الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثامن
في أن شكر المنعم غير واجب عقلا
وقالت المعتزلة بوجوبه عقلا.
لنا: النص والمعقول:
أما النص فقوله تعالى: "وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا"[الإسراء: 15]
وقوله تعالى "رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل"[النساء:165]
وأما المعقول، فهو أنه لو وجب، لوجب: إما لفائدة أو لا لفائدة، والقسمان باطلان فالقول بالوجوب باطل.
إنما قلنا: إنه لا يجوز أن يكون لفائدة؛ لأن تلك الفائدة: إما أن تكون عائدة إلى المشكور، أو إلى غيره:
والأول باطل: لأن الله تعالى منزه عن جلب المنافع ودفع المضار.
والثاني باطل لأن الفائدة العائدة إلى الغير إما جلب المنفعة أو دفع المضرة لا جائز أن يكون ذلك لجلب المنفعة لثلاثة أوجه:
الأول أن جلب النفع غير واجب في العقل، فما يفضي إليه أولى ألا يجب.
الثاني أنه يمكن خلو الشكر عن جلب النفع لأن الشكر لما كان واجبا فإذن الواجب لا يقتضي شيئا آخر.
الثالث: أن الله تعالى قادر على إيصال كل المنافع بدون عمل الشكر فيكون توسيط هذا الشكر غير واجب عقلا.
ولا جائز أن يكون لدفع المضرة، لأنه إما أن يكون لدفع مضرة عاجلة، وهو باطل لأن الاشتغال بالشكر مضرة عاجلة فكيف يكون دفعا للمضرة العاجلة؟
وأما أن يكون لدفع مضرة آجلة، وهو باطل أيضا لأن القطع بحصول المضرة عند عدم الشكر إنما يمكن إذا كان المشكور يسره الشكر ويسوءه الكفران فأما من كان منزها عنهما فاستوى الشكر والكفران بالنسبة إليه فلا يمكن القطع بحصول العقاب على ترك الشكر بل احتمال العقاب على الشكر قائم من وجوه:
أحدها: أن الشاكر ملك المشكور فإقدامه على تصرف الشكر بغير إذنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه من غير ضرورة وهذا لا يجوز.
وثانيها: أن العبد إذا حاول مجازاة المولى على إنعامه عليه استحق التأديب والاشتغال بالشكر اشتغال المجازاة فوجب أن لا يجوز.
وثالثها: أن من أعطاه الملك العظيم كسرة من الخبز أو قطرة من الماء فاشتغل المنعم عليه في المحافل العظيمة يذكر تلك النعمة وشكرها استحق التأديب وكل نعم الدنيا بالقياس إلى خزانة الله تعالى أقل من تلك الكسرة بالقياس إلى خزانة ذلك الملك فلعل الشاكر يستحق العقاب بسبب شكره.
ورابعها: لعله لا يهتدي إلى الشكر اللائق فيأتي بغير اللائق فيستحق العقاب.
وإنما قلنا: إنه لا يمكن أن يجب لا لفائدة لوجهين:
الأول: أن ذلك عبث وأنه قبيح.
والثاني: أن المعقول من الوجوب ترتب الذم والعقاب على الترك فإذا فقد ذلك امتنع تحقق الوجوب.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال وجب الشكر لمجرد كونه شكرا وذلك لأن وجوب كل شيء لو كان لأجل شيء آخر لزم التسلسل فثبت أنه لا بد وأن ينتهي إلى ما يكون واجبا لذاته.
وعندنا الشكر واجب لنفس كونه شكرا كنا أن دفع الضرر عن النفس واجب لنفس كونه دفعا للضرر ولذلك فإن العقلاء يعلمون وجوبه عندما يعلمون كونه شكرا للنعمة وإن لم يعلموا جهة أخرى من جهات الوجوب.
نزلنا عن هذا المقام فلم لا يجوز أن يقال وجب الشكر عليه لدفع ضرر الخوف وذلك لأنه لا يجوز أن يكون خالقه طلب منه الشكر على ما أنعم به عليه فلو لم يقدم على الشكر كان مستوجبا للذم والعقاب.
