الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إقامة الحجة، والعذر بالجهل:
لقد أفرط كثير من الطلبة والدعاة في مسألة ((إقامة الحجة)) و ((العذر بالجهل)) بحثاً، وانشغالاً بهما، وتنزيلاً لهما على أعيان أو جماعات، هل قامت الحجة عليهم أم لا؟ ! هل يعذرون بالجهل أم لا؟ وحصل بينهم من أجل ذلك قيل وقال، وانشغال عن العلم والعمل والدعوة، بل حصلت بينهم نزاعات وخصومات، أُهدرت فيها طاقات، وضاعت بها الأوقات، وقست فيها القلوب،
واختصاراً يسجل في هذا الباب ما يلي:
يجب على المسلمين الدعوة إلى الله، وبذل كافة الوسائل المستطاعة في ذلك، لإقامة الحجة على الخلق.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: (67)].
وقال صلى الله عليه وسلم: ((بلغوا عني ولو آية)) [رواه البخاري (3274) عن عبد الله بن عمرو].
- إن الحجة قد قامت على الخلق بعامة، ببعث الرسل، وبمن يقوم مقامهم من العلماء والدعاة إلى يوم القيامة.
قال تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: (165)].
وأما تبليغ هذه الحجة، وإقامتها على الأفراد من بعد الرسل، فهو واجب العلماء والدعاة.
- لا ينبغي أن يكون شغل الناشئة الشاغل، بحث هذه القضايا مع أمثالهم، ومع المدعوين، والحكم على الأفراد: هل أقيمت الحجة عليهم أم لا؟ فإن هذا من شأن رب
العالمين، ومن تأمل آيات القرآن، أو غايات الإسلام، وسيرة الرسل والعلماء تبين له ذلك بوضوح.
- يجب أن يكون بحثنا إلى ما ندعو؟ كيف ندعو؟ كيف نقيم الحجة؟ كيف نتحلى بالصبر والاحتساب، مهما طال أمد الدعوة؟ فإن نوحاً عليه الصلاة السلام رغم إقامته الحجة على قومه من أول دعوته، لم يتوقف عن الدعوة، ولم ينشغل أو يعتذر بذلك عن استمرار دعوته، وتبليغه رسالة ربه، خلال هذه السنين الطوال.
- إن بحث قضية إقامة الحجة في الدنيا من شأن ولي الأمر، وأهل الحل والعقد والقضاء؛ وذلك لإقامة موجباتها من حرب، وقتل، واستتابة، وليس من شأن كل من هب ودب، أو دعا، أو طلب العلم.
- تتأكد مصلحة معرفة قيام الحجة على الأفراد، إذا ترتب على معرفتها أحكام شرعية، كالإرث، والصلاة على الميت، والترحم، وكذلك للحكم على عين لمعرفة مسلكه، لأجل اتخاذ موقف منه، أو معرفة أهليته لطلب العلم عنده.
- يتم ذلك بتقدير الأمر تقديراً صحيحاً، من غير إفراط أو تفريط، كالدواء، فإذا ترك الدواء، ازداد السقم، وإذا تجاوز حده ازداد الضرر، ومثله كمثل الذي يتناول الدواء من غير وصفة طبيب، والعلماء أطباء الناشئة، وحكماء الأمة.
- إن إقامة الحجة يحتاج إلى علم صحيح، وتبليغ مبين، وأسلوب قوي، وحكمة بالغة، وحجة داحضة، لبيان الحق، ودفع الباطل، وإزالة الشبه، وعلى هذا فلا يستطيع كل عامي، أو داعية، أو طالب علم، أن يدعي أنه أقام الحجة على كل فرد ممن يدعوهم، فمنهم ومنهم، والأنبياء هم الذين يقطع بإقامتهم الحجة على كل من يدعونهم فرداً فرداً، وذلك لكمال علمهم، وتمام حكمتهم وتقواهم.
