جميعاً بعدما كان متفرقاً، والجمع اسم لجماعة الناس، والجماعة والجميع والمجمع كالجمع، وقد تستعمل الجماعة في غير الناس حتى قالوا: جماعة الشجر، وجماعة النبات (1).
وقال ابن فارس: "الجيم والميم والعين أصل واحد، يدل على تضام الشيء، يقال: جمعت الشيء جمعاً، والجُمَّاع الأُشابه من قبل شتى"(2).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسماً لنفس القوم المجتمعين"(3).
أما مفهوم الجماعة بالمعنى الخاص، فقد اختلف العلماء في المقصود بها على أقوال (4):
1 -
أن الجماعة هم السواد الأعظم من أهل الإسلام، يقول أبو غالب: إن السواد الأعظم هم الناجون من الفرق، فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الحق، ومن خالفهم مات ميتة جاهلية، سواء خالفهم في شيء من الشريعة أو في إمامهم وسلطانهم، فهو مخالف للحق.
وممن قال بهذا عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، فقد روي أنه لما قُتل عثمان سُئل عن الفتنة فقال: "عليك بالجماعة فإن الله لم يكن ليجمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة، واصبر حتى يستريح بر أو
(1) انظر: لسان العرب (8/ 53).
(2)
معجم مقاييس اللغة (1/ 479).
(3)
مجموع الفتاوى (3/ 157).
(4)
انظر: الاعتصام (3/ 209 - 217)، للإمام الشاطبي، تحقيق: د. هشام الصيني، الطبعة الأولى 1429، دار ابن الجوزي، الدمام؛ فتح الباري (13/ 37).
يستراح من فاجر" (1).
فعلى هذا القول يدخل في الجماعة مجتهدو الأمة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون بها، ومن سواهم داخلون في حكمهم، لأنه تابعون لهم ومقتدون بهم، فكل من خرج عن جماعتهم
فهم الذين شذوا، ويدخل في هؤلاء جميع أهل البدع لأنهم مخالفون لمن تقدم من الأمة، لم يدخلوا في سوادهم بحال.
2 -
أن الجماعة هي جماعة أئمة العلماء المجتهدين، فمن خرج عما عليه جماعة علماء الأمة مات ميتة جاهلية، لأن الله تعالى جعلهم حجة على العالمين، وأما العامة فعنها تأخذ دينها، وإليها تفزع في النوازل، وهي تبع لها، وممن قال بهذا عبدالله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وجماعة من السلف وهو رأي الأصوليين، فقيل لعبدالله بن المبارك من الجماعة الذين ينبغي أن يقتدى بهم؟ قال:"أبو بكر وعمر، فلم يزل يحسب حتى انتهى إلى محمد بن ثابت والحسين بن واقد، فقيل: هؤلاء ماتوا، فمن الأحياء؟ قال: أبو حمزة السكري"(2).
فعلى هذا القول لا مدخل في هذا السواد لمن ليس بعالم مجتهد، لأنه داخل في أهل التقليد، فمن عمل منهم بما يخالفهم فهو صاحب الميتة الجاهلية، ولا يدخل فيهم أيضاً أحد المبتدعين، لأن البدعة قد أخرجته عن نمط من يعتد بأقواله.
3 -
أن الجماعة هي جماعة الصحابة على الخصوص، فإنهم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده، وهم الذين لا يجتمعون على ضلالة أصلاً، ولأنهم المتلقون لكلام النبوة الذين فهموا مراد الله بالتلقي من نبيه مشافهة، على علم وبصيرة بمواطن التشريع وقرائن الأحوال بخلاف غيره، فإن فيه لأهل الاجتهاد مجالاً للنظر رداً أو قبولاً، فأهل البدع إذاً غير داخلين فيه، وممن قال بهذا القول عمر بن عبدالعزيز.
4 -
أن الجماعة هي جماعة أهل الإسلام، إذا أجمعوا على أمر فواجب على غيرهم من
(1) الاعتصام (3/ 209).
(2)
الاعتصام (3/ 211).
أهل الملل اتباعهم، وهم الذين ضَمِن الله لنبيه عليه الصلاة والسلام أن لا يجمعهم على ضلالة.
وكأنَّ هذا القول راجع إلى الثاني وهو يقتضي ما يقتضيه، أو يرجع إلى القول الأول وهو الأظهر، وفيه من المعنى ما في الأول من أنه لابد من كون المجتهدين فيهم، وعند ذلك لا يكون
مع اجتماعهم على هذا القول بدعة أصلاً.
5 -
أن الجماعة هي جماعة المسلمين إذا اجتمعوا على أمير، وقد اختار هذا القول الإمام الطبري؛ وحاصل هذا القول أن الجماعة راجعة إلى الاجتماع على الإمام الموافق للكتاب والسنة، وذلك ظاهر في أن الاجتماع على غير سنة خارج عن معنى الجماعة كالخوارج ومن جرى مجراهم.
