الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما النفس ونحوها فإن هاهنا أمرين: عوارض، ومعروضات لها.
فالعوارض: كون النفس تتألم وتلتذ وتعلم وتجهل، ونحو ذلك من كونها ربط بها حياة البدن، وتدبير الأغذية والادوية، وتصرفات الأمراض وتنوعها وتحليلها وتزيدها.
والمعروض له: هو الشئ الذي عرض له هذه الأمور، وهو كنه النفس وحقيقتها من حيث هي هي، فالعوارض هي المعلومة بالضرورة لنا، وأما الكنه والحقيقة التى عرضت لها هذه الأمور فمجمهولة لنا بالضرورة، وهذا كما نقول: إذا رأينا صنعة نعلم أن لها صانعا، ومدبرا بالضرورة، وكنه ذلك الصانع وحقيقته غير معلومة بالضرورة، وكذلك قال العلماء: كنه حقيقة الله تعالى غير معلوم للبشر، وكونه صانع العالم ضروريا، فإن دلالة الصنعة على صانعها ضرورى، فبهذا الطريق يحصل الجمع بين كون النفس غير ضرورية، وبين صحة استدلاله -رحمه الله تعالى - فإنى إنما أعلم نفسى بالضرورة من حيث عوارضها، لا من حيث هي هي، وكذلك جميع الصور المجهولة التى علمت من وجه الضرورة.
((سؤال))
إذا سلم له أن العلم والظن غير مكتسبين
لقولة جلاهما فكيف حدهما؟ أم العلم فتعرض لتحديده في التقسيم؛ لأن التقسيم إنما أتى به للتحديد كما قال: الفصل الثالث في تحديد العلم والظن، ثم أنه ذكر التقسيم، ثم أنه تعرض لتحديد الظن ثانيا بقوله:((الظن تغليب لأحد مجوزين ظاهرى التجويز))، فأحد الكلامين باطل.
((تنبيه))
أسقط ((المنتخب)) هذا البحث، وقال ((الحاصل)): لا سبيل إلى تحديد العلم
؛ لأن الحد كاشف عن المعلوم، ولا كاشف عن العلم ألبتة، وإلا لدار بل هو الكاشف عن غيره.
وأما الظن فتحديده ممكن، وهو اعتقاده الراجح بأحد النقيضين، فوافق الإمام في العلم دون الظن في عدم تحديده.
وجواب هذا الدور: هو لأن الحد هو كشف ما دل اللفظ المعين عليه بطريق الأإجمال.
مثاله: إذا سئلنا عن حد الإنسان فقلنا: هو الحيوان الناطق، فالسامع إما أن يكون عالما بالحيوان والناطق أولا، فإن كان عالما بالحيوان الناطق فهو عالم بالإنسان، فعن أي شيء سأل؟ وعن أي شيء عرفناه نحنه؟ وإن كان جالها بهما فالتعريف بالمجهول لا يصح، فيتعين به إن كان بشر أن يكون عالما بالإنسان، وإنما سمع لفظ الإنسان فعلم أنه له مسمى ما، ولم يعلم عينه، ومسمى ما هو بعض وجوه الإنسان، لأن الإنسان هو مسمى ما، فقد علم الإنسان أولا بطريق الإجمال من جهة لفظ الموضوع بإزائه، فلما حددناه له فقلنا له ذلك المعلوم لك من وجه هو الحيوان الناطق، فقد فصلنا له ما كان عنده مجملا، فهذا هو الحد، وبهذا أجيب عن قولهم في حد العلم: هو معرفة المعلوم على ما هو به، إن المعلوم مشتق من العلم، فلا يعرف إلا بعد معرفة العلم، فتعريف العلم به دور، فقيل لهم: إنه المعنى الذي يتعلق بالمعلوم، وهو كان علما به، لأن التعريف بالمجهول لا يجوز، علم حينئذ حقيقة العلم، وكذلك الجواب عن قولهم في حد الأمر: هو القول المقتضى طاعة المأمور بفعل المأمور به أنه قد يعلم المأمور، ويعلم أنه مأخوذ من معنى معين، ولا يعلم أن اسم ذلك المعنى أمر فلا دور حينئذ، بل الحدود كلها إنما تقع بالمعلوم، ومتى كان الجنس والفصل معلومين، فالنوع معلوم، ويتعين أن التحديد إنما أفاد تفصيل ما أجمله اللفظ، وعلى هذا يكون لفظ العلم لم يعلم السامع أنه موضوع لأي شيء، فإذا قلت له: هو معرفة المعلوم على ما هو به، أو هو الجزم المطابق لمستند كما قاله الإمام أو غير ذلك، وهو
تعريف تلك الألفاظ ومدولاتها حصل له تفصيل ما أجمله عليه لفظ العلم لما قلناه له، ونحن إنما توصلنا لتفصيل ذلك بالعلم بما كان عنده مفصلا، فلو أن العلم في ذاته مجهول، لا نسبة اللفظ لزم الدور، لكن هو في نفسه معلوم، وهو المتوقف عليه، ولم يتوقف هو على غيره، بل المتوقف هو تفصيل إجمال ذلك اللفظ الذي سمعه السائل فلا دور، وكذلك جميع الحدود حتى فرضت السائل جاهلا بالمعنى في نفسه، استحال تعريف له بالجنس الفصل لوقوع الجهل فيهما حينئذ، فإنهما متى كانا معلومين استحال أن يجهل النوع، إذ لا معنى للنوع إلا مجموعهما، فاندفع السؤال، وهكذا كان ((الخسروشاهي)) يقرره، يجيب به عن جميع هذه الأدوار.