أقصى ما في الباب أن يقال: كما يجوز هذا يجوز أيضا أن يكون قد منعه من الشكر لتلك الوجوه الأربعة المذكورة في الاستدلال لكن الظن الأول أغلب لأن المشتغل بالخدمة والمواظب على الشكر احسن حالا من المعرض عن الخدمة والمتغافل عن الشكر.
وأما تمثيل نعم الله بكسرة الخبز فليس بجيد لأن خلقه العبد واحياءه واقداره وما منحه من كمال العقل وتمكينه من أنواع النعم أعظم من جميع خزائن ملوك الدنيا ثم ما أكرمهم به بعد تمام هذه النعمة من بعثة الرسل اليهم وانزال كتبه عليهم.
وقد صرح داود وسليمان عليهما السلام بالشكر في قوله تعالى: "وقالا الحمد لله الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين"[النمل:15] وليس يجب إذا كان تعالى قادرا على أضعاف ما منحه عبيده من النعم أن يستحقر ما منحه إياهم كما أن الملك إذا أعطى قناطير ذهب فإنه لا يستحقر ذلك لأجل أن خزائنه بقيت مشتملة على أضعاف مضاعفة على ما أعطى.
سلمنا أن وجوبه ليس لفائدة زائدة فلم لا يجوز ذلك؟
قوله أنه عبث والعبث قبيح قلنا إنكم تنكرون القبح العقلي فكيف تمسكتم به في هذا الموضع؟
سلمنا أن ما ذكرتموه يوجب أن لا يجب الشكر عقلا لكنه يوجب أيضا أن لا يجب شرعا فإنه يقال إنه تعالى لو أوجبه لأوجبه إما لفائدة أو لا لفائدة
…
إلى آخر التقسيم ولما كان ذلك باطلا بالاتفاق فكذا ما ذكرتموه.
سلمنا صحة دليلكم ولكنه معارض بوجوه الأول أن وجوب شكر المنعم مقرر في بدائه العقول وما كان كذلك لم يكن الاستدلال على نقيضه قادحا فيه.
الثاني: هو أن من وصل إلى طريقين، وكان أحدهما آمنا، والآخر مخوفا، فإن العقل يقضي بسلوك الطريق الآمن دون المخوف، وها هنا الاشتغال بالشكر طريق آمن والاعراض عنه مخوف فكان الاشتغال بالشكر أولى.
الثالث: أنه لو لم يجب الشكر في العقل لم يجب طلب معرفة الله تعالى أيضا لأنه لا فرق في العقل بين البابين.
ولو لم يجب طلب معرفة الله تعالى في العقول لزم افحام الرسل والأنبياء،
لأنهم إذا أظهروا المعجزة، قال المدعوون لهم: لا يجب علينا النظر في معجزتكم إلا بالشرع ولا يستقر الشرع إلا بنظرنا في معجزتكم فإذا لم ننظر في معجزتكم ف لا نعرف وجوب ذلك علينا وذلك يقتضي إفحام الرسل.
والجواب: قولهم لم لا يجوز أن يجب لنفس كونه شكرا؟
قلنا: قولنا: " لو وجب الشكر لوجب إما لفائدة أولا لفائدة" تقسيم دائر بين النفي والاثبات فلا يحتمل الثالث ألبتة.
وأيضاف قولكم: "إنه وجب لكونه شكرا" معناه: أن كونه شكرا يقتضي ترتب الذم والعقاب على تركه وهذا داخل فيما ذكرناه، فلا يكون هذا قسما زائدا على ما ذكرناه.
قوله: إنه إنما يجب عليه دفعا لضرر الخوف:
قلنا: قد بينا أن الخوف حاصل في فعل الشكر، كما أنه حاصل في تركه، فإذا احتمل الخوف على الأمرين، كان البقاء على الترك بحكم استصحاب الحال أولى، فإن لم تثبت أولوية الترك فلا أقل من أن لا يثبت القطع بوجوب الفعل.
