الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كلام الأقران:
من سنن الله في خلقه: أن يبتلى الأقران بعضهم ببعض، لحسد، أو دنيا، أو مصلحة، أو سوء ظن، أو سوءِ فهمٍ لمسألةٍ مُختلفٍ عليها، مع ما يصحب هذا من فظاظةِ ألفاظٍ، أو سوءِ أخلاقٍ، وتعمد أذية.
وقد يكون كلام بعضهم في بعض تأولاً أو اجتهاداً، كما حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم، فقد قال معاذ في الشابِّ الذي ترك الصلاة وراءه:((منافق)) وكان مؤمناً صادقاً، وقال عمر رضي الله عنه في حاطب:((منافق)) وردَّ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وشهد لحاطب بالإيمان.
وقال علي ومعاوية كلاهما في أخيه ما قال، فلم يلتفت إلى ذلك أهل السنة، وكل من التفت إلى ذلك عُدَّ من أهل البدع والفتن.
قال ابن عبد البر رحمه الله في جامعه [1094](1): "إن السلف رضي الله عنهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير منه في حال الغضب، ومنه ما حمله عليه الحسد، كما قال ابن عباس، ومالك بن دينار، وأبو حازم، ومنه على جهة التأويل مما لا يَلزم المقول فيه ما قال القائل،
…
، ثم قال: ونحن نورد في هذا الباب من قول الأئمة الجلَّة الثقات السادة بعضهم في بعض مما لا يجب أن يلتفت فيهم إليه، ولا يعرج عليه" (2).
وقد استفتح ابن عبد البر الباب الذي أشار إليه بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((دب إليكم داء الأمم من قبلكم، الحسد والبغضاء
…
)) الحديث إشعاراً بأن معظم ما قيل في هذا الباب، هو من باب الحسد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يستثن منه أحداً، عالماً كان أو جاهلاً، وجيهاً كان أو وضيعاً.
(1) معظم هذا البحث ملخص من كتاب ابن عبد البر ((جامع بيان العلم وفضله)) فليتنبه، فمن أراد مصادر الروايات فليرجع إليه.
(2)
وقد رأينا في خصومة الأقران عجائب من الكذب مبنية على احتمالات، وإلزامات لم نجد عند المتهم لها أصلاً، بل هو محض الخصومة والتشفي، فعلى المسلم العاقل أن يحذر من الوقوع في ذلك أو نقله.
وأما قول ابن عباس رضي الله عنه الذي أشار إليه ابن عبد البر، فهو قوله:"خذوا العلم حيث وجدتم، ولا تقبلوا قول الفقهاء بعضهم في بعض، فإنهم يتغايرون كتغاير التيوس في الزريبة".
وأما قول مالك بن دينار فهو: "يؤخذ بقول العلماء والقراء في كل شيء إلا قول بعضهم في بعض، فلهم أشد تحاسداً من التيوس".
ثم ضرب ابن عبد البر رحمه الله في كتابه أمثلة من قول بعضهم في بعض، من الأفضل الإعراض عنها، ولكننا نسوق بعضها باختصار للاعتبار، وليعقلها الأخيار، ويتقي شرها الأبرار -فكن منهم رعاك الله- لعل الله يطفئ بها الفتن.
فقد تكلم الإمام مالك في ابن إسحاق وكذَّبه، وقال:"هذا دجَّال من الدجاجلة" ولم يقبل العلماء قول مالك رغم إمامته، وقبلوا رواية ابن إسحاق ووثَّقوه، وقال ابن وهب، عن عبد الله بن زياد:"ثقة" وكان مالك يقول فيه: "كذَّاب" وردَّ العلماء قول مالك، ومثل هذا الاختلاف كثير جداً.
