الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحقائق حينئذ، فإن المفيد هو التكليف، وأي شيء كلف الله - تعالى - به كان مصلحة، وهذا يبطل أصلكم، وأما حظ أصحابنا من هذا الإشكال، فهو أنه يتعذر عليهم أن يقولوا: إن الله - تعالى - راعى مطلق المصلحة، ومطلق المفسدة على سبيل التفضل؛ لأن المباحات فيها ذلك، ولم يراع، بل يقولون: إن الله - تعالى - ألغى بعضها في المباحات، واعتبر بعضها، وإذا سئلوا عن ضابط المعتبر مما ينبغي ألا يعتبر عسر الجواب، بل سبيلهم استقراء الواقع فقط، وهذا وإن كان يخل بنمط من الاطلاع على بعض أسرار الفقه، غير أنهم يقولون:((يفعل الله ما يشاء)) [إبراهيم:27]، و "يحكم ما يريد " [المائدة: 1]، "لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون " [الأنبياء:23]، ويعتبر الله - تعالى - ما يشاء لا غرو في ذلك.
وأما المعتزلة الذين يوجبون ذلك عقلا يكون هذا الأمر عندهم في غاية الصعوبة، لأنهم إذا فتحوا هذا الباب تزلزلت قواعد الاعتزال.
((تنبيه))
نعني بالخالصة من المصالح ما لا مفسدة فيه ألبتة
، وهو عزيز في الواقع وبالراجحة ما فيه مفسدة مرجوحة، كالقود والحدود فإن فيه آلام الجناة غير أن مفسدة مصلحة الزجر أجرح، وكذلك المفسدة الراجحة كالإسكار معه مصلحة في الخمر من إثارة الحرارة الغريزية، والبلاغم والسوداء إلى غير ذلك مما ذكره أهل الطب غير أن ذلك مرجوح بالنسبة إلى مفسدة إفساد العقول، والمفسدة الخالصة نادرة كالمصلحة الخالصة.
((تنبيه))
ليس مراد المعتزلة بأن الأحكام عقلية أن الأوصاف مستقلة بالأحكام، ولا
أن العقل هو الموجب أو المحرم، بل معناه أن العقل عندهم أدرك أن الله - تعالى - لحكمته البالغة يكلف بترك المفاسد، وتحصيل المصالح، فالعقل أدرك أن الله - تعالى - أجب وحرم، لا أن العقل أوجب وحرم، ويكون النزاع معهم في أن العقل لأدرك ذلك أم لا؟
فنحن نقول: الذي ادركه العقل أن ذلك جائز على الله تعالى، ولا يلزم من الجواز الوقوع، وهم يقولون: بل هو عند العقل من قبيل الواجبات، لا من قبيل الجائزات، فكما يوجب العقل أن الله - تعالى - يجب أن يكون عليما قديرا متصفا بصفات الكمال، فكذلك أدرك وجوب مراعاة الله - تعالى - للمصالح، والمفاسد، فهذا هو موطن نزاع الفريقين فاعلمه، فأكثر الفقهاء ما يفهم إلا أن العقل عند المعتزلة هوا لموجب وليس كذلك.
الثالث: على قوله: ((وقد يعلم نظرا كالصدق الضار، والكذب النافع)) لم يبين ما الذي يعلمه العقل من ذلك، وإذا تبين فهل هو حكم واحد في جميع هذا القسم أو أحكامه مختلفة؟ ذلك كله لم يتعرض لتلخيصه، مع أنه قصد التلخيص وتحقيقه أن الكذب الضار مفسدة مطلقا لكونه كذبا، ولكونه صارا، فيكون قبيحا، ومراتبه في القبح على قدر مرتبته بما حصل من الضرر، ولاصدق النافع مصلحة مطلقا، لأن كونه صدقا مصلحة، وسجية كريمة، وكونه نافعا مصلحة للغير، فيكون حسنا من غير نظر، ومرتبته في الحسن على قدر ماحصل للغير من النفع.
أما الصدق الضار فاجتمع فيه مصلحة الصدق ومفسدة الضرر، فيحتاج العقل بنظر أيهما راجح أو هما مستويان؟
فقد يكون الضرر لا يقدح في الحسن، كصدق الشهود الموجب للقصاص وغيره، فإنه ضار بمن عليه الحق، وقد يكون قادحا كمن صدق ظالما في إخباره عن مالم معصوم، فأخذه الظالم، ثم في هذا المقام يختلف الحال
فليس صدق قاضي الإقليم المقتضي لضياع فليس على اليتيم بقبيح، بل لو كذب ليحفظ ذلك كان قبيحا، فإن كذب العظيم الذي هو قدوة الإسلام لا يباح بمثل هذا، وصدقه لضياع الأموال العظيمة قبيح، وصدق الرجل الحقير المضيع للمال المتوسط قبيح، فحينئذ يتعين النظر في كل صورة على حيالها بحسب حال الصادق، أو الكاذب، وبحسب حال المترتب على ذلك الصدق أو الكذب، وتعبر المفاسد والمصالح، وما يعارضها في كل صورة بحسبها، فإن رجح جانب القبح قضينا به، أو جانب الحسن قضينا به، وإن استوى الأمران، وفسرنا الحسن بما ليس فيه مفسدة خالصة، ولا راجحة كان موطن التساوي حسنا، فعلى هذا تخلتف الأحكام في هذا القسم اختلافا كثيرا، ولا يكون حكمه واحدا، وهو مرادهم بأنه مدرك العقل بالنظر، لأنه أدرك بالنظر حكما واحدا في الجميع.
