الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التقسيم الثاني
قال الرازي: الفعل إما أن يكون حسنا أو قبيحا
.
وتحقيق القول فيه: أن الإنسان إما أن يصدر عنه فعله وليس هو على حالة التكليف، وإما أن يصدر عنه الفعل وهو على حالة التكليف.
والأول كفعل النائم، والساهي، والمجنون، والطفل فهذه الأفعال لا يتوجه نحو فاعليها ذم ولا مدح، وإن كان قد يتعلق بها وجوب ضمان وأرشٍ في مالهم ويجب إخراجه على وليهم.
والثاني: ضربان؛ لأن القادر عليه المتمكن من العلم بحاله إن كان له فعله فهو الحسن وإن لم يكن فهو القبيح.
ثم قال أبو الحسين البصري رحمه الله: القبيح هو: الذي ليس للمتمكن منه ومن العلم بقبحه أن يفعله ومعنى قولنا: ((ليس له أن يفعله)) معقول لا يحتاج إلى تفسير ويتبع ذلك أن يستحق الذم بفعله، ويحد أيضا بأنه الذي على صفة لها تأثير في استحقاق الذم.
وأما الحسن، فهو: ما للقادر عليه، المتمكن من العلم بحاله، أن يفعله
وأيضا: ما لم يكن على صفة تؤثر في استحقاق الذم.
وأقول: هذه الحدود غير وافية بالكشف عن المقصود.
أما الأول، فنقول ما الذي أردت بقولك:((ليس له أن يفعله))؟
فإنه يقال
للعاجز عن الفعل ليس له أن يفعله، ويقال للقادر على الفعل، إذا كان ممنوعا عنه حسا: ليس له أن يفعله، ويقال للقادر إذا كان شديد النفرة عن الفعل: ليس له أن يفعله، وقد يقال للقادر إذا زجره الشرع عن الفعل: إنه ليس له أن يفعله
والتفسيران الأولان غير مرادين لا محالة، والثالث غير مراد أيضا لأن الفعل قد يكون حسنا مع قيام النفرة الطبيعية عنه وبالعكس.
والرابع أيضا غير مراد؛ لأنه يصير القبيح مفسرا بالمنع الشرعي.
فإن قلت: المراد منه القدر المشترك بين هذه الصور الأربع من مسمى المنع.
قلت: لا نسلم أن هذه الصور الأربع تشترك في مفهوم واحد؛ وذلك لأن المفهوم الأول معناه: أنه لا قدرة له على الفعل، وهذا إشارة إلى العدم، والمفهوم الرابع معناه: أنه يعاقب عليه؛ وهذا إشارة إلى الوجود، ونحن لا نجد بينهما قدرا مشتركا.
وأما قوله: ((ويتبع ذلك أن يستحق الذم بفعله))
قلنا: لما فسرت القبيح: بأنه الذي يستحق الذم بفعله، وجب تفسير الاستحقاق والذم.
فأما الاستحقاق، فقد يقال: الأثر يستحق المؤثر، على معنى أنه يفتقر إليه لذاته، ويقال: المالك يستحق الانتفاع بملكه؛ على معنى أنه يحسن منه ذلك الانتفاع.
والأول ظاهر الفساد، والثاني يقتضي تفسير الاستحقاق بالحسن، مع أنه فسر الحسن بالاستحقاق؛ حيث قال: الحسن هو الذي لا يستحق فاعله الذم فيلزم الدور، وإن أراد بالاستحقاق معنى ثالثا فلا بد من بيانه.
وأما الذم فقد قالوا إنه قول أو فعل أو ترك قول أو ترك فعل ينبىء عن اتضاع حال الغير.
فنقول: إن عنيت بالإتضاع: ما ينفر عنه طبع الإنسان ولا يلائمه فهذا معقول لكن يلزم عليه أن لا يتحقق الحسن والقبح في حق الله تعالى؛ لما أن النفرة الطبيعية عليه ممتنعة؛ وإن عنيت به أمرا آخر فلا بد من بيانه.
وأعلم: أن هذه الاشكالات غير واردة على قولنا؛ لأنا نعني بالقبيح: المنهي عنه شرعا، وبالحسن ما لا يكون منهيا عنه شرعا، وتندرج فيه أفعال الله تعالى، وأفعال المكلفين من الواجبات والمندوبات والمباحات وأفعال الساهي والنائم والبهائم.
وهو أولى من قول من قال: الحسن ما كان مأذونا فيه شرعا لأنه يلزم عليه أن لا تكون أفعال الله تعالى حسنة، ولو قلت:((الحسن: هو الذي يصح من فاعله أن يعلم أنه غير ممنوع عنه شرعا)) خرج عنه فعل النائم والساهي والبهيمة، ويدخل فيه فعل الله تعالى، لأن وجوب ذلك العلم لا ينافي صحته وبالله التوفيق.
