الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تصل مكة بالبحر الأحمر حيث ميناء الشعيبة (وفى مرحلة لاحقة - جدة) حيث تبحر السفن إلى الحبشة وغيرها. وأمطار مكة غير منتظمة فقد تمضى سنوات أربع دون هطول مطر، لكن إن حدث وهطل فإنه يعدو سيلا تفيض به شعاب مكة ثم يتجه نحو الكعبة المشرفة، وتتواثر الأخبار عن سيول عارمة تغمر الحرم المكى بين العين والحسين، ويعتمد الناس على الآبار فى التزود بالماء، وأكثر هذه الآبار شهرة وقداسة هو بئر زمزم بجوار الكعبة المشرفة. لذا فقد ارتبط عدد من رجالات مكة بالسقاية وهى توفير ماء الشرب للحجيج، ولا حاجة للقول أن مكة وجوارها ليس به زراعة، وصيف مكة شديد الحرارة كما يتضح من عبارة رمضاء مكة، لذا فأثرياء مكة يرسلون أطفالهم إلى الصحراء لفترة من الزمن.
مكة قبل الإسلام:
كانت مكة موضعًا مقدسًا منذ أزمنة قديمة، ومن الواضح أنها كانت معروفة لبطلميوس الذى أشار إليها باسم مكورابا Macoraba، ذكرها فى القرآن الكريم فى الآية 24 سورة الفتح {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} كما ورد ذكرها باسم بكة (بالباء) فى الآية 96 من سورة آل عمران {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} وحدثنا القرآن الكريم عن قيام إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل ببناء الكعبة (البقرة، الآيات من 125 إلى 127، ومن 119، إلى 121) ولا يقبل الباحثون الغربيون ذلك ما دام لا يمكن التعرف على إبراهيم آخر غير إبراهيم الخليل (الوارد فى التوراة)، ووفقًا لما يرويه الإخباريون العرب فقد سيطرت قبيلة جرهم على مكة ثم حلت محلها خزاعة رغم تمتع الأسرات القديمة بمزايا بعينها، وفى القرن الخامس للميلاد حلت قريش محل خزاعة، وكان هذا بسبب نشاط قصى الذى عمل على لم شمل قريش، وتلقى عونا من حلفائه. كنانة وقضاعة وربما كان قصى هو أول من أقام فى مكة من قريش إقامة دائمة وترك سكنى الخيام، وفى وقت لاحق جرى التمييز بين
قريش البطاح وقريش الظواهر أى قريش التى تقطن وسط مكة وقريش التى تسكن ظاهرها، وكان مفهوما أنهم جميعًا ليسوا من سلالة قصى فقط، وإنما أيضًا من جده الأعلى كعب. وهذه العشائر هى: عبد الدار، وعبد شمس، ونوفل وهاشم والمطلب وأسد (وكلها من نسل قصى) وزهرة ومخزوم وتيم وسهم وجمح وعدى، وكانت أهم عشائر قريش الظواهر هى: محارب وعامر بن لؤى والحارث بن فهر، وليس من سند يشير إلى أن هذا التقسيم جرى للتمييز بين العامة والنبلاء أو بين من هم أدنى منزلة ومن هم أعلى منزلة.
وفى القرن السادس للميلاد ظهر فصل بين قريش البطاح، فقد ورث عبد الدار بعد مزايا (حقوق) والده قصى لكن بمرور الوقت نافسه فيها ابن آخر لقصى، عبد مناف الذى أعانته أسد وزهرة وتيم والحارث بن فهر.
وقد عرفت هذه المجموعة بالمُطَيبَّين، أما مجموعة عبد الدار التى عرفت بالأحلاف فكانت تضم مخزوم وسهم وجُمَح وعدى. وجرى اتفاق ودى وتسوية بين المجموعتين دون أن يصل الأمر إلى قتال فعلى، وفى حوالى سنة 605 م جرى ذكر حلف يقال له حلف الفضول (انظر المنمق لابن حبيب) بدا وكأنه استمرار لمجموعة المطيبين، فهو مكون من العشائر نفسها غير أن اثنين فقط من أبناء عبد المناف الأربعة وهما هاشم والمطلب، كانا ممثلين فى حلف الفضول، ولم ينضم إليه نوفل وعبد شمس. وكان السبب الظاهرى لعقد هذا الحلف هو مساعدة تاجر يمنى فى استرداد مال له عند رجل من سهم (مروج الذهب للمسعودى، والمحبّر لابن حبيب والمنمق لابن حبيب أيضًا، كما أورد السبب نفسه ابن هشام فى السيرة، والطبري فى تاريخه).
ويرى المستشرق كايتانى Caetani أن هذا الحلف لم يكن مناوئا للظلم أو عدم العدالة بشكل عام وإنما كان حلفا للعشائر الضعيفة التى تمارس التجارة فى محاولة منها لكبح جماح الممارسات الاحتكارية التى تمارسها العشائر الأقوى والأكثر غنى، كما أن عدم رد الديون (كما فى حالة اليمنى الآنف ذكره) قد تجعل غير المكيين يحجمون
عن إرسال قوافلهم إلى مكة مما يؤدى إلى زيادة مكاسب تجار مكة الأثرياء أصحاب القوافل.
