الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل التاسع
في حكم الأشياء قبل الشرع
انتفاع المكلف بما ينتفع به إما أن يكون اضطراريا كالتنفس في الهواء وغيره وذلك لا بد من القطع بأنه غير ممنوع عنه إلا إذا جوزنا تكليف ما لا يطاق
وإما أن لا يكون اضطراريا كأكل الفواكه وغيرها
فعند المعتزلة البصرية وطائفة من فقهاء الشافعية والحنفية أنها على الإباحة
وعند المعتزلة البغدادية وطائفة من الإمامية وأبي علي بن أبي هريرة من فقهاء الشافعية أنها على الحظر
وعند أبي الحسن الأشعري وأبي بكر الصيرفي وطائفة من الفقهاء أنها على الوقف
وهذا الوقف تارة يفسر بأنه لا حكم وهذا لا يكون وقفا بل قطعا بعدم الحكم
وتارة بأنا لا ندري هل هناك حكم أم لا وإن كان هناك حكم فلا ندري أنه إباحة أو حظر
لنا
أن قبل الشرع ما ورد خطاب الشرع فوجب أن لا يثبت شيء من الأحكام لما ثبت أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع
أما القائلون بالاباحة فقد تمسكوا بأمور ثلاثة
الأول ما اعتمد عليه أبو الحسين البصري وهو أن تناول الفاكهة مثلا منفعة خالية عن أمارات المفسدة ولا مضرة فيه على المالك فوجب القطع
بحسنه، أما أنه منفعة فلا شك فيه وأما أنه خال عن امارات المفسدة فلأن الكلام فيما إذا كان كذلك
وأما أنه لا ضرر فيه على المالك فظاهر وأما أنه متى كان كذلك حسن الانتفاع به فلأنه يحسن منا الاستظلال بحائط غيرنا والنظر في مرآته والتقاط ما تناثر من حب غلته من غير إذنه إذا خلا عن أمارات المفسدة وإنما حسن ذلك لكونه منفعة خالية عن أمارات المفسدة غير مضرة بالمالك لأن العلم بالحسن دائر مع العلم بهذه الأوصاف وجودا وعدما وذلك دليل العلية
وهذه المعاني قائمة في مسألتنا فوجد الجزم بالحسن
فإن قلت هب أنكم لم تعلموا فيه مفسدة ولكن احتمال مفسدة لا تعلمونها قائم فلم لا يكون ذلك كافيا في القبح قلت هذا مدفوع من وجهين
الأول أن العبرة في قبح التصرف بالمفسدة المستندة إلى الأمارة فأما المفسدة الخالية عن الأمارة فلا عبرة بها ألا تراهم يلومون من قام من تحت حائط لا ميل فيه لجواز سقوطه ولا يلومونه إذا كان الجدار مائلا ويلومون من امتنع عن أكل طعام شهي لتجويز كونه مسموما من غير أمارة ولا يلومونه على الامتناع عند قيام أمارة فعلمنا أن مجرد الاحتمال لا يمنع
الثاني لو قبح الإقدام لتجويز كونه مفسدة لقبح الاحجام عنه لتجويد كونه مصلحة وفيه وجوب الانفكاك عن كل واحد منهما وهو تكليف ما لا يطاق
الوجه الثاني في أصل المسألة أن الله تعالى خلق الطعوم في الأجسام مع إمكان أن لا يخلقها فيها وذلك يقتضي أن يكون له تعالى فيها غرض يخصها،
وإلا كان عبثا ويستحيل أن يعود الغرض إلى الله تعالى لامتناع ذلك عليه فلا بد وأن يكون الغرض عائدا إلى غيره
فأما أن يكون الغرض هو الإضرار أو الإنفاع أو لا هذا ولا ذلك
والأول باطل أما أولا فباتفاق العقلاء وأما ثانيا فلأنه لا يحصل الضرر إلا بإدراكها فإذا كان الضرر مقصودا والإدراك من لوازم الضرر كان مأذونا فيه لأن لازم المطلوب مطلوب
ولا يجوز أن يكون الغرض أمرا وراء الإضرار والإنفاع لأنه باطل بالاتفاق
فثبت أن الغرض هو الإنفاع وذلك الإنفاع لا يعقل إلا على أحد ثلاثة أوجه
إما بأن يدركها وإما بأن يجتنبها لكون تناولها مفسدة يستحق الثواب باجتنابها وإما بأن يستدل بها
وفي كل ذلك إباحة إدراكها لأنه إنما يستحق الثواب بتجنبها إذا دعت النفس إلى إدراكها وفيه تقدم إدراكها وإنما يستدل بها إذا عرفت والمعرفة بها موقوفة على إدراكها لأن الله تعالى لم يخلق فينا المعرفة بها من دون الإدراك
فصح أنه لا فائدة بها إلا إباحة الانتفاع بها الوجه الثالث أنه يحسن من العقلاء التنفس في الهواء وأن يدخلوا منه أكثر مما تحتاج إليه الحياة ومن رام أن لا يزيد على قدر ما يحتاج إليه عده العقلاء من المجانين والعلة في حسنه أنه انتفاع لا نعلم فيه مفسدة وهي قائمة في مسألتنا وهذه الدلالة هي عين الدلالة الأولى واستنشاق الهواء مثال ذلك.
