الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحاكمية: معناها، أنواعها، أدلتها
.
الحاكمية: حاكميتان: الأولى: حاكمية تكون بمعنى الحكم والأمر والقضاء من الله تعالى، أي: الأحكام القدرية، والأوامر الكونية، فهي -والحال هذه- من توحيد الربوبية {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [يوسف:(40)]. {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: (54)].
وفي هذا المعنى قوله تعالى حاكياً عن أخي يوسف: {حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [يوسف: (80)].
وفي معنى القضاء والفصل، كقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر: (48)]. وقوله سبحانه: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: (46)].
والمقصود من هذا: الاعتقاد الجازم بأنه ما من أمر، ولا مخلوق في السماء والأرض، إلا وأمره بيد الله خلقاً وحركة، موتاً وحياة واستمراراً، فلا يعزب عن علمه شيء، ولا يخرج عن أمره شيء، ولا يكون في ملكه أي شيء من هزيمة ونصر، أو مكر وحسن نية، أو فساد وعبادة إلا بإذنه وإرادته، وحكمه ماض في خلقه، لا يمنعه مانع، ولا يعجزه شيء.
وباختصار: أن يعتقد المسلم: أن لا حاكم في هذا الكون في صغيرة ولا كبيرة، ولا في خلق ولا في أمر إلا الله سبحانه:{وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: (123)]. وقال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: (82)].
والحاكمية الثانية: تكون بمعنى الحكم بما أنزل، والتحاكم إليه، وتطبيق التشريع في الأمر والنهي، فهي -والحال هذه- من توحيد الألوهية {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:(36)]. {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: (49)].
ويمكن تعريفه: هو قبول شريعة الله والعمل بها، حكماً بها وتحاكماً إليها.
ومما جاء في الحاكمية الشرعية بمعنى الأمر والنهي {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: (10)].
والمقصود بهذا: التسليم التام، والرضى بالقلب، والإذعان بالجوارح، لحكم الله تعالى وشريعته، المتمثلة بالكتاب والسنة والإجماع، والاعتقاد الجازم، بأنه لا شرع إلا شرعُه، ولا حكم إلا حكمُه، ولا تحاكم إلا إليه.
وحاكمية الألوهية هذه تعني أمرين: الحكم بما نزّل الله، والتحاكم إلى ما أنزل.
والحكم بما نزّل الله، والتحاكم إليه، يشمل شرعه كافة، ويعم شؤون الحياة كلها، في العقائد والعبادات، وفي الواجبات والمندوبات، وفي الأخلاق والسلوك، وفي القضاء بين العباد، وفي الأحكام السلطانية، والعلاقات الدولية.
ومن حكم بغير شرعه، أو تحاكم إلى غيره (1)، فقد أخل بالتوحيد، وأتى كفراً عظيماً {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [سورة المائدة:(44)]. فإن كان ذلك بقلب واعتقاد، من استحلال، أو استهزاء، أو رد، أو
…
، فقد كفر، وإلا فقد وقع في الكفر، واتصف بصفة من صفات أهله، وأتى كبيرة من الكبائر، كالمرتشي ومن شابهه، ممن يحكم بغير ما أنزل الله.
وقد أمر الله بالحكم بما أنزل، وحذر من الإعراض عنه فقال:{وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 50].
فمن أعرض عن ذلك، فقد اتبع هواه.
(1) في هذا تنبيه إلى قصور بعضهم في فهم الحاكمية، حيث يحصرها بعضهم في أحكام القضاء: قتل، جلد، رجم، قطع، وبعضهم يحصرها في الحكم، دون العبادات والطرق (المنهج)، فلا يتحاكم إلى شريعة الله فيها، وآخرون لا يرون التحاكم مع بعض الناس، لأنه من قبيلة غير قبيلته، أو من بلد ليس بلده. وآخر كفر سمعناه من بعضهم، رفضهم للتحاكم بعذر ((اللائق)) فقالوا:(ليس من اللائق التحاكم مع فلان .. ){كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا} بل كفراً.
وأمر الله الناس جميعاً بالتحاكم إلى ما أنزل، وحذرهم من مغبة الإعراض عنه، فقال:{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: (65)].
وعدّ الله الذين يأبون إذا ما دعوا إلى التحاكم من المنافقين {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا} [النساء: (6)]. فاحذر -يا عبد الله- من هذا أشد الحذر، وسارع إلى قبول التحاكم هرباً من الهلاك، وطلباً للفلاح {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:(51)].
وهذا النوع من التوحيد، قد أُخل به في عصرنا إخلالاً عريضاً، وأعرض عنه إعراضاً كبيراً، فقد شُرّع غيرُ شرعه، وحُكم بغير حكمه، وتحاكم الناس إلى غيره، فنزلت المذلة والمهانة بالمسلمين، وعلا عليهم أعداؤهم، وظهرت الحياة الضنكى التي توعد الله بها من فقر وتشريد، وظلم وفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ومعنى الحاكمية هاهنا باختصار: أن لا يحكم إلا بشرعه، وأن لا يتحاكم إلا إليه.
كما ينبغي التنبه إلى أن ثمة اشتراك في المعنى في ألفاظ الحاكمية، وتداخل فيما بين الربوبية الكونية القدرية، وبين الشرعية والألوهية، فتأتي "الحاكمية" جامعة شاملة لجميع المعاني، ومن ذلك قوله تعالى:{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [المائدة: (1)]. وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} (1)[الرعد: (41)]. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: (1)].
أما قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: (50)]. فهو دال على المعنيين، فقوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} دال على
(1) راجع تفسير السعدي عند هذه الآية وغيرها.