الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل السابع
في أن حسن الأشياء وقبحها لا يثبت إلا بالشرع
الحسن والقبح قد يعنى بهما: كون الشيء ملائما للطبع أو منافرا، وبهذا التفسير لا نزاع في كونهما عقليين.
وقد يراد بهما كون الشيء صفة كمال أو صفة نقص كقولنا العلم حسن والجهل قبيح ولا نزاع أيضا في كونهما عقليين بهذا التفسير.
وإنما النزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلا وعقابه آجلا فعندنا أن ذلك لا يثبت إلا بالشرع، وعند المعتزلة: ليس ذلك إلا لكون الفعل واقعا على وجه مخصوص؛ لأجله يستحق فاعله الذم قالوا وذلك الوجه قد يستقل العقل بإدراكه وقد لا يستقل.
أما الذي يستقل، فقد يعلمه العقل ضرورة كالعلم بحسن الصدق النافع وقبح الكذب الضار وقد يعلمه نظرا كالعلم بحسن الصدق الضار وقبح الكذب النافع.
والذي لا يستقل العقل بمعرفته، فكحسن صوم آخر يوم من رمضان وقبح صوم الذي بعده فإن العقل لا طريق له إلى العلم بذلك لكن الشرع لما ورده به علمنا أنه لولا اختصاص كل واحد منهما بما لأجله حسن وقبح وإلا لامتنع ورود الشرع به.
لنا أن دخول هذه القبائح في الوجود إما أن يكون على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق وعلى التقديرين فالقول بالقبح العقلي باطل.
بيان الأول: أن فاعل القبيح، إما أن يكون متمكنا من الترك، أولا يكون، فإن لم يتمكن من الترك، فقد ثبت الاضطرار، وإن تمكن من الترك، فإما أن يتوقف رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح، أو لا يتوقف، فإن توقف فذلك المرجح إما أن يكون من العبد، أو من غيره أو لا منه ولا من غيره:
أما القسم الأول، وهو: أن يكون من العبد فهو محال لأن الكلام فيه كما في الأول فيلزم التسلسل.
وأما القسم الثاني، وهو: أن يكون من غير العبد فنقول عند حصوله ذلك المرجح إما أن يجب وقوع الأثر أو لا يجب:
فإن وجب، فقد ثبت الاضطرار، لأن قبل وجود هذا المرجح كان الفعل ممتنع الوقوع، وعند وجوده صار واجب الوقوع، وليس وقوع هذا المرجح بالعبد ألبتة فلم يكن للعبد تمكن في شيء من الأحوال من الفعل والترك ولا معنى للاضطرار إلا ذلك.
وإن لم يجب، فعند حصول هذا المرجح لا يمتنع وجود الفعل تارة وعدمه أخرى فترجح جانب الوجود على جانب العدم، أما أن يتوقف على انضمام مرجح إليه أو لا يتوقف فإن توقف لم يكن الحاصل قبل ذلك مرجحا تاما وكنا قد فرضناه مرجحا تاما هذا خلف.
وأيضا: فالكلام في هذه الضميمة كما في الأول فيلزم التسلسل وهو محال.
وأما إن لم يتوقف على انضمام قيد إليه، فمع ذلك المرجح تارة يوجد الأثر، وتارة لا يوجد، ولم يكن رجحان جانب الوجود على جانب العدم موقوفا على قصد من جهته ولا على ترجيح ألبتة وإلا لعاد إلى القسم الأول وقد أبطلناه.
فحينئذ يكون دخول الفعل في الوجود اتفاقيا لا اختياريا فقد ثبت الإتفاق.
وأما القسم الثالث، وهو أن يكون حصول ذلك المرجح لا من العبد ولا من غيره فحينئذ يكون واقعا لا لمؤثر فيكون حصوله اتفاقيا لا اختياريا.
وأما لو قلنا: إن المتمكن من الفعل متمكن من الترك لكن لا يتوقف رجحان الفاعلية على التاركية على مرجح، فعلى هذا التقدير يكون رجحان الفاعلية على التاركية اتفاقيا أيضا، لأن تلك القادرية لما كانت نسبتها إلى الأمرين على السوية ثم حصلت الفاعلية في أحد الوقتين دون التاركية من غير مرجح ألبتة، كان رجحان الفاعلية منه على التاركية اتفاقيا، فإن قلت: لم لا يجوز أن يقال القادر يرجح الفاعلية على التاركية من غير مرجح، قلت: هل لقولك يرجح مفهوم زائد على كونه قادرا أو ليس له مفهوم زائد عليه؟!
