الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقسيم السادس
قال الرازي: الفعل الذي يجوز للمكلف الإتيان به:
إما أن يكون عزيمة أو رخصة؛ وذلك لأن ما جاز فعله إما أن يجوز مع قيام المقتضى للمنع أو لا يكون كذلك.
فالأول: الرخصة، والثاني: العزيمة.
فما أباحه الله تعالى في الأصل من الأكل والشرب لا يسمى رخصة، ويسمى تناول الميتة رخصة، وسقوط رمضان عن المسافر رخصة.
ثم الذي يجوز فعله مع قيام المقتضى للمنع، قد يكون واجبا، كأكل الميتة، والافطار عند خوف الهلاك من الجوع، وقد لا يكون واجبا كالافطار؛ والقصر في السفر، وقول كلمة الكفر عند الإكراه.
ولما تكلمنا في الحكم الشرعي وأقسامه، فلنبين أنه ثابت بالعقل أو بالشرع.
قال القرافي: قوله: ((ما جاز الإتيان به إما أن يكون عزيمة أو رخصة
…
))
إلى آخر التقسيم يرد عليه أربعة أسئلة:
الأول: أن تحديده الرخصة بما جاز فعله من قيام المقتضى لملنع يقتضي أن الحدود، والتعازير، والجهاد، والحج، والصلوات الخمس، والطهارات في شدة البرد، والصوم في الهواجر، ونحو ذلك من كل ما فيه مشقة أن يكون رخصة، وهو خلافا لإجماع؛ لأن الإنسان مكرم معظم لقوله تعالى:((ولقد كرمنا بني آدم)) [الإسراء: 70] ولقوله: ((لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)) [التين: 4]، ووصف التكريم يأبى الإهانة، ويمنع من
إلزام المشاق، والإهانة بالحدود، وغيرها، وفي الجهاد التعريض لهدم البنية الشريفة الحسنة التقيوم الدالة على قدرة الله - تعالى - وجميل اختراعه، وهذه كلها يجوز الإقادم عليها مع قيام هذا المانع، فيلزم على قوله أن تكون رخصا، وليست رخصا إجماعا، ويلزم أن يكون النكاح رخصة، فإنه إهانة للموطوءات بصب الفضلات فيهن، وأن تكون الذبائح رخصة؛ لأن فيه هدم بنية الحيوان الشريفة المتقنة الدالة على كمال القدرة، وبديع الصنعة بل تحريم الخمر رخصة؛ لأنه ثبت مع وجود المنافع الجسمية لقوله تعالى:((وإثمهما أكبر من نفعهما)) [البقرة: 219] بل كل حكم ثبت لمصلحة معها أيسر مفسدة، أو لمفسدة معها أيسر مصلحة رخصة؛ لأن تلك المفسدة المرجوحة تقتضي المنع إذا تفردت، وهو إنما يريد ذلك، لأنه لو أراد السالم عن المعارض لم تكن المية رخصة، لأن مقتضى المنع فيها لم يسلم عن معارضة الضرورة، فتكون الشريعة كلها رخصة.
الثاني: يلزمه أن كل واجب في الشريعة رخصة؛ لأن النصوص النافية للتكليف تنفيه كقوله تعالى: ((وما جعلنا عليكم في الدين من حرج)) [الحج: 78]، ((ويريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر)) [البقرة: 185]، و ((ما على المحسنين من سبيل)) [التوبة: 91]، وقوله عليه السلام "لا ضرر ولا ضرار " بل البراءة الأصلية تقتضي عدم الأحكام مطلقا، فتكون المباحات كلها، والمندوبات، والمكروهات التي يجوز الإقدام عليها رخصا، وهو خلاف الإجماع.
الثالث: تحديده العزيمة بما يجوز الإقدام عليه مع عدم قيام المانع إذا تخيل أن المانع غير ما ذكرته، يلزمه أن أكل الطيبات، ولبس الثياب، والتأنق في المراكب، والمساكن، والموطآت من العزائم، فإنه يجوز الإقدام عليها من غير مانع من الموانع التي تشير إليها بما هو موجود في الميتة للمضطر وغيرها، وهذه لا يصدق عليها أنها عزائم؛ لأن العزائم ما فيه عزم، وتأكيد في
اصطلاح العلماء، وهو مقتضى اللغة، وهذه الأمور لم يؤكد صاحب الشرع في فعلها، بل الأمر بضد ذلك، كما قال الله تعالى ذاما لم يكثر من ذلك ((أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تجزون عذاب الهون)) الآية [الأحقاف: 20]، ونحو ذلك من الكتاب والسنة نحو قوله تعالى:((إنهم كانوا قبل ذلك متردفين)) الواقعة:45، "إلا قال مترفوها " [سبأ: 34].
الرابع: أن قوله: ما جاز فعله يوجب انحصار الرخصة في جواز الإقدام والرخصة كما تكون في الفعل، كأكل الميتة تكون في الترك كالفطر في رمضان، فلا يكون تفسيره جامعا، وبهذه الأسئلة يظهر أن حد الرخصة في غاية الصعوبة.
وكنت في كتاب ((تنقيح الفصول)) حددت العزيمة بانها طلب الفعل السالم عن المانع المشتهر ليخرج بقيد الطلب أكل الطيبات ونحوها، ويندرج فيه المندوبات كسجود القرآن، لأن الفقهاء قالوا: عزائم القرآن إحدى
عشرة سجدة، وتندرج الواجبات، وحددت الرخصة بأنها جواز الفعل مع المانع المشتهر، ونعني بالإشتهار ما تنفر عنه النفوس المتقية، فإنها إذا سمعت أن فلانا غص فشرب الخمر، أو أكل الميتة للجوع استصعبت ذلك ونفرت
.......................................................................
عنه، وقالت: دعت الضرورة إلى عظيم، بخلاف إذا سمعت أن أحدا أقيم عليه الحد، أو مات في الجهاد، أو داوم على الصلوات لا تنفر من ذلك، فلا تكون رخصا، فتندفع أكثر الأسئلة بهذا القيد الذي هوا لمانع الذي تنفر عنه، ثم ظهر لي بعد ذلك أن السلم رخصة، والجعالة رخصة، والقراض رخصة، والمساقاة، والصيد الذي يكتفي فيه بالجرح بدلا عن الذب، إلى غير ذلك من موارد الشريعة التي هي رخص إجماعا مع سكون النفوس عند سماعها، فبقيت بعد ذلك واستصعب تحديدها، فمن انضبط له ذلك فليفعله، فقد ظهرت الأشياء التي يحترز منها بالأسئلة السابقة.