والذي يظهر أنه لا تعارض بين هذه الأقوال إذ الجماعة هي من كان على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام والتابعون ومن تبعهم بإحسان، فمن وافقهم فهو من الجماعة، وإن كان فرداً، ومن خالفهم فهو من أهل الشذوذ والفرقة وإن كثر عددهم.
قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: "إنما الجماعة ما وافق طاعة الله وإن كنت وحدك"(1).
وقال أبو شامة: "وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة فالمراد به لزوم الحق واتباعه وإن كان المتمسك بالحق قليلاً والمخالف كثيراً لأن الحق الذي كانت عليه الجماعة الأولى من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ولا نظر إلى كثرة أهل الباطل بعدهم"(2).
وقال ابن القيم: " واعلم أن الإجماع والحجة والسواد الأعظم هو العالم صاحب الحق وإن كان وحده وإن خالفه أهل الأرض
…
وقال بعض أئمة الحديث وقد ذكر له السواد الأعظم فقال: أتدري ما السواد الأعظم هو محمد بن أسلم الطوسي وأصحابه! فمُسخ المختلفون الذين
(1) شرح أصول اعتقاد أهل السنة (1/ 122) ح 160.
(2)
الباعث على إنكار البدع والحوادث ص 22، لأبي شامة المقدسي، تحقيق: عثمان أحمد عنبر، الطبعة الأولى 1398، دار الهدى، القاهرة.
جعلوا السواد الأعظم والحجة والجماعة هم الجمهور وجعلوهم عياراً على السنة وجعلوا السنة بدعة والمعروف منكراً لقلة أهله وتفردهم في الإعصار والأمصار وقالوا: من شذ شذ الله به في النار، وما عرف المختلفون أن الشاذ ما خالف الحق وإن كان الناس كلهم عليه إلا واحداً منهم فهم الشاذون، وقد شذ الناس كلهم زمن احمد بن حنبل إلا نفراً يسيراً فكانوا هم الجماعة،
وكانت القضاة حينئذ والمفتون والخليفة وأتباعه كلهم هم الشاذون، وكان الإمام أحمد وحده هو الجماعة" (1).
الحث على لزوم الجماعة وذم التفرق:
جاءت النصوص الدالة على لزوم الجماعة والتمسك بها كثيرة ومتضافرة، قال تعالى:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: من الآية 103].
وقوله جل جلاله: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: من الآية 105].
وقوله جل جلاله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: من الآية 153].
وقوله عز وجل: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: من الآية 13].
وعن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: خطبنا عمر بالجابية فقال: يا أيها الناس، إني قمت فيكم كمقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا فقال: «أوصيكم بأصحابي، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف، ويشهد الشاهد ولا يستشهد، ألا
(1) إعلام الموقعين (3/ 398).
لا يخلون رجل بامرأة إلا كان ثالثهما الشيطان، عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو مع الاثنين أبعد، من أراد بحبوبة الجنة فيلزم الجماعة
…
» (1).
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة
الإسلام من عنقه» (2).
وقد ذكر الإمام جمال الدين السرمري فيما يندرج تحت هذا المبحث الأحاديث الواردة بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة في فصل قتال الخوارج والبغاة (3).
وما أشار إليه الإمام جمال الدين السرمري هو منهج أهل السنة والجماعة في هذا الباب.
قال الإمام البربهاري: "اعلموا أن الإسلام هو السنة، والسنة هي الإسلام، ولا يقوم أحدهما إلا بالآخر، فمن السنة لزوم الجماعة، فمن رغب غير الجماعة وفارقها فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه، وكان ضالاً مضلاً"(4).
وقد عقد الإمام الآجري باباً في ذكر الأمر بلزوم الجماعة والنهي عن الفرقة، ومما قال فيه:" أمرنا عز وجل بلزوم الجماعة، ونهانا عن الفرقة، وكذلك حذرنا النبي صلى الله عليه وسلم من الفرقة وأمرنا بالجماعة، وكذلك حذرنا أئمتنا ممن سلف من علماء المسلمين كلهم يأمرون بلزوم الجماعة، وينهون عن الفرقة"(5).
كما عقد أيضاً الإمام اللالكائي فصلاً في سياق ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحث على اتباع الجماعة والسواد الأعظم والوعيد عن مفارقة الجماعة.
(1) أخرجه الترمذي (4/ 465) ح 2165، وقال:"هذا حديث حسن صحيح غريب".
(2)
أخرجه أبو داود (4/ 241)، كتاب السنة، باب في قتل الخوارج، ح 4758؛ قال الألباني:"صحيح". انظر: صحيح سنن أبي داود (3/ 167).
(3)
إحكام الذريعة إلى أحكام الشريعة، ص 547 - 458.
(4)
شرح السنة، ص 21.
(5)
الشريعة (1/ 276).