فإن كان ذلك مفهوما زائدا على كونه قادرا، كان ذلك قولا بأن رجحان الفاعلية على التاركية لا يمكن إلا عند انضمام قيد آخر إلى القادرية فيصير هذا هو القسم الأول الذي تكلمنا فيه.
وإن لم يكن ذلك مفهوما زائدا لم يبق لقولكم:"القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر من غير مرجح" إلا أن صفة القادرية مستمرة في الأزمان كلها.
ثم إنه يوجد الأثر في بعض تلك الأزمنة دون بعض، من غير أن يكون ذلك القادر قد رجحه أو قصد ايقاعه، ولا معنى للاتفاق إلا ذلك فثبت بهذا البرهان القاطع أن دخول هذه القبائح في الوجود إما أن يكون على سبيل الاضطرار أو على سبيل الاتفاق.
وإذا ثبت ذلك، امتنع القول القبع العقلي بالإتفاق.
أما على قولنا فظاهر.
وأما عند الخصم، فلأنه لا يجوز ورود التكليف بذلك؛ فضلا عن أن يقال:
إن حسنه معلوم بضرورة العقل.
فثبت بما ذكرنا أن القول ب القبح العقلي باطل.
أما الخصم، فقد ادعى العلم الضروري بقبح الظلم والكذب والجهل وبحسن الانصاف والصدق والعلم.
ثم قالوا هذا العلم غير مستفاد من الشرع لأن البراهمة مع انكارهم الشرائع عالمون بهذه الأشياء؟
ثم زعموا بعد ذلك أن المقتضي لقبح الظلم مثلا هو كونه ظلما لأنا عند العلم بكونه ظلما نعلم قبحه وإن لم نعلم شيئا آخر وعند الغفلة عن كونه ظلما لا نعلم قبحه وإن علمنا سائر الأشياء، فثبت أن المقتضي لقبحه ليس إلا هذا الوجه.
ومنهم من حاول الاستدلال بأمور:
أحدها أن الفعل الذي حكم فيه بالوجوب مثلا لم يختص بما لأجله
استحق ثبوت ذلك الحكم، وإلا كان تخصيصه بالوجوب دون سائر الأحكام ودون سائر الأفعال ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر لا لمرجح.
وثانيها: أنه لو لم يكن الحسن والقبح إلا بالشرع، لحسن من الله تعالى كل شيء، ولو حسن منه كل شيء، لحسن منه إظهار المعجزة على يد الكاذب، ولو حسن منه ذلك لما أمكننا أن نميز بين النبي والمتنبيء وذلك يفضي إلى بطلان الشرائع.
وثالثها: لو حسن من الله تعالى كل شيء لما قبح منه الكذب وعلى هذا فلا يبقى اعتماد على وعده ووعيده، فإن قلت الكلام الأزلي يستحيل أن يكون كذبا.
قلت هب أن الأمر كذلك لكن لم لا يجوز أن تكون هذه الكلمات التي نسمعها مخالفة لما عليه الشيء في نفسه وحينئذ يعود الإشكال.
ورابعها: أن العاقل إذا قيل له إن صدقت أعطيناك دينارا وإن كذبت أعطيناك أيضا دينارا واستوى عنده الصدق والكذب في جميع الأمور إلا في كونه صدقا وكذبا فإنا نعلم بالضرورة أن العاقل يختار الصدق.
ولولا أن الصدق لكونه صدقا حسن وإلا لما كان كذلك.
وخامسها: أن الحسن والقبح لو لم يكونا معلومين قبل الشرع لاستحال أن يعلما عند ورود الشرع بهما؛ لأنهما إذا لم يكونا معلومين قبل ذلك فعند ورود الشرع بهما يكون واردا بما لا يعقله السامع ولا يتصوره وذلك محال، فوجب أن يكونا معلومين قبل ورود الشرع.