الرابع: على قوله: إن لم يتمكن من الترك، فقد ثبت الاضطرار، ولأن غير المتمكن له معنيان:
أحدهما: المكره كالذي يحمل ويدخل به الدار.
والثاني: الفاعل المختار المتمكن من الفعل والترك إذا استجمع لكل ما لا بدل له منه في التأثير، فإن أثره حينئذ يصير واجب الوقوع، وما كان واجب الوقوع لا يتمكن أحد من تركه، وكذلك إذا استجمع لله - تعالى - جميع ما يتوقف على تأثيره من تعلق قدرته وعلمه، وحضور زمان مراد إرادته، وجميع الشروط الواجبة في ذلك الأثر وجب ذلك الأثر من الله تعالى، فهذه قاعدة عقلية لا يستثنى منها شيء، وعدم التمكين بهذا التفسير لا ينافي الحسن والقبح، لأن الفعل إنما وقع باختيار الفاعل حينئذ وإيثاره، فأمكن مدحه وذمه، فهو حينئذ إن فسر عدم التمكن بهذا القسم منعناه عدم
الحسن والقبح، وإن فسره بالقسم الآخر منعنا الحصر في الاضطراري والاتفاقي لبقاء هذا القسم.
الخامس: على قوله: المرجح إما أن يكون من العبد، أو من غيره، أو لا منه ولا من غيره، فإنه غير حاصر، وبقي أن يقول: البعض منه والبعض الآخر من غيره، أوبعضه منه، وبعضه الآخر لا من غيره، او بعضه من غيره، والبعض الآخر لا من العبد، وهذه الأقسام لم يتعرض لها من أن الواقع عند المعتزلة هو القسم الأول أن البعض من العبد، والبعض من غيره.
وتقريره عندهم: أن الله - تعالى - خلق النساء الجميلة، وخلق الإدراك في البصر لذلك وخلق مزاج الشاب ولذة الجماع، ولما حصل ذلك وأدرك الشاب الجميلة أحدث من قبل نفسه عندهم عزما وإرادة وأفعالا بها كمل المرجح لوقوع الزنا، وكذلك جميع الصور فالقسم المقصود بالبحث لم يذكره.
السادس: على قوله: إذا كن المرجح من العبد يلزم التسلسل فنقول: لم لايمجوز أن يكون من العبد وتنتهي المرجحات إلى مرجح لا مرجح له، فيكون ذلك المرجح اتفاقيا، ولا يكون القبيح الذي وقع الكلام فيه اتفاقيا ولا اضطراريا؟
أما أنه ليس اتفاقيا، فلأنه لمرجح، وأما أنه غير اضطراري فبتمكنه من الترك، والاتفاق إنما وقع في مرجح بعيد لم يدع فيه الحصر والإضطرار والاتفاق، فلا يحصل مقصود المستدل من أن السرقة نفسها التي الكلام فيها منحصرة في الأمرين، ثم نقول: التسلسل يلزم فيها إذا كان المرجح من الغير بعين ما نقوله فيها إذا كان المرجح من العبد.
السابع: على هذا المقام أيضا أن التسلسل غير لازم، وإن لم تكن بعض المرجحات اتفاقيا، فإن لقائل أن يقول: يتوقف المرجح العاشر على الأول مثلا، فيكون اللازم الدور، فلا تتم دعوى لزوم التسلسل، وإن ادعى الدور
بقول السائل لا يلزم، بل يذهب لغير النهاية، فيتعين أن يدعى أحد الأمرين إما الدور او التسلسل، لا أحدهما بعينه، وإذا كان أحدهما هو اللازم الذي هو أعم من احدهما عينا لا يكون أحدهما عينا هو اللازم؛ فإنه لا يلزم من لزوم الأعم لزوم الاخص لعدم لزوم الأخص للأعم.
الثامن: على قوله: إن توقف المرجح من الغير على ضميمة يعود الكلام فيها ويلزم التسلسل.
يرد عليه أن اللازم أحد الأمرين كما تقدم، لا التسلسل عينا.
