الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الاحتجاج بالعموم والأخذ بالمتشابه من أسباب الضلال
ثم إن الاحتجاج بالعموم وتفسيره، دون الرجوع إلى ما يضبطه هو الذي أضل كثيراً من طوائف الإسلام، وكذلك الأخذ بالمتشابه وتتبعه هو من صفات أهل الزيغ، وطلاب الفتنة، وقد بينت الآية أن تأويل المتشابه بغير محكم من الفتن، قال تعالى:{فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} والمتشابه -كما أسلفنا- هو الذي يحتمل أكثر من معنى.
كيف يفسر المتشابه؟ وكيف يحكم على قائله
؟
ولذلك أجمع العقلاء من الأمم على اختلاف أديانهم ومشاربهم، على تحريم تفسير المتشابه، أو تقييد المطلق، أو تخصيص العام، بفهم القارئ أو السامع، بل عليه أن يرجع إلى المتكلم نفسه إن أمكنه ذلك، فإن لم يمكن، رجع إلى تفصيله وتفسيره، وتقييده في كلام آخر، فإن لم يجد، رجع إلى أصوله البينة، ومذهبه الواضح، وأوّل له -إن كان من أهل الحق- ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإن لم يجد توقف، والتوقف أبرأ للذمة، وأسلم من الخوض في الظنون، فإن التقول على المرء ما لم يقل ظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة، قال ابن القيم [(مدارج 3 - 521)]"والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما: أعظم الباطل، ويريد بها الآخر: محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه، ويناظر عليه" وبناء عليه: يحرم حمل كلام متشابه لأحد على معنى معين إلا بمحكم، أو قرينة قاطعة، خوفاً من التقول على القائل ما لم يقله، قال شيخ الإسلام:"وما تنازع فيه المتأخرون، نفياً وإثباتاً، فليس على أحد بل ولا له أن يوافق أحداً على إثبات لفظ أو نفيه، حتى يعرف مراده، فإن أراد حقاً قُبل، وإن أراد باطلاً رُدّ، وإن اشتمل كلامه على حق وباطل لم يُقبل مطلقاً، ولم يُرد جميع معناه، بل يُوقف اللفظ، ويُفسّر المعنى"[التدمرية ص (65 - 66)].
قال العلائي: "لأن المتلفظ باللفظ المشترك، لا يحكم عليه بإرادة معنى معين منه، ما لم تقم قرينة دالة على مراده"[تلقيح الفهوم: (176)] فبهذا يتبين لك أن من أطلق عموماً، أو
تكلم بمجمل، لا يحكم عليه حتى يستفصل من صاحبه، ولا يجوز للمرء أن يتجرأ في تخصيص عموم لمسلم، أو تفسير متشابهه له بما يرى، دون رجوع لمحكمه أو تفصيله، إن الذين يفعلون هذا إنما يخلقون إفكاً، ويفترون كذباً، ويحدثون فتناً، وقد فسر الزجاج الفتنة في الآية (1) بذلك، وقال مجاهد:"ابتغاء الشبهات واللبس ليضلوا بها جهالهم"(2).
قال القرطبي: "قال شيخنا أبو العباس رحمة الله عليه: متبعوا المتشابه لا يخلو أن يتبعوه ويجمعوه طلباً للتشكيك في القرآن وإضلال العوام"[(4 - 14)].
قلت: صدقوا والله، فإنما ينساق وراء هؤلاء الجهال والعوام الذين يصدقونهم حين يفسرون لهم متشابه القرآن أو السنة أو أقوال أهل العلم، وهم جهلة طغام عوام، لا يفرقون بين محكم ومتشابه، فيظنون أن تفسير المفسر للمتشابه، هو من مقصود صاحب القول لا من فهمهم وتفسيرهم، فيفسدون بذلك ذات البين، ويشعلون الفتن، ويفرقون الصف.
وعلى هذا فليس العيب في وجود العموم في كلام المرء، ولكن العيب في تبييت الترصد، وتتبع الزلات، وقطع الكلام من سياقه وسباقه، والأخذ بالمتشابه من القول، والإعراض عن المحكم، والدخول في النيات، وواحدة من هذه ظلم، فكيف اجتمعت؟ فهي ظلمات بعضها فوق بعض.
ولو ذهب المرء مذهبهم لضل، ذلك لو أننا -على سبيل المثال- قطعنا قوله تعالى:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: (19)]. لكان معناها أن القرآن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أخذنا بما بعدها فحسب:{ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: (20)]. فهمنا: أن القرآن كلام جبريل، وأما من يأخذ بأول الكلام وآخره وتفصيله، فسيعلم أن المقصود: أن الذي ينقل القرآن هو جبريل عليه السلام، وليس جنياً أو شيطاناً.
(1) زاد المسير (1 - 350).
(2)
معالم التنزيل (2 - 596).