والجواب عن دعوى الضرورة: أنها مسلمة ولكن لا في محل النزاع فإن كل ما كان ملائما للطبع حكموا بحسنه وما كان منافرا للطبع حكموا بقبحه، فهذا القدر مسلم فإن ادعيتم أمرا زائدا عليه فلا بد من افادة تصوره ثم اقامة الدلالة على التصديق به فإن كل ذلك غير مساعد عليه فضلا عن ادعاء العلم الضروري فيه.
فإن قلت: الظلم ملائم لطبع الظالم، ومع ذلك فإنه يجد في صريح العقل قبحه ولأن من خاطب الجماد بالأمر والنهي، فإنه لا ينفر طبعه عنه مع أن قبحه معلوم بالضرورة، ولأن من أنشأنا قصيدة غراء في شتم الملائكة والأنبياء وكتبها بخط حسن وقرأها بصوت طيب حزين؛ فإنه يميل الطبع إليه وينفر العقل عنه فعلمنا أن نفرة العقل مغايرة لنفرة الطبع.
قلت: الجواب عن الأول أن الظالم لا يميل طبعه إلى الظلم لأنه لو حكم بحسنه لما، قدر على دفع الظلم عن نفسه فالنفرة عن الظلم متمكنة في طبع الظالم والمظلوم إلا أنه إنما رغب فيه لعارض يختص به وهو أخذ المال منه والحكم بحسن الإحسان إنما كان لأن الحكم بحسنه قد يفضي إلى وقوعه، وهو ملائم لطبع كل أحد والحكم بقبح الكذب إنما كان لكونه على خلاف مصلحة العالم وبحسن الصدق لكونه على وفق مصلحة العالم وبحسن انقاذ الغريق لأنه يتضمن حسن الذكر وإن لم يوجد ذلك فلأن من شاهد شخصا من أبناء جنسه في الألم تألم قلبه فإنقاذه منه يستلزم دفع ذلك الألم عن القلب، وذلك مما يميل إليه الطبع.
وأما مخاطبة الجماد فلا نسلم أن استقباحها يجري مجرى استقباح الظلم.
والقدر الذي فيه من الاستقباح إنما كان لاتفاق أهل العلم على أن الإنسان لا يجب أن يشتغل إلا بما يفيده فائدة إما عاجلة وإما آجلة.
وأما القصيدة المشتملة على الشتم فإنما تستقبح لإفضائها إلى مقابلة أرباب الفضائل بالشتم والاستخفاف وهو على مضادة مصلحة العالم.
فظهر أن المرجع في هذه الأشياء إلى ملائمة الطبع ومنافرته، ونحن قد ساعدنا على أن الحسن والقبح بهذا المعنى معلوم بالعقل والنزاع في غيره.
سلمنا تحقق الحسن والقبح لكن لا نسلم أن المقتضى لقبح الظلم هو كونه ظلما ولم لا يجوز أن يكون المقتضى لقبحه أمرا آخر؟
قوله العلم بالقبح دائر مع العلم بكونه ظلما وجودا وعدما.
قلنا: لم قلت إن الدوران العقلي دليل العلية عليه وما الدليل عليه؟!
ثم إنه منقوض بالمضافين فإن العلم بكل واحد من المضافين دائر مع العلم بالآخر وجودا وعدما مع أنه يمتنع كون أحدهما علة للآخر وتمام تقرير هذا السؤال سيأتي إن شاء الله في كتاب القياس.
سلمنا أن الدليل الذي ذكرتموه يقتضي أن يكون قبح الظلم لكونه ظلما لكن معنا ما يدل على فساده وهو أن المفهوم من الظلم اضرار غير مستحق وكونه غير مستحق قيد عدمي والقيد العدمي لا يصلح أن يكون علة للحكم الثابت ولا أن يكون جزءا للعلة إذ لو جاز استناد الأمر الثبوتي إلى الأمر العدمي لجاز استناد خلق العالم إلى مؤثر عدمي وحينئذ ينسد علينا باب معرفة كون الله تعالى موجدا لأن العدم نفي محض فيستحيل أن يكون مؤثراً.
فإن قلت لم لا يجوز أن يكون العدم شرطا لتأثير العلة في المعلول؟!
قلت: لأنه إذا فقد هذا العدم لم تكن العلة مؤثرة في المعلول وعند وجوده تصير مؤثرة فيه فكون العلة بحيث تستلزم المعلول وتستعقبه أمر حدث مع حدوث هذا العدم وليس له سبب آخر سواه فوجب تعليله به فيعود الأمر إلى تعليل الأمر الثبوتي بالأمر العدمي وهو محال.