التاسع: على قوله: لم لا يجوز أن يكون المرجح من الغير، ويجوز معه الفعل والترك؟ ولا يكون الفعل اتفاقيا بأن يكون ذلك المرجح هو الإرادة القديمة، والإرادة إنما هي إرادة كانت قديمة، أو حادثة تقبل في ذاتها الذي لها في ذاتها، وصحة تعلقها بكل واحد من النقيضين بدلا عن الآخر تتعلق باحدهما عينا من غير احتياج لمرجح يرجح أحدهما بها، وهذا هو خاصيتها إن ترجح من غير مرجح، كما أن من خاصية العلم الكشف لذاته، وخاصية الحياة تصحيح المحل لقبول الإدراكات والإرادات وغيرها لذاتها، فكل معنى له خصوص لذاته غير معلل، بل يقتضي ذلك لذاته، كذلك الإرادة تقتضي الترجيح من غير مرجح لذاتها، وكذلك إرادة الله - تعالى - كما يصح تلعقها بوجود العالم بدلا عن عدمه يصح تعلقها بعدمه بدلا عن وجوده، وقد تعلقت بوجوده بدلا عن عدمه لا لمرجح آخر.
فإذا قيل: لم يرجح وجود العالم بالزمن المعين، وجميع الأقوال الواقعة له دون أضدادها الجائزة عليه قبل الإرادة.
فإذا قيل: لم تعلقت الإرادة بهذه الأحوال دون أضدادها؟
قيل: ذلك لذات الإرادة، وكذلك الإرادة الحادثة لازما للشيء لذاته لا
تختلف باختلاف القدم والحدوث، كالعلم له الكشف حادثا وقديما، وكذلك الحياة وجميع المعاني.
وبرهان تصحيح كون الإرادة لاتفتقر إلى مرجح أن الترجيح من غير مرجح، كما هو محال فهو واجب، إذ لو لم يكن واجبا وافتقر كل مرجح إلى مرجح استحال أصل الترجيح للزوم التسلسل حينئذ أو الدور، فيكون أصل الترجيح موقوفا على المحال فيكون محالا، فحينئذ يجب أن يكون مرجح لا مرجح له، وذلك هو الإرادة بشهادة العقل أن ذلك لها لذاتها، كما شهد العقل أن الكشف لذات العلم من غير مرجح، والمصحح لقيام العلوم الحياة، فظهر حينئذ أن المرجح قد يكون من الغير، ويجوز معه لاوجود والعدم، ويقع الوجود دون العدم، ولايلزم الإتفاق، ولذلك يقول: لم لا يجوز أن يكون مرجح العبد هو إرادته، وهي مستغينة عن المرجح فلا يلزم التسلسل.
العاشر: أن جميع ما ذكره لازم في حق الله تعالى، بأن يقال: إما أن يمكن الترك في فعل الله - تعالى - أو لايمكن إلى آخر التقسيم، فيلزم أن أفعال الله - تعالى - إما اتفاقية لا مدخل له فيها، فلا توصف بالحسن، وهو خلاف إجماع الفيقين، أو اضطراريه فيكون الله سبحانه وتعالى مجبورا على أفعاله، أو يكون موجبا بالذات، وهو خلاف إجماع الفريقين، ومن أراد الجواب عن هذا فهو ببعض الأسئلة المتقدمة، إما سؤال الإرادة وهو السؤال السابع، أو بالسؤال الرابع، وهو تفسير غير المتمكن بالمستجمع لكل ما لا بد له من في التأثير.
الحادي عشر: أن يعلم بالضرورة أن الحيوانات لها أفعال اختيارية، بل ذلك هو حد لاحيوان في قولنا: هو الجسم الحساس المتحرك بالإرادة، فصار التحرك
بالإرادة والاختيار هو فصله، وفصل الجنس يجب الاشتراك فيه بين جميع أنواعه، وأشخاص أنواعه، فالأفعال الاختيارية يشترك فيها بين جميع الحيوانات
بالضرورة، فيكون هذا الاستدلال على خلاف الضرورة، فلا يسمع كذبة السوفسطائية المشككة في الضرورة.
الثاني عشر: أن دليله وإن سلم له جميع دعواه، ولا يمكن أن ينتجه.
أما أنه ما أنتج جميع دعواه، فلأنه ادعى أول الفصل أن حسن الأشياء وقبحها لا يثبت إلا بالشرع، ثم كان نتيجة دليله أن القبح العقلي باطل.
ولم يتعرض للحسن، فصارت الدعوى عامة والدليل خاص، فلا يسمع.
وأما أنه لا يمكن أن ينتج دعواه؛ فلأن الحسن عند المعتزلة ما للمتمكن منه العالم بحالة أن يفعله، وهذا يندرج فيه أفعال الله تعالى، ولا خلاف أن حسن أفعال الله - تعالى - وخلقه للعالم لا يتوقف على وورد النص، بل يدرك العقل، ولذلك عندنا الحسن ما ليس منهيا عنه، وماليس منها يندرج