أما القائلون بالحظر فقد احتجوا بأنه تصرف في ملك الغير بغير إذنه فوجب أن لا يجوز قياسا على الشاهد
واحتج الفريقان على فساد قولنا إنه لا حكم بوجهين
الأول إن قولكم لا حكم هذا حكم بعدم الحكم والجمع بين إثبات الحكم وعدمه تناقض والثاني أن هذه التصرفات إما أن تكون ممنوعا عنها فتكون على الحظر أو لا تكون فتكون على الإباحة ولا واسطة بين النفي والإثبات
والجواب عن الأول أن الحكم العقلي في الأصل ممنوع
سلمناه لكن لا نسلم كونه معللا بالوصف المذكور والاعتماد في اثبات العلية على الدوران العقلي قد أبطلناه
وعن الثاني بالقدح فيما ذكروه من التقسيم ثم بالنقض بالمطعومات الموذية المهلكة وعن حجة أصحاب الحظر بأن الإذن معلوم بدليل العقل كالاستظلال بحائط الغير فلم قلتم إن هذا القياس لا يدل عليه؟
وعن التناقض بأن نقول أي تناقض في الإخبار عن عدم الإباحة والحظر؟
وعن الأخير أن مرادنا بالوقف أنا لا نعلم أن الحكم هو الحظر أو الإباحة وإن فسرناه بالعلم بعدم الحكم قلنا هذا القدر ليس إباحة، بدليل أنه حاصل في فعل البهيمة مع أنه لا يسمى مباحا بل المباح هو الذي أعلم فاعله أو دل
على أنه لا حرج عليه في الفعل والترك
وإذا بينا أنه لم يوجد هذا الإعلام لا عقلا ولا شرعا لم يكن مباحا والله أعلم.
قال القرافي: الفصل التاسع في حكم الأشياء قبل ورود الشرع إلى آخره، فحكى الخلاف فيما لا يكون العبد مضطرا إليه، كأكل الفاكهة، وحكاية الحظر عن بعض المعتزلة في الأفعال مطلقا يلزم منه تحريم إنقاذ الغرقى، وإطعام الجوعان، وكسوة العريان، ونصر المظلوم، وجميع المصالح تكون حينئذ محرمة عندهم، وهذا مما تأباه قواعد الاعتزال إباء شديدا، فأين هذا من وجوب رعاية المصالح عقلا؟
وإيجاب الإثابة عليها عقلا في حق الله تعالى، بحيث إنهم يحيلون على الله تعالى عدم الإثابة، وكذلك حكايته عن بعضهم الإباحة مطلقا يقتضي إباحة القتل، وإفساد العقول، والأعراض، وأخذ الأموال، وجميع أنواع الظلم والفساد، وهذا تأباه قاعدة الإعتزال، لأن المعتزلة جزم العقل عندهم بأن الله تعالى أناط التحريم بالمفاسد، ورد السمع أم لا، ويجوبن ذلك في حق الله تعالى، فبين إباحة المفاسد ومذهبهم بعد شديد.
وأما سيف الدين وإمام الحرمين في "البرهان"، والأبياري والمازري وغيرهم، فجزموا بان هذه المذاهب إنما هي في القسم الثالث من الأقاسم عند المعتزلة، وهو ما لم يقض العقل فيه بتحسين ولا بتقبيح، كمقادير العبادات، وتخصيصها ببعض الأزمة ونحو ذلك.
وأما صاحب "المستصفى" فقال ولم يجزم: يحتمل أن يكون ذلك فيما لم يجزم العقل فيه بتحسين ولا تقبيح.