وأما الجواب عما احتجوا به أولا فهو أن رجحان أحد طرفي الممكن على الآخر إن افتقر إلى المرجح توقف رجحان فاعلية العبد على تاركيته على مرجح غير صادر من جهته وإلا وقع التسلسل ويكون رجحان الفاعلية على التاركية عند حصول ذلك المرجح واجبا وإلا لزم الرجحان لا لمرجح.
وإذا كان كذلك لزم الجبر ويلزم من لزوم الجبر القطع ببطلان القبح العقلي.
وإن لم يفتقر الرجحان إلى المرجح أصلا فقد اندفعت هذه الشبهة بالكلية
والجواب عما احتجوا به ثانيا أن الاستدلال بالمعجزة على الصدق مبني على مقامين: أحدهما: أن الله تعالى إنما خلق ذلك المعجز لأجل التصديق
والثاني: أن كل من صدقه الله تعالى فهو صادق، والقول بالحسن والقبح إنما ينفع في المقام الثاني، لا في المقام الأول فلم قلتم إن الله تعالى ما خلق هذا الفعل إلا لغرض التصديق؟!
وتحقيقه: أن لو توقف الرجحان على المرجح لزم الجبر وإذا لزم الجبر، لزم بطلان القبيح العقلي لزم بطلان القبح العقلي.
ولو لم يتوقف على المرجح، لجاز أن يقال أن الله تعالى خلق ذلك المعجز لا لغرض أصلا.
ثم إن كان ذلك لغرض فلم قلتم: إنه لا غرض سوى التصديق؟
فإن قلت القول بالقبح العقلي يمنع من خلق المعجز على يد الكاذب مطلقا، لأن خلقه عند الدعوى يوهم أن المقصود منه التصديق فلو كان المدعي كاذبا لكان ذلك ايهاما لتصديق الكاذب وإنه قبيح والله تعالى لا يفعل القبيح.
قلت: لم قلت: إن الفعل الذي يوهم القبيح ولم يكن موجبا له قبيح؟
وذلك لأن المكلف لما علم أن خلق المعجز عند الدعوى يحتمل أن يكون للتصديق ويحتمل أن يكون لغيره، فلو حمله على التصديق قطعا لكان التقصير من المكلف حيث قطع لا في موضع القطع، وهذا كإنزال المتشابهات في القرآن فإنه يوهم القبيح ولكنه لما احتمل سائر الوجوه لم يقبح شيء منها من الله تعالى.
فثبت أن الإلزام الذي أوردوه علينا في إحدى المقدمتين وارد عليهم في المقدمة الأخرى وكل ما يجعلونه جوابا عنه في تقرير إحدى المقدمتين فهو جوابنا في تقرير المقدمة الأخر. ى
والجواب عما ذكروه ثالثا: أنه وارد عليهم أيضا، لأن الكذب قد يكون حسنا وذلك في صورتين إحداهما أن الكافر إذا قصد قتل النبي فاختفي النبي في دار انسان فجاء الكافر وسأل صاحب الدار عن ذلك النبي وعلم صاحب الدار أنه لو أخبره عن مكان النبي أو سكت أو اشتغل بالتعريض لقتله قطعا فها هنا الصدق قبيح والكذب حسن.
ثانيتهما أن من توعد غيره ظلما وقال: إني سأقتلك غدا فلا شك أنه متى لم يفعل ذلك صار هذا الخير كذبا فلو كان الكذب قبيحا لكان ترك هذه الأشياء مستلزما للقبيح ومستلزم القبيح قبيح فيجب أن يكون ترك هذه الأشياء قبيحا فيكون فعلها حسنا لا محالة وذلك باطل بالاتفاق.
فإن قلت الجواب عن الصورة الأولى من وجهين: الأول: أنا لا نسلم أنه يحسن الكذب هناك ويقبح الصدق فإن الواجب أن يأتي فيه بالمعاريض وإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب سلمنا أنه يحسن ذلك ولكن كونه كذبا يقتضي القبح والحكم قد يتخلف عن المقتضى لمانع إلا أن الأصل حصول الحكم عند حصول العلة وهذا هو الجواب أيضا عن الصورة الثانية.