قال القرافي: قوله: ((الفعل إما أن يكون حسنا أو قبيحا)).
أي التقسيم الثالث
تقريره: أن الكلام الذي نقله هو كلام أبي الحسين في ((المعتمد)) نص المسطرة.
ومعنى قوله: ((القادر عليه)) احترازا عن العاجز، فإن العجز عن الواجب يبطل حسنه، وعن ترك المحرم يبطل قبحه، ((والعالم بحاله))، احترازا من
الواطئ أجنبية يظنها امرأته، فإنه غير عاصٍ، وكذلك الواطيء لزوجته يظنها أجنبية فإنه عاص.
مع أن الفعل في نفس الأمر في الأول قبيح، وفي الثاني حسن، وإنما أحيل المدح، والذم يسبب عدم العلم، فلذلك اشترط العلم بحال الفعل، فإن كان مأذونا له في أحد الوصفين فهو الحسن، وإلا فهو القبيح.
وقوله: ((على صفة تؤثر في استحقاق الذم)).
يريد بالصفة لامفسدة على أصله في الاعتزال، فإنه كلام ((أبي الحسين))، وجعل الحسن ما ليس فيه هذه الصفة، ولم يشترط فيه أن يكون فيه مصلحة، كما قلنا نحن: الحسن ما ليس منهيا عنه، ولم تشترط أن يكون مأمورا به ليعم تناوله عندهم وعندنا.
وقوله في تفسير ليس له أن يفعله: والرابع غير مراد؛ لأنه يصير القبيح مفسرا بالمنع الشرعي.
معناه: وأ، تم لا تقولون به إنما يفسر القبح بالمنع الشرعي أهل النسة، أما المعتزلة فلا.
وقوله: ((لا يجد مشتركا بين الوجود والعدم)) ممنوع، بل النقيضان مشتركان في التناقض، وهما وجود وعدم، ويشترك الوجود والعدم في الإمكان في الممكن الخاص، والمعلومية، والمذكورية، وأنهما ليسا بسواد، ولا بياض، ولا جسم، ولا حجر، وغير ذلك مما لا نهاية له من الأمور السلبية المشتركة بينهما، مع أن أبا الحسين لم يذكر إلا قوله: ليس له أن يفعله، وهذا سلب أمكن الاشتراك فيه، نعم لو ادعي الاشتراك في أمر ثبوتي تعذر بين الوجود والعدم في ذاتيهما لا في أمر خارج عنهما، فإن وجود الحركة وعدمها يعتوران على الجسم، والجسم مشترك بينهما خارج عنهما، وكذلك العلم وعدمه، والإرادة وعدمها محالها مشتركة بين هذه النقائض.
وهي وجودية، وظهر أن الوجود والعدم يشتركان في الأمور الوجودية والعدمية، فدعوى عدم الاشتراك لا تتم.
وقوله في تفسير الاستحقاق: ((الأول ظاهر الفساد)).
يعني: أن الذم ليس مؤثرا في فاعل القبيح، بل الذم لا يؤثر لفي شيء لتعذر التأثير في الكلام، والذم إنما هو كلام، وإلزامه الدور على الثاني غير لازم؛ لأن مدلول الاستحقاق قد يكون مجهولا لشخص، والحسن معلوما له، وبالعكس عند شخص آخر، والحدود والرسوم إنما هي بحسب حال السائل، فرب شخص يعرف الحقيقة لازما، فيعرف له بذلك اللازم، وغيره بجهله، فلا يعرف له به، أو يقول: ليس معنى أن المالك يستحق الانتفاع بملكه أنه يحسن منه ذلك، بل معناه أن الله - تعالى - أذن له فيه، وهو أخص من الحسن؛ لأن الحسن هو الذي لا نهى فيه، وعدم النهي أعم من ثبوت الإذن، بدليل فعل البهائم، وحينئذ نقول: لفظ الإذن لم يقع في تفسير الحسن أصلا فلا دور، وقد تكون الألفاظ يجهل منها ما هي موضوعة له، وإن كانت المعاني في أنفسها معلومة كما تقدم بسطه في حد العلم، وإنه يصح تعريفه بالمعلوم كما تقدم تمامه.
ثم نقول هاهنا معنى ثالث: هو الاستحقاق المقصود في القبيح، وهو ملائمة الذم لفاعل القبيح في نفوس العقلاء الملائمة بين الذم والفاعل غير التأثير والإذن الشرعي، وهذا المعنى ظاهر متبادر للذهن عند سماع هذه اللفظة إذا قال القائل: المحسن يستحق الثناء الجميل، والمسيء يستحق العقاب الوبيل.