من الواضح إذن من خلال تفهمنا لحلف الفضول ومن خلال شواهد أخرى أن مكة قد غدت فى ذلك الوقت مركزًا تجاريًا مهمًا. لقد أسهمت قداسة بالإضافة لإقرار نظام الأشهر الحرام -حيث يحرم حتى الأخذ بالثأر- فى ازدهار تجارة مكة لعدة قرون، لقد كانت التجارة فى مكة -إذن- منتعشة انتعاشا كبير، فى النصف الثانى من القرن السادس للميلاد، ويمكن أن نستنتج أيضًا أنه بسبب الحرب الفارسية البيزنطية أصبح الطريق عبر غريب شبه الجزيرة العربية أكثر أمنًا من الطريق من الخليج إلى حلب، وحتى لو لم يكن استنتاجنا صحيحا، فإن تجار مكة كانوا يسيطرون بالفعل على جانب كبير من التجارة بين الشام والبحر المتوسط من ناحية، وجنوب شبه الجزيرة العربية والمحيط الهندى من ناحية أخرى، وقد حدثنا القرآن الكريم عن رحلة الشتاء والصيف، ويقال: إن العادة جرت أن تكون رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام. وكانت القافلة تحمل بضائع لجماعات ولأفراد نظير جانب من الربح يُدفع لمنظمى القافلة الذين كان عليهم أن يعقدوا الاتفاقات والمعاهدات مع السلطات السياسية فى الشام وجنوب شبه الجزيرة العربية، والحيرة ونجاشى الحبشة للسماح لهم بالبيع والشراء، كما كان على منظمى القوافل عند الاتفاقات مع رؤساء القبائل أو زعماء البدو الذين تمر القافلة فى أراضيهم. وربما كانت حملة أصحاب اللَّيل التى أشار إليها القرآن الكريم كانت لرغبة أبرهة فى تقليص تجارة مكة التى كانت مزدهرة ازدهار، كبير، فأراد هدم الكعبة ذات القداسة التى كانت أحد أسباب توافد العرب عليها.
وتعد حرب الفجار علامة مؤكدة على مرحلة من مراحل تعاظم القوة التجارية لمكة إذ يبدو أنها نتجت عن تلاشى دور الطائف كمنافس لمكة ورضوخها فى خاتمة المطاف لتصبح تابعا لنظام مكة التى أصبحت مركزًا ماليا وليس مجرد منطقة تجارية.
والجدير بالملاحظة أن المرأة دخلت ميدان التجارة، فثمة امرأة أو امراتان مارسا التجارة لحسابهن وعمل رجال تحت إدارتهن كخديجة وأسماء ام أبى جهل وهند زوجة أبى سفيان.
ويحدثنا المستشرق هنرى لامانس Lammans عن مكة كجمهورية تجارية لكن لا بد أن نضع فى اعتبارنا أن المفاهيم السياسية لم تكن إغريقية أو إيطالية وإن كانت نابعة من ظروف بلاد العرب، فهناك إلى جانب اجتماعات العشيرة Clan assemblies ما يعرف بالملأ Senate وهو بمثابة اجتماع لرؤساء العشائر وذوى الرأى منها إلا أنه لم يكن لهذا الملأ سلطة تنفيذية فلا أحد يستطيع أن يوقع عقابًا إلا زعيم العشيرة أو شيخ القبيلة، ولم يكن لمكة رئيس أو دوق، وإن كان يحدث أحيانًا أن يكون شخص ما يحكم ما له من كفاءات -أولوية أو صدارة (كتلك الصدارة التى تمتع بها أبو سفيان طوال ثلاث سنوات بعد هزيمة قريش فى بدر سنة 624 م)، وعلى أية حال فإن قريشًا كانت معروفة بالحلم، وهو ما يعنى وضعهم لمصالحهم الاقتصادية فى المقام الأول وقبل الاعتبارات الأخرى، لهذا فقد كان (الملأ) -أى اجتماع الملأ- قادرًا فى الغالب على التأليف بين الجماعات المتنازعة بتحكيم العقل.
لذا فإن معظم ذوى الرأى من قريش كانوا يرون البقاء على الحياد بالنسبة للحروب الدائرة بين عملاقى هذا الزمان: الإمبراطورية البيزنطية والإمبراطورية الفارسية، وكانت كلا الامبراطوريتين تحاولان مد نفوذهما لشبه الجزيرة العربية، وعندما استولى الفرس حوالى سنة 570 م أو 575 م على اليمن من الأحباش كان من الضرورى أن يظل المكيون على الحياد.
وبعد ذلك ببضع سنين، وكان هذا بعد حرب الفجار تفاوض رجل من أسد اسمه عثمان بن الحويرث مع البيزنطيين واخبر المكيين أنه يستطيع أن يحصل لهم على شروط طيبة تحقق أرباحا تجارية مع البيزنطيين إن هم قبلوه زعيما لهم لكن عرضه لم يحظ بالقبول وكان هذا بلاشك لرغبة المكيين فى البقاء على الحياد بين الفرس