قلت الجواب عن الأول أن الخبر إنما يصير من باب المعاريض بإضمار أمر وراء ما دل الظاهر عليه إما بزيادة أو نقصان أو تقييد مطلق أو تخصيص عام مع أنه لا ينبه السامع على أنه نوى ذلك لأنه لو نبهه عليه لما حصل المقصود وإذا جوزتم حسن ذلك لأجل مصلحة تقتضي ذلك لم يمكنكم اجراء خطاب الله تعالى على ظاهره وذلك لا سبيل إليه إلا بأن يقال لا يعرف هذا المعارض لكن عدم العلم بالشيء لا يدل على عدم الشيء.
وعن الثاني أن تخلف الأثر العقلي عن المؤثر العقلي محال وإلا كان عدم المانع جزءا من العلة وهو محال ثم إن سلمناه، لكن الإلزام عائد عليكم لأنكم لما جوزتم في الجملة تخلف الحكم عن المؤثر لمانع جاز في كل خبر كاذب أن لا يكون قبيحا لأجل أنه وجد مانع يمنع من قبحه وحينئذ لا يحصل القطع بكونه قبيحا بل غاية ما في الباب أن يحصل الظن بقبحه فقط.
والجواب عما ذكروه رابعا أنه: إنما ترجح الصدق على الكذب في تلك الصورة لما أن أهل العلم قد اتفقوا على قبح الكذب وحسين الصدق لما أن نظام العالم لا يحصل إلا بذلك والإنسان لما نشأ على هذا الاعتقاد واستمر عليه لا جزم ترجح الصدق عنده على الكذب.
فإن قلت أنا أفرض نفسي خالية عن الإلف والعادة والمذهب والاعتقاد ثم أعرض على نفسي عند هذا الفرض هذه القضية فأجدها جازمة بترجيح الصدق على الكذب
قلت هب أنك فرضت نفسك خالية عن هذه العوارض لكن فرض الخلو عن العوارض لا يوجب حصول الخلو عن العوارض بل لو أني خلقت خاليا عن العوارض ففي ذلك الوقت لا أدري هل كنت أحكم بهذا الحكم أم لا؟
والجواب عما ذكروه خامسا أن عندنا الموقوف على الشرع ليس هو تصور الحسن والقبح فإني قبل الشرع أتصور ماهية ترتب العقاب والذم على الفعل وعدم هذا الترتب فتصور الحسن والقبح لا يتوقف على الشرع وإنما الموقوف على الشرع هو التصديق به فأين أحدهما من الآخر والله أعلم.
وقد جرت عادة أصحابنا أن يتكلموا بعد هذه المسألة في مسألتين أخريين:
أحدهما: أن شكر المنعم لا يجب عقلا.
والثانية: أنه لا حكم قبل ورود الشرع.
واعلم أنا متى بينا فساد القول بالحسن والقبح العقليين فقد صح مذهبنا في هاتين المسألتين لا محالة
لكن الأصحاب سلموا القول بالحسن والقبح العقليين ثم بينوا أنه بعد تسليم هذين الأصلين لا يصح قول المعتزلة في هاتين المسألتين.
قال القرافي: قال سيف الدين: أكثر العقلاء على مذهب أصحابنا، ووافق المعتزلة الكرامية والخوارج.
..........................................................................
والبرَاهمة، والثنوية، وغيرهم، ورأيت أنا ذلك لليهود والنصارى في كتبهم، ومعتقداتهم، وهو مذهبهم أعني اليهود والنصارى.
قال سيف الدين: اختلف المعتزلة فقال أوائلهم: الصفات لاتوجب الحسن والقبح، ومنهم من أوجب ذلك، ومنهم من أوجبه في القبح دون الحسن، وورد على كلام الإمام ستة عشر سؤالا:
الأول: على قوله: إنما النزاع في كون الفعل متعلق الذم عاجلا والعقاب آجلا، فإنه يشعر بأن هذا الترتيب فيه النزاع، وليس كذلك عندنا، وعند المعتزلة يجوز أن يحرم الله تعالى، ويوجب ولا يجعل ذما أصلا، بل بحصول المقصود بالوعيد من غير ذم، فلا يصح أن تعجيل الذم متنازع فيه، وكذلك يكلف الله - تعالى- فلا يعاقب آجلا، بل يعجل العقوبة عقيب الذنب، ولا ينازع المعتزلة ولا أهل السنة في جواز ذلك، بل الله تعالى قدر بإرادته تعجيل الذم، وتأجيل العقاب الأعظم، وغيره ممكن عند الفريقين، فما قال أحد: إن في العقل ما يقتضي تأخير العقاب عن الجاني، فقد أهلك الله كثيرا من المجرمين عقيب ذنوبهم، ولا استحالة في ذلك، إنما النزاع في كون الفعل متعلق المؤاخذة الشرعية كيف كانت هل يستقل العقل بذلك أم لا؟
كانت ذما أو غيره معجلة أو مؤجلة.
الثاني: على قوله: وعند المعتزلة لكون الفعل واقعا على وجه مخصوص، ولم يبين ذلك الوجه، فبقي الكلام مجملا، واقتضاؤه على ذكر الصدق والكذب، وهما مثالان لا يفيدان القاعدة الكلية، ولعله يتخيل متخيل أن خصوصهما مراد، والمشترك بينهما وبين غيرهما، وإذا كان المشترك المراد فهل هو ذلك كله؟ لم يتعرض لتخصيصه بل ينبغي أن يقال: متى اشتمل الفعل على مصلحة خالصة أو راجحة اقتضى العقل عندهم أن الله - تعالى - طلبه، وإن اشتمل على المفسدة الخالصة أو الراجحة قضى العقل بأن الله - تعالى - طلب تركه، وإن عرى عنهما، إما لعروه عن المصلحة والمفسدة، أو لتساويهما كان مباحا، ومتى اشتمل على المصلحة الخالصة أو الراجحة،
وهي في المرتبة الدنيا فالواقع الندب، وكلما عظمت عظم الطلب، وإن كانت في المرتبة العليا فالواقع الوجوب، حتى يكون أعلى مراتب الندب، يليه أدنى مراتب الوجوب، وإذا كانت المفسدة الخالصة أو الراجحة في أدنى المراتب كانت الكراهة، أو في أعلى المراتب كان التحريم، حتى يكون أعلى مراتب الكراهة يليها أدنى مراتب التحريم، وبهذا الطريق تتحرر عندهم الأحكام الخمسة بالعقل، وعندنا نحن أيضا الواقع بالشرع كذلك، وغير أنا لانوجبه، وهم يوجوبنه على الله - تعالى - فهذا تلخيص مذهب الفريقين، غير ان هاهنا عقبة صعبة على الفريقين قطعها، وهي المراد بالمصلحة أو المفسدة، إن كان مسماهما كيف كانا، فما من مباح إلا وفيه في الغالب مصالح ومفاسد، فإن أكل الطيبات ولبس الثياب اللينات فيها مصالح الأجساد ولذات النفوس، وآلام ومفاسد في تحصيها، وكسبها وتناولها، وطبخها وإحكامها، وإجادتها بالمضغ، وتلويث الأيدي إلى غير ذلك مما لو خير العاقل بين وجوده وعدمه اختار عدمه، فمن يؤثر وقيد النيران وملابسة الدخان وزفر الأدهان، فيلزم ألا يبقى مباح ألبتة، وإن أراد ما هو اخص من مطلقهما، مع أن مراتب الخصوص متعددة، وليس بعضها أولى من البعض، ولأن العدول عن أصل المصحة والمفسدة تأباه قاعدة الاعتزال، فإنه سفه ولا يمكنهم أن يقولوا: إن ذابط ذلك أن كل مصلحة توعد الله على تركها، أو مفسدة توعد الله تعالى على فعلها هي المقصودة هاهنا، وما أهمله الله تعالى فليس دالخا في مقصودنا، ونحن حينئذ نريد ملطق المعتبر من غير تخصيص، فيندفع الإشكال، لأنا نقول: الوعيد عندكم، والتكليف تابع للمصلحة والمفسدة، ويجب عندكم بالعقل، فإنه - تعالى - يتوعد على ترك المصالح، وفعل المفاسد، فلو استفدتم المصالح والمفاسد المعتبرة من الوعيد لزم الدور، ولو صحت الاستفادة في المصالح والمفاسد من الوعيد للزمكم أن تجوزوا أن يرد التكليف بفعل المفاسد، وترك المصالح، وتنعكس