معناه: أن ذلك ملائم للطباع، ومناسب عند العقول، كما أن عقاب المحسن منافر عند الطبع، فهذه الملائمة والمنافرة معلومة بالضرورة للعقلاء، ومتبادرة عند سماع اللفظ، فاندفع السؤال.
وقوله: ((الذم قول أو تركه أو فعل أو تركه)).
مثال القول: الشتم.
مثال تركه: ترك رد الجواب عند تعيينه.
مثال الفعل: الضرب.
مثال ترك القيام في المحافل عند تعيينه، ويرد عليه أن الذم في اللغة إنما هو اللفظ ليس إلا، والأقسام الثلاثة لا تسمى ذما، فتفسير الذم بها لا يصح.
وقوله: ((يدل على اتضاح حال الغير))، الغير هاهنا المذموم، أي: يتضح حاله عند الذام، فكذلك لما فسره بالنفرة استحال في حق الله - تعالى - لتعذر النفرة الطبيعية عليه، ويرد عليه أن الذم لفظ دال كما قال على النفرة، ولا يلزم من فني المدلول وتعذره في حق الله - تعالى - انتفاء الدال الذي هو الذم، والتحديد إنما وقع به، وما تعين نفيه في حقا لله تعالى، فإنا لآيات الدالة على التجسيم استحال مدلولها في حق الله - تعالى - ما بطل كونها دالة على تلك الأمور من التجسيم، فإن الدلالة الظنية قد توجد بدون مدلولها، فالقبيح هو الذي يحسن ورود هذه الألفاظ الدالة على النفرة في حق فاعله، سواء تحققت النفرة في نفس الذام أم لا، وكذلك إن آخذناه بذم الشخص على الفعل الحسن لغرض من الأغراض، وهو يعتقد أنه فعل حسن، ولا نفرة في نفسه، ومع ذلك لا يقال: إنه ليس بذم، فالحاصل أن التحديد وقع بالذم / وهو باق في حق الله - تعالى - ولم يقع بمدلوله فلا يضر انتفاؤه.
وقوله: ((هذه الإشكالات غير واردة على قولنا، لأن القبيح عندنا هو المنهى عنه شرعا، والحسن ما ليس منهيا عنه)).
يرد عليه أن القبيح عندنا يعتمد المفاسد كما أن الأمر يعتمد المصالح، فقلنا بالصفحة كما قالوا بها، غير أنا قلنا على سبيل التفصيل، وهم قالوا بها على سبيل الوجوب، وعندنا المحرم ملزوم للذم فقد قلنا بالذم، وعندنا ليس له
أن يفعله شرعا، فيرد علينا جميع ما ورد عليهم في الصفة والاستحقاق والذم، وجميع الأسئلة.
قوله: ((وإذا قلنا: الحسن هو الذي يصح من فاعله أن يعلم أنه غير ممنوع عنه دخل فيه فعل الله - تعالى -؛ لأن وجوب ذلك العلم لا ينافي صحته)).
تقريره: أن الصحة والقبول، والإمكان معنى واحد ينقسم إلى: الإمكان العام، والإمكان الخاص، فالإمكان العام: هو سلب الضرورة عن أحد الطرفين، والإمكان الخاص: سلب الضرورة عن الطرفين معا، أعني طرفي الوجود والعدم.
بيانه: أن الواجب وجوده ضروري، وعدمه ليس ضروريا، فقد سلبنا الضرورة عن أحد طرفيه وهو العدم، والمستحيل عدمه ضروريا، ووجوده ليس ضروريا، فقد سلبنا الضرورة عن أحد طرفيه وهو الوجود، والممكن لا ضرورة في وجوده ولا في عدمه، فقد سلبنا عن أحدهما، فعلم أن سلب الضرورة عن أحد الطرفين يصدق على الواجب والممكن ولامستحيل، والإمكان الخاص لا يصدق إلا على الممكن خاصة، فهو يريد بقوله: يصح من فاعله أن يعلم بالتفسير الأعم الصادق على الواجب الوجود، فلذلك قال: وجوبه لا ينفاي صحته، لما سبق إلى الذهن أن الصحة لا يفهم منها إلا المعنى الأخص المنافي للوجوب، فأخبر أنه يريد المعنى الأعم.
((سؤال))
قال النقشواني: جعل الإمام الحكم الشرعي منفسما إلى أقسام، هذا هو القسم الثاني، فيكون الحكم الشرعي منقسما إلى الحسن والقبيح، فيكون الحسن والقبيح حكمين شرعيين، مع أنه حدا لحكم بأنه خطاب الله تعالى المتعلق بفعل المكلفين، فعلى هذا بطل قوله: إنه يندرج في الحسن فعل الله
تعالى؛ لأنه ليس خطابه المتعلق بفعل المكلفين، ولذلك لا يندرج فعل البهائم والنائم والساهي، والأفعال قبل ورود الشرع يلزمه أن تكون حسنة، وأنها خطاب الله تعالى، فثبت خطاب الله تعالى حيث انتفي خطابه، وهو تناقض ظاهر.