ومن فطنة طالب العلم: أن يفرق بين بيان الله ورسله لقوم بلسانهم، وبين بيان الناس بأسلوبهم، فأما بيان الله ورسله فهو تبيين لهم قطعاً، فما أحسن من الله بياناً، ولا أقوى منه
حجة، وعندما يخاطب الله الناس، يخاطبهم بما يعقلون، وهو أعلم بعقولهم وأفهامهم، قال تعالى:{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [تبارك: (14)]. وقد خاطب القرآن قوماً يفهمون ما يخاطبون به، قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم: (4)]. وقال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: (115)].
وأما غير الرسل فمنهم من يقدر على إقامة الحجة، ومنهم من لا يقدر، وذلك لوجود قصور منهم عن علم الأنبياء وحكمتهم، وأسلوبهم من جهة، ولفقدان الناس -بعد طول أمد- فهم اللغة العربية على أصولها التي نزل بها القرآن، وضعف علوم الإسلام عند كثيرين.
- ولذلك لا يستطيع أحد بعد الأنبياء أن يقطع بإقامة الحجة على فرد معين، وإذا كان الإمام الشافعي مع ما آتاه الله من العلم والفقه والحكمة، لم يستطع أن يقيم الحجة على الإمام أحمد، بعدم كفر تارك الصلاة، ولا الإمام أحمد على ما آتاه الله من فضل في العلم والسنة، ما استطاع أن يقيم الحجة على الإمام الشافعي بكفر تارك الصلاة، أفيستطيع ناشئ لا يحسن العربية، أن يدعي أنه أقام الحجة على فرد، أو أفراد، وإذا ادعينا أن الإمامين الشافعي أو أحمد قد أقام أحدهما الحجة على صاحبه، فقد اتهمنا أحد الإمامين بالهوى؛ لأن واحدًا منهما لم يستجب لصاحبه، ولم يترك رأيه، ومعاذ الله من ذلك، وعلى هذا:
فالحكم الأخير، والفصل القطعي في التيقن من قيام الحجة من عدمه، إنما هو من أمر الله وحده، وقضائه يوم القيامة، قال تعالى:{فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} [الرعد: (40)] وقال تعالى: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: (52)] لأن التيقن من قيام الحجة أمر غيبي، لا يطلع عليه إلا الله.
ولا يمنع هذا ذوي الشأن ممن ذكرنا، أن يحكموا بغلبة الظن، أو الظاهر، أو تصريح من المدعو، أو إقرار منه برد الحق، أو ما شابه ذلك.
والمقصود من هذا:
- أن لا يشتغل عامة المسلمين والدعاة وطلبة العلم، في البحث في إقامة الحجة من عدمها عن الاستمرار في الدعوة.
- أن يكون هم الداعية وطالب العلم، العلم والدعوة، وبعبارة أخرى: أن يكون همه كيف يقيم الحجة، ما الذي يجب أن يتعلمه لإقامة الحجة.
- أن لا يتوقف الداعية عن الدعوة إذا ما شعر بإقامة الحجة على آحاد الناس أو عامتهم، وألا يصيبه فتور في ذلك، فإنه لوحظ توقف كثير من الشباب عن الدعوة، إذا ما أحس بأنه أقام الحجة، وقد مضت سنة الأنبياء باستمرارهم بالدعوة إلى الله عز وجل دون النظر إلى مسألة قيام الحجة من عدمها، وقد أشرنا إلى دعوة نوح سابقاً.
- لا ثمرة كبيرة ترجى للدعاة من معرفة إقامة الحجة من عدمها، مثل ثمرة الاستمرار في الدعوة، فإن ثمرة معرفة طلاب العلم والدعاة المبتدئين لطريقة دعوة الناس، ودعوة تارك الصلاة، أعظم من ثمرة معرفة حكم تارك الصلاة، وهذا لا يعني عدم معرفة حكم تارك الصلاة، فإن الباب هاهنا باب علم ودعوة، لا باب فقه وقضاء.
وما يقال في مسألة إقامة الحجة، يقال في مسألة العذر بالجهل، فيما اشتركا فيه من مقصود، من حيث الانشغال، وتوقف الدعوة، وقيام الحكم على الأعيان، وما شابه ذلك.