والصواب قول إمام الحرمين ومن وافقه لما تقدم، وحكى القاضي عبد
الوهاب المالكي في ((الملخص)) هذ المسألة، كما حكاها "المحصول" وقال: ذهب أبوالفرج المالكي وكثر من أصحاب الشافعي وحكى في كتاب "الإفادة" الحظر عن الشيخ أبي بكر الأبهري من الماليكة، وحكي الوقف عن ابن المنتاب المالكي فوافق جماعة من أهل السنة المعتزلة، وخالفوهم في المستند بمستندهم السمع لا العقل، كما عند المعتزلة، فتمسكوا على الإباحة في كل شيء قبل الشرائع بقوله تعالى:((خلق لكم ما في الأرض جميعا))، وبقوله تعالى:"أعطى كل شيء خلقه " وبقوله تعالى: "قل: من حرم زينة الله التي
أخرج لعباده والطيبات من الزرق "، وتمسكوا على التحريم بقوله تعالى:"يحل لهم الطيبات " دل على أنها قبل ذلك غير محللة وبقوله تعالى: "وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا " دل ذلك على أن ما لم يأتنا لا نباشره، وذلك هو التحريم، وبقوله تعالى: "يسألونك ماذا أحل لهم" دل ذلك على أن الأصل التحريم، ويسألون ما أبيح منه، ولأن قاعدة الشرع إذا دار الفعل بين الإباحة والتحريم حرم، كالأجنبية مع الأخت الملتبسة، وكالمذكاة مع الميتة، فكل فريق يقول: إذا فقد دليل خاص حمل على الحظر إن كان القائل به، أو على الإباحة إن كان القائل به، فتظهر فائدة ذلك عند تعارض الأدلة، أو عند عدمها، فهاذ نوع آخر من الخلاف غير المحكى عن المعتزلة.
وقال أبوالحسين في ((المعتمد)): المآكل والمشارب على الإباحة.
وقال معتزلة ((بغداد)) وطائقة من الإمامية وبعض الفقهاء وأبي علي بن
أبي هريرة من فقهاء الشافعية: محظورة، وتوقف قوم في حظرها، وهذا مغاير للمصنف وسيف الدين، فهذا تلخيص محل الخلاف في هذ المسألة.
وقوله: الوقف يفسر تارة بأنه لا حكم وحسن تسمية هذا وقفا بأن الجازم بمذهب يتوقف على الفتيا بضده، ولذلك نقول: المتقي يتوقف عن حدود الله، بمعنى يمتنع من الدخول فيها ولم يبين أن المذهبيين للأشعري، وحكى سيف الدين وغيره مذهب الأشعري الجزم بعدم الحكم.
وقوله: ((لنا أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع)).
قال كثير من الفضلاء:
هذا رجوع منه عن قاعدة الحسن والقبح التي سلمها، وبحث على فرضها وتقديرها، فإنها تقتضي ثبوت الأحكام بالعقل، فدعواه الحصر في السمع رجوع عما سلمه، وليس كما قالوا؛ لأنه قد تقدم أن المسلم إنما هو ولاية العقل على الحكم، ولا يلزم من تسليم كون العقل بحيث يحكم أن يكون حكم لجواز تعذر المدرك، كما أن العقل له أن يحكم في علم الحساب بالإجماع، ولا يتوقف على السمع، ولكن إذا اشتد عليه المدرك في تلك المسألة الحسابية لا يحكم اتافقا، وقد نص الحساب على أن المسائل الحسابية ثلاثة أقسام:
منها ما يخرج بالحساب المفتوح وبحساب الجبر، ومنها ما لا يخرج إلا بحساب الجبر، ومنها ما لا يخرج أبدا، فكذلك ها هنا، نسلم لهم أن العقل يستقل بربط الأحكام الإلهية بالمدارك، ولكن إذا تعذر عليه وقف، ولم يحكم كذلك هاهنا لما بين في مسألة شكر المنعم أن المدرك إما لفائدة أو عدمها، والقسمان باطلان، فبطل المدرك، فلا جزم قال بعدها هاهنا لما بينت أن هذه الأحكام لا تثبت إلا بالشرع مع أنه لو لم يقتدم منه استدلال لما كان قوله رجوعا عما سلم لعدم التناقض بين تسليم الولاية على الحكم، واستحقاقه عقلا، وبين منع المدرك العقلي، بل لو منع المدارك مطلقا لم يلزم ذلك فاعلمه.
