الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الخامسة
قال الرازي: اختلفوا في أنه، هل يجوز أن يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم أو للعالم: (احكم، فإنك لا تحكم إلا بالصواب
؟): فقطع بوقوعه مويس بن عمران. وقطع جمهور المعتزلة بامتناعه، وتوقف الشافعي رضي الله عنه في امتناعه وجوازه، وهو المختار؛ وصحة هذا التوقف لا تظهر إلا بالاعتراض على أدلة القاطعين.
أما المانعون: فقد تعلقوا تارة بما يدل على امتناع وقوعه، وأخرى بما يدل على عدم وقوعه.
أما الوجه الأول: فتقريره: أن من أجاز هذا التكليف: إما أن يجعل الاختيار مما تتم به المصلحة، أو يجعل الفعل مصلحة في نفسه، ثم يختاره المكلف.
والأول باطل؛ لوجهين:
أحدهما: أن على هذا التقدير: يسقط التكليف؛ لأن المكلف، متى قال:(إن اخترته، فافعله، وإن لم تختره، فلا تفعله) فهذا محض إباحةٍ.
وثانيهما: أن المكلف لا ينفك عن الفعل والترك، ولا يجوز تكليف المرء بما لا يمكنه الانفكاك عنه؛ بخلاف التخيير في الكفارات الثلاث؛ فإنه يمكنه الانفكاك عنها أجمع.
وأما الثاني: فهو باطل من وجوهٍ أربعةٍ:
أولها: أنه إما أن يجوز له الحكم على هذا الوجه في الحوادث الكثيرة، أو في الحادثة والحادثتين:
والأول: محال؛ لأنه يمتنع حصول الإصابة بالاتفاق في الأشياء الكثيرة؛ ولهذا لا يجوز أن يقال للأمي: (اكتب مصحفًا، فإنك لا تخط بيمينك إلا ما يطابق ترتيب القرآن) وللجاهل: (أخبر؛ فإنك لا تخبر إلا بالصدق) ولولا ما ذكرناه، لبطلت دلالة الفعل المحكم على علم فاعله، وبطلت دلالة أخبار الغيب على النبوة.
وأما الوجه الثاني؛ وهو أن يجوز ذلك في القليل، دون الكثير: فهو باطل؛ لأن كل من جوزه في القليل، جوزه في الكثير، ومن منع منه في الكثير، منع منه في القليل؛ فالقول بالفرق خرق للإجماع.
وثانيها: وهو أنه إنما يحسن القصد إلى الفعل، إذا علم، أو ظن كونه حسنا؛ فلابد وأن يتميز له الحسن من القبح قبل الإقدام على الفعل، فإذا لم تتقدم هذه الأمارة المميزة، كان التكليف باختيار الحسن دون القبيح، تكليفًا بما لا يطاق.
فإن قلت: (إنما يