الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النظر الثاني
في البحث عن الواضع
كون اللفظ مفيدا للمعنى إما أن يكون لذاته أو بالوضع سواء كان الوضع من الله تعالى أو من الناس أو بعضه من الله تعالى وبعضه من الناس فهذه احتمالات أربعة
الأول مذهب عباد بن سليمان الصيمري
والثاني وهو القول بالتوقيف مذهب الأشعري وابن فورك
والثالث وهو القول بالاصطلاح مذهب أبي هاشم وأتباعه
والرابع هو القول بأن بعضه توقيفي وبعضه اصطلاحي وفيه قولان منهم من قال ابتداء اللغات يقع بالاصطلاح والباقي لا يمتنع أن يحصل بالتوقيف
ومنهم من عكس الأمر وقال القدر الضروري الذي يقع به الاصطلاحي توقيفي والباقي اصطلاحي وهو قول الأستاذ أبي إسحاق
وأما جمهور المحققين فقد اعترفوا بجواز هذه الأقسام وتوقفوا عن الجزم
والذي يدل على فساد قول عباد بن سليمان أن دلالة الألفاظ لو كانت ذاتية لما اختلفت باختلاف النواحي والأمم ولاهتدى كل انسان إلى كل لغة وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.
واحتج عباد بأنه لو لم يكن بين الأسماء والمسميات مناسبة بوجه ما لكان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين ترجيحا لأحد طرفي الجائز على الآخر من غير مرجح وهو محال
وإن حصلت بينهما مناسبة فذلك هو المطلوب.
والجواب: إن كان الواضع هو الله تعالى كان تخصيص الاسم المعين بالمسمى المعين كتخصيص وجود العالم بوقت مقدر دون ما قبله أو ما بعده
وان كان الناس فيحتمل أن يكون السبب خطور ذلك اللفظ في ذلك الوقت بالبال دون غيره كما قلنا في تخصيص كل شخص بعلم خاص من غير أن يكون بينهما مناسبة.
وأما الذي يدل على إمكان الأقسام الثلاثة فهو أن الله تعالى قادر على أن يخلق فيهم علما ضروريا بالألفاظ والمعاني وبأن واضعا وضع تلك الألفاظ لتلك المعاني
وعلى هذا التقدير تكون اللغات توقيفية.
وأيضا: فيصح من الواحد منهم أن يضع لفظا لمعنى ثم إنه يعرف الغير ذلك الوضع بالايماء والاشارة ويساعده الآخر عليه ولهذا قيل لو جمع جمع من الأطفال في دار بحيث لا يسمعون شيئا من اللغات فاذا بلغوا الكبر لا بد وأن يحدثوا فيما بينهم لغة يخاطب بها بعضهم بعضا وبهذا الطريق يتعلم الطفل اللغة من أبويه ويعرف الأخرس غيره ما في ضميره.
فثبت إمكان كونها اصطلاحية، واذا ثبت جواز القسمين ثبت جواز القسم الثالث وهو أن يكون البعض توقيفيا والبعض اصطلاحيا.
ولما كنا لا نجزم بأحد هذه الثلاثة فذلك يكفي فيه الطعن في طرق القاطعين.
احتج القائلون بالتوقيف بالمنقول والمعقول.
أما المنقول فمن ثلاثة أوجه:
أحدهما قوله تعالى وعلم آدم الأسماء كلها دل هذا على أن الأسماء توقيفية واذا ثبت ذلك في الأسماء ثبت أيضا في الأفعال والحروف من ثلاثة أوجه:
الأول أنه لا قائل بالفرق.
والثاني أن التكلم بالأسماء وحدها متعذر فلا بد مع تعليم الأسماء من تعليم الأفعال والحروف.
والثالث أن الاسم إنما سمي اسما لكونه علامة على مسماه والأفعال والحروف كذلك فهي اسماء أيضا
وأما تخصيص لفظ الاسم ببعض الأقسام فهذا عرف أهل اللغة والنحو.
وثانيها: أن الله تعالى ذم أقواما على تسميتهم بعض الأشياء من غير توقيف؛ بقوله تعالى " إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان" فلو لم يكن ما جعل دالا على غيرها من الاسماء توقيفا لما صح هذا الذم.
وثالثها قوله تعالى: "ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم " ولا يجوز أن يكون المراد منه اختلاف
تأليفات الألسنة وتركيباتها لأن ذلك في غير الألسن أبلغ وأجمل فلا يكون تخصيص الألسن بالذكر مرادا فبقي أن يكون المراد اختلاف اللغات.
وأما المعقول فمن وجهين:
أحدهما أن الاصطلاح إنما يكون بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره وذلك لا يعرف إلا بطريق كالألفاظ والكتابة.
وكيفما كان فإن ذلك الطريق لا يفيد لذاته فهو إما بالاصطلاح فيكون الكلام فيه كما في الأول ويلزم التسلسل أو بالتوقيف وهو المطلوب.
وثانيها أنها لو كانت بالمواضعة لارتفع الأمان عن الشرع لأنها لعلها على خلاف ما اعتقدناها لأن اللغات قد تبدلت.
فان قلت لو وقع ذلك لاشتهر، قلت هذا مبني على أن الواقعة العظيمة يجب اشتهارها وذلك ينتقض بسائر معجزات الرسول وبأمر الاقامة أنها فرادى أو مثناة.