وتكلم في مالك جماعة من العلماء الأجلاء، منهم إبراهيم بن سعيد، وإبراهيم بن أبي يحيى، وكان يدعو عليه، وعبد العزيز بن أبي سلمة، وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وابن إسحاق، وابن أبي الزناد، وغيرهم، وعابوا أشياء من مذهبه، حتى الإمام الشافعي تحامل عليه، وكذلك بعض أصحاب الإمام أبي حنيفة؛ حسداً، حتى قال ابن أبي ذئب فيه -لمسألة خالف مالك فيها نصاً متأولاً- قال: "يستتاب مالك وإلا يقتل
…
".
ورغم أن جميع من تكلم فيه من أهل السنة، بل من علمائها وأئمتها، ومع ذلك لم يُصْغَ إلى أحد منهم، وعدُّوا ذلك من كلام الأقران.
وأطلق ابن معين لسانه في كثير من الأئمة، في الأوزاعي، والزهري، حتى طال لسانه في الإمام الشافعي، وغيرهم، قال ابن عبد البر: "وقد كان ابن معين -عفا الله عنه- يطلق في أعراض الثقات الأئمة لسانَهُ، بأشياءٍ أُنكرت عليه
…
" وكل الذين تكلم فيهم، هم عند العلماء أعلم منه وأفقه.
ومن أعظم الفتن بعد فتنة الأنبياء التي هي سلوى للمبتلين، وعبرة للسامعين، وردع للغافلين، فتنة الإمام البخاري، إذ حسده بعض شيوخه وأقرانه، ومَنْ هم دون ذلك، وتكلموا فيه، وبدَّعوه، وهجروه، وأمروا الناس بهجره، حتى خرج من بعض البلدان وحيداً، ليس معه أحد إلا الله تعالى، وكفى بالله للمظلومين نصيراً.
وَسِرُّ ذلك: أن البخاري لما قدم نيسابور، بلد محمد بن يحيى، قال لهم محمد بن يحيى:"اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح فاسمعوا منه، فذهب الناس إليه، وأقبلوا على السماع منه، وظهر الخلل في مجلس محمد بن يحيى، فحسده بعد ذلك، وتكلم فيه".
قال أبو حامد الأعمش كما في سير أعلام النبلاء (12/ 455): "رأيت محمد بن إسماعيل في جنازة أبي عثمان سعيد بن مروان، ومحمد بن يحيى -إمام من أئمة أهل الحديث- يسأله عن الأسامي، والكُنى، وعِلَلِ الحديث، ويمرُّ فيه محمد بن إسماعيل مثل السهم، فما أتى على هذا شهر حتى قال محمد بن يحيى: ألا من يختلف إلى مجلسه فلا يختلف إلينا، فإنهم كتبوا إلينا من بغداد أنه تكلَّم في اللفظ، ونهيناه، فلم ينته، فلا تقربوه، ومن يقرْبه فلا يقْربنا، فأقام محمد بن إسماعيل هاهنا مدة، ثم خرج إلى بخارى".
"وقال محمد بن يحيى مرة: ومن ذهب بعد هذا إلى محمد بن إسماعيل البخاري، فاتهموه، فإنه لا يحضر مجلسه إلا من كان على مثل مذهبه" فانظر ماذا يصنع الحسد بأهله، حتى أضر نفسه، وأضر غيره بترك الاستفادة من علم هذا الإمام، ثم أبقى الله ذكره، وردَّ حسد غيره، وهكذا تتكرر حكاية البخاري في العلماء والدعاة، في كل زمان ومكان، فسبحان الله مبتلي العباد بالعباد.
وقال ابن ناصر الدين الدمشقي: "لكن بعض الأعيان تكلم في بعض الأقران، مثل كلام أبي نعيم في ابن منده، وابن منده فيه، فلا نتخذ كلامهما في ذلك عمدة، بل ولا نحكيه؛ لأن الناقد إذا بحث عن سبب الكلام في مثل ذلك وانتقد، رآه إما لعداوة، أو لمذهب، أو لحسد، وقلّ أن يسلم عصر بعد تلك القرون الثلاثة من هذه المهالك، ومن نظر في التاريخ الإسلامي