وقوله: "خلق الطعوم في الأجسام مع إمكان ألا يخلقها، فلا بد من عرض، ويستحيل عوده إلى الله تعالى ".
يرد عليه ما تقدم في شكر المنعم أن مذهبهم أن حكمة الله تعالى تقضتي له لذاته أن يظهر الإحسان والفضل، وأنواع البدائع في الإيجاد وغيره، وأن هذا من صفات كماله، وصفات كماله عائدة إليه تعالى، فلهم منع هذا المقام بناء على هذا الأصل
وقوله: ((غرض الإضرار باطل باتفاق العقلاء)).
يريد أن القائل قائلان: قائل بعدم الغرض ألبتة، وهم السنية، وقائل
بغرض هو الإحسان، وهو مذهب المعتزلة، فرغض الإضرار لم يقل به أحد.
قوله: ((وأما ثانيا فلأن الضرر لا يحصل إلا بإدراكها)) ويرد بالإدراك المباشرة بالعقل؛ لقوله: فيكون مأذونا فيه، وعلى هذا نمنع توقف الضرر على الإدراك مطلقا لجواز أن يتضرر الإنسان بما لا يدركه، كما تتأذى الناس بريح الوباء، وغيره من مجاورة الجبال، والسباخ، والبحار، ومواضع القتال عن بعد، والأكثر لا يعلم أن ذلك سبب الضرر بالأمراض، والأسقام، وغيرها، ولأن القائلين بأحكام النجوم قالوا: إن منها ما يضر الضرر العظيم؛ لأن الله تعالى خلقه كذلك كالعقاقير، ومع ذلك فلا يتناولها أحد، ولا يباشرها، بل ولا يعتقد ذلك فيها، ونحن وإن لمن نعتقد ذلك فيها، فذلك لعدم دلالة العادة في استقرائها على ذلك، فلو دل الاستقراء على أن ذلك منها أكثرى كالعقاقير الطبية اعتقدنا ما قالوه، كما اعقتدنا ذلك
في العقاقير مع تجويزنا ذلك قطعا، وإذا كان من الجائزات فعلى تقدير وقوعه لا يتوقف الضرر على الإدراك، بل الشمس والقمر مؤثران بإذن الله تعالى في العالم من غير إدراك اتفاقا بتغيير الفصول الأربعة، وإنضاج الثمار، وتجفيف الحبوب، والمقطوع من الخشب في ليالي الظلام لا يسوس بخلاف المقمرة.
وقوله: "الانتفاع لا يكون إلا بثلاثة أوجه " الحصر ممنوع لجواز أن ينتفع بها بوجه رابع؛ كما ينتفع بالجبال بإرساء الأرض ولمجاورة البحر الملح لإصلاح أجساد الحيوانات، حتى قيل: إن البلد البعيد عن البحر الملح أكثر من نصف شهر يضعف حاله، لأن هواه يملح الأجساد، ويذهب عنها العفن كالملح في لحوم الذبائح إذا رفع، قالوا: وهذا حكمة من حكمة خلق الله تعالى له، وبالجملة فأنواع الانتفاع بالمخلوقات كثيرة في باطن الإنسان وظاهره، وقريبة وبعيدة، بغير ما ذكره فالحصر ممنوع.
وقوله: "وفي كله إباحة إداركها" ويريد بالإدراك المباشرة حتى تشتهيها نفسه عند الإجتناب ممنوع، فإن الإنسان قد يشتاق لاشيء بالأخبار وقرائن الأحوال، ولذلك إن العميان يحبون على السماع، ونحوه كثير في العالم، والالتذاذ أيضا لا يتوقف على الإدراك، بل يلتذ الإنسان أيضا بالسماع، والاستدلال وغيره، ودلالة الصنعة على صانعها غير متوقفة على المباشرة، لأنا نستدل بالكواكب وأفلاكها، وغير ذلك من أجزاء العالم ولم نباشرها.
وقوله في الجواب عن الأول: ((إن الحكم العقلي في الأصل ممنوع)).
معناه: أن القياس من شرطه أن يكون من باب واحد، فتقاس العاديات على العاديات، والعقليات على العقليات، والشرعيات على الشرعيات، لأن القياس لا بد فيه من جامع هو مدرك الحكم في الأصل، والفرع مساوٍ له فيه، فثبت ذلك الحكم في الفرع، هذا يقتضي اشتراكهما في موجبات