جوابه: أن التقسيم قد يقع في الأعم والأخص مطلقا، فيجب صدق المقسم إلى جميع أقسام المقسم إليه، كتقسيم الحيوان إلى الناطق والبهيم، وتقسيم الناطق إلى الرجل والمرأة، فيجب صدق الحيوان على الرجل والمرأة، وجميع أقسامها؛ لأن المقسم أعم مطلقا، وتارة يقع التقسيم في الأعم من وجه، كتقسيم الحيوان إلى الأبيض والأسود، فلا يجب صدق الحيوان على جميع ما ينقسم إليه الأبيض والأسود، فلا يجب صدق الحيوان على جميع ما ينقسم إليه الأبيض ومن الجير واللبن، ولا جميع ما ينقسم إليه الأسود من القار والقطران، إذا تقرر هذا فمن التزم أصل التقسيم الذي هو أعم من التقسيم في الأعم مطلقا لا يرد عليه ما يلزم على أحد نوعيه، كما أن من التزم أنه قتل حيوانا لا يلزمه ما يلزم من قتل إنسانا، ولا من قال معي عدد أن يلزمه أن يكون زوجا، ولايلزمه لوازم الزوجية التي هي أحد أنواع العدد، لأنه إنما التزم الأعم، كذلك التقسيم إنما التزم التقسيم الذي هو أعم مطلقا، والحكم هاهنا أعم من الحسن من وجه، لا عموم مطلقا، والحسن ينقسم إلى ما هو حكم، وإلى ما ليس فيه حكم، كما ينقسم الأبيض إلى ما هو حيوان، وإلى ما ليس بحيوان، فكما لا يلزم صدق الحيوان على الجير لا يلزم صدق الحكم الشرعي على فعل الله تعالى، وما قيل معه، وهذا الجواب جليل ينفعنا في تقسيم العلم إلى التصور والتصديق، مع انقسام التصديق إلى العلم والجهل، فيلزم صدق العلم على الجهل، وفي تقسيم حكم الذهن بأمر على أمر، ثم قسم إلى الشك الذي لا حكم فيه، وقد تقدم تقريره، فتأمل هذا الجواب تجد نفعه إن شاء الله تعالى.
قَالَ سراج الدين: إنما تتم الإشكالات بإثبات الحصر في الأقسام المذكورة، ونفي كل واحد منها بخصوصه وعمومه، ولم تقم الدلالة على واحد منهما.
يريد بالإشكالين قول الإمام: ((ليس له أن يفعله))، أنه يقال لأربعة، والكل باطل هذا أحدهما.
والثاني: إشكال الاستحقاق فهو يعني أن التقسيم في الإشكالين وقع بين الثواب، والتقسيم إنمنا يكون حاصرا إذا وقع بين النفي والإثبات، أو بين ثوابت معلوم الحصر فيها بالضرورة نحو: العدد إما زوج أو فرد، وزيد إما متحرك أو ساكن، وليس هذا منها، فالحصر ليس بثابت ولا حاصل.
وقوله: ((نفي كل واحد منها بخصوصه وعمومه)).
يريد أن القسم قد ينتفي من حيث خصوصه، ويبقى عمومه كما ينتفي الإنسان من حيث هو ناطق، ويبقى عمومه، وهو كونه حيوانا، كذلك هاهنا اشتركت الأقسام كلها في أنه ليس له أن يفعله، فسلب هذه اللام الدالة على المكنة، والإذن، والاختصاص هو مشترك، ولعله يبقى بعد نفي كل واحد من الخصوصيات وحده لصلاحيته للاستقبال؛ فإن الكلي قد يكون نوعا أخيرا لا يحتاج لنوع آخر يكون فيه، أو في نوع آخر غير المذكورات، وكذلك أقسام الذم هي مشتركة في مطلق الدال على اتضاح حال المذموم في نفس الذام، فلعله يبقى مستقلا بعد نفي الأقسام، أو في نوع آخر غير المكذورة؛ لعدم إقامة الدليل على الحصر في هذه الأقسام. هذا تقرير كلامه.
وجوابه: أن هذا الكلام من سراج الدين إنما يلزم إذا دعى نفي هذه الأمور، أما من ادعى نفي إفادتها للتعريف، فيكفيه أن يقول: إنه لم يفهم من لفظك المحاول للتعريف إلا كذا، وتعين أمر أو أكثر من غير حصر، ونقول: هذا الذي فهمته من كلامك لا يصلح للتعريف، وعمومه ما فهمته