قال شيف الدين: توقف غير العلم على العلم إنما هو من جهة أن العلم كاشف له، وتوقف العلم على ذلك الغير من جهة أنه صفة مميزة له، وخاصة ولا يلزمه، فهذا جواب حسن، بعد تسليم أن العلم متوقف في ذاته وحكى عن المتكلمين في تعريفه ثلاثة أقوال ثالثها بالتقسيم والمثال دون الحد، قاله الغزالى وإمام الحرمين قال: والتفصيل ضعيف؛ لأن التقسيم إن لم يفد تعريفا فهلا عبرة به، وإلا فهو تعريف حد أو رسم، وهو المذهب الأحسن.
قوله: ((الظن تغليب لأحد مجوزين ظاهرى التجويز إلى آخر الفصل)).
تقريره: أن الحقائق في نفس الأمر، صفات نسبتها إليهما كنسبة صفات لنفوس إليها، مثال: العقرب من صفاتها تأليف الجسمية، ويمتنع أن يكون عقربا بدون ذلك، فنسبة هذا المعنى إليه كنسبة العلم إلى النفس من جهة أنه لايجوز خلافي، ومن صفاتها غلبة الأذى عليها، فنسبه هذا المعنى إليه كنسبة الظن للنفس من جهة أن فيه طرفا راجحا وطرفا مرجوحا، ومن صفاتها أن نسبة ذاتها إلى حصولها في البقعة المعينة، ولا حصولها على السواء، فنسبة هذا إليها كنسبة الشك إلى النفس من جهة الاستواء، وكذلك الغيم الرطب يوصف بالجسمية، فلا يجوز خلافها، ونقله للأمطار فيكون راجحا كالظن في النفس، ونسبته إلى نفعه من الأرض نسبة واحدة، وكذلك جميع الحقائق، وظهر بهذا أن الرجحان والغلبة قد يكون في المعتقد كالمطر ونحوه، وقد يكون في الاعتقاد، وهو الطرف الراجح المسمى ظنا، فعلى هذا الاعتقاد المتعلق برجحان المعتقد قد يكون علما، كما نعقتد نحن في رجحان أذى العقرب وغلبته، فإنه معلوم لنا، وقد يكون ظنا في حق من لم يرها قط، نظرا إلى شوكها وسرعة حركتها، فيغلب على ظنه أنه حيوان مؤذ، وقد يكون شكا، كما إذا استوى عنده الأمران، أو تقليدا كما إذا سألنا وقلدنا، أو جهلا مركبا، بأن يكون في أرضه حيوان شائك شبها، فظن أنها ذلك الحيوان، واعتقد انها عظيمة النفع عديمة الضرر، كذلك الحيوان الذي بأرضه؛ لأنه لم يرها إلا لآن، فهذا جهل مركب، فظهر أن الاعتقاد المتعلق بالرجحان الكائن في الحقائق التى هي المعتقدات تنقسم إلى خمسة:
العلم، والظن، التقليد، والجهل المركب، والشك على ما تقدم له في التقسيم، وإلا فالشك ليس اعتقادا.
وأما رجحان الاعتقاد فهو الاحتمال الراجح الكائن في النفس، فيتعذر أن