قوله: الاشتغال بالخدمة أولى:
قلنا: هذا مسلم في حق من يفرح بالخدمة، ويتأذى بالإعراض، أما في حق من لا يجوز الفرح والغم عليه فمحال وأيضا فمثل هذا الترجيح لا يفيد إلا الظن.
قوله: لا يجوز تشبيه نعم الله تعالى بكسرة الخبز:
قلنا التشبيه واقع في النسبة لا في المقدار ونحن لا نشك أن جميع نعم الدنيا بالإضافة إلى خزائن الله تعالى أقل من الكسرة بالإضافة إلى ملوك الدنيا.
قوله الحكم بكون العبث قبيحا لا يصح إلا مع القول بالقبح العقلي وأنت لا تقول به؟
قلنا قد ذكرنا أصحابنا إنما تكلموا في هذه المسألة بعد تسليم القبح العقلي ليثبتوا أن كلام المعتزلة ساقط في هذا الفرع مع تسليم ذلك الأصل وإذا كان المقصود ذلك لم يكن ما قالوه قادحا في كلامنا.
قوله هذا يقتضي أن لا يحسن ايجاب الشكر من الله تعالى:
قلنا: غرضنا من الدليل الذي ذكرناه بيان أنه لو صح التحسين والتقبيح العقلي لما أمكن القول بايجاب الشكر لا عقلا ولا شرعا وقد ثبت لنا ذلك.
بقي أن يقال فأنتم كيف أوجبتموه شرعا؟
قلنا: لأن من مذهبنا أن أحكام الله تعالى وأفعاله لا تعلل بالأغراض فله بحكم المالكية أن يوجب ما شاء على من شاء من غير فائدة ومنفعة أصلا
وهذا مما لا يتمكن الخصم من القول به فسقط السؤال.
أما قوله: وجوب الشكر معلوم بالضرورة:
قلنا: في حق من يسره الشكر ويسوءه الكفران أما في حق من لا يكون كذلك فلا نسلم.
فإن قلت بل وجوبه على الاطلاق معلوم بالضرورة وأنت مكابر في ذلك الإنكار:
قلت أحلف بالله تعالى وبالايمان التي لا مخارج منها أني راجعت عقلي وذهني وطرحت الهوى والتعصب فلم أجد عقلي قاطعا بذلك في حق من لا يصح عليه النفع والضرر بل ولا ظانا فإن كذبتمونا في ذلك كان ذلك لجاجا ولم تسلموا من المقابلة بمثله أيضا.
وأما قوله: ترجيح الطريق الآمن على المخوف من لوازم العقل:
قلنا: نعم لكنا بينا أن كلا الطرفين مخوف فوجب التوقف.
قوله إنه يفضي إلى إفحام الأنبياء:
قلنا العلم بوجوب الفكر والنظر ليس ضروريا بل نظريا فللمدعو أن يقول إنما يجب علي النظر في معجزتك لو نظرت فعرفت وجوب النظر لكني لا أنظر في أنه هل يجب النظر علي وإذا لم أنظر فيه لا أعرف وجوب النظر في معجزتك فيلزم الإفحام.
فإن قلت بل أعرف بضرورة العقل وجوب النظر عليَّ:
قلت: هذا مكابرة لأن العلم بوجوب النظر علي يتوقف على العلم بأن النظر في هذه الأمور الإلهية يفيد العلم وذلك ليس بضروري بل نظري خفي فإن كثيرا من الفلاسفة قالوا إن فكرة العقل تفيد اليقين في الهندسيات والحسابيات فأما في الأمور الإلهية فلا تفيد إلا الظن.
ثم بتقدير أن يثبت كونه مفيدا للعلم فإنما يجب الإتيان به لو عرف أن غيره لا يقوم مقامه في إفادة العلم وذلك ما لا سبيل إليه إلا بالنظر الدقيق وإذا كان العلم بوجوب النظر موقوفا على ذينك المقامين النظريين فالموقوف