أما القائلون بالاصطلاح فقد تمسكوا بالنص والمعقول:
أما النص فقوله تعالى "وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه" فهذا يقتضي تقدم اللغة على بعثة الرسول فلو كانت اللغة توقيفية والتوقيف لا يحصل إلا بالبعثة لزم الدور وهو محال.
وأما المعقول فهو أنها لو كانت توقيفية لكان إما أن يقال إنه تعالى يخلق العلم الضروري بأنه تعالى وضعها لتلك المعاني أو لا يكون كذلك.
والأول لا يخلو إما ان يقال إنه تعالى يخلق ذلك العلم في العاقل أو في غير عاقل:
وباطل أن يخلقه تعالى في عاقل لأن العلم بأنه تعالى وضع تلك اللفظة لذلك المعنى يتضمن العلم به تعالى فلو كان ذلك العلم ضروريا لكان العلم به تعالى ضروريا لأن العلم بصفة الشيء متى كان ضروريا كان العلم بذاته أولى أن يكون ضروريا ولو كان العلم به تعالى ضروريا لبطل التكليف لكن ذلك باطل لما ثبت أن كل عاقل فإنه يجب أن يكون مكلفا.
وباطل أن يخلقه في العاقل لأنه من البعيد أن يصير الانسان غير العاقل عالما بهذه اللغات العجيبة والتركيبات النادرة اللطيفة.
وأما الثاني؛ وهو أن لا يخلق الله تعالى العلم الضروري بوضع تلك الألفاظ لتلك المعاني فحينئذ لا يعلم سامعها كونها موضوعة لتلك المعاني إلى بطريق آخر، والكلام فيه كالكلام في الأول فيلزم إما التسلسل وإما الانتهاء إلى الاصطلاح.
هذا ملخص ما عول عليه ابن متويه في "التذكرة".
واحتج الأستاذ أبو اسحاق على قوله: بأن الاصطلاح لا يصح إلا بأن يعرف كل واحد منهم صاحبه ما في ضميره فإن عرفه بأمر آخر اصطلاحي لزم التسلسل، فثبت أنه لا بد في أول الأمر من التوقيف
ثم بعد ذلك لا يمتنع أن تحدث لغات كثيرة بسبب الاصطلاح بل ذلك معلوم بالضرورة ألا ترى أن
الناس يحدثون في كل زمان ألفاظا ما كانوا يستعملونها قبل ذلك؟!
فهذا مجموع أدلة الجازمين.
والجواب عن التمسك بقوله تعالى "وعلم آدم الأسماء كلها " أن نقول لم لا يجوز أن يكون المراد من التعليم أنه تعالى ألهمه الاحتياج إلى هذه الألفاظ وأعطاه من العلوم ما لأجلها قدر على هذا الوضع.
وليس لأحد أن يقول التعليم ايجاد العلم بل التعليم فعل صالح لأن يترتب عليه حصول العلم ولذلك يقال علمته فلم يتعلم ولو كان التعليم ايجاد العلم لما صح ذلك.
سلمنا أن التعليم ايجاد العلم ولكن العلم الذي يكتسبه العبد مخلوق لله تعالى فالعلم الذي يحصل بعد الاصطلاح بكون من خلق الله تعالى فقوله تعالى "وعلم "ولا ينافي كونه بالاصطلاح.
سلمنا ذلك فلم لا يجوز أن يكون المراد من الأسماء العلامات والصفات مثل أن يقال إنه تعالى علم آدم عليه السلام أن الخيل تصلح للكر والفر والجمال للحمل والثيران للزرع وذلك لأن الاسم مشتق من السمة أو من السمو وعلى التقديرين فكل ما يعرف عن ماهية شيء ويكشف عن حقيقته كان اسما له
وأما تخصيص لفظ الاسم بهذه الألفاظ فهذا عرف حادث.
سلمنا أن المراد من الأسماء الألفاظ فلم لا يجوز ان يقال إنها كانت
موضوعة بالاصطلاح من خلق خلقه الله تعالى قبل آدم عليه السلام فعلمه الله ما تواضع عليه غيره؟
وعن الثاني: أنهم إنما استحقوا الذم لاطلاقهم لفظ الإله على الصنم؛ مع اعتقاد تحقق مسمى الإلهية فيها.
وعن الثالث: أن اللسان اسم للجارحة المخصوصة وهي غير مرادة بالاجماع فلا بد من المجاز فليسوا بصرفه إلى اللغات أولى منا بصرفه إلى القدرة على اللغات أو إلى مخارج اللغات.
وعن الرابع: أنه باطل بتعلم الولد اللغة من والديه فإن ذلك ليس مسبوقا بالتوقيف.
سلمنا أنه لا بد قبل الاصطلاح من لغة أخرى ليصطلحوا بها على تلك اللغة الثانية فلم لا يجوز أن تكون هذه اللغات التي نتكلم بها الآن توقيفية لاحتمال أن يقال: كان قبل هذه اللغات لغة أخرى وأنها كانت توقيفية ثم إن الناس بتلك اللغة اصطلحوا على وضع هذه اللغات؟
فإن قلت: إذا كان لا بد من الاعتراف بلغة توقيفية فلنعترف بكون هذه اللغات توقيفية ولنسقط من البين تلك الواسطة المجهولة، قلت كلامنا في الجزم وما ذكرته ليس من الجزم في شيء.
وعن الخامس: أنه لو وقع التغيير في هذه اللغة لاشتهر، ونقضه بمعجزات الرسول وأن الإقامة فرادى أو مثناة فسيجيء الجواب عنه في باب الأخبار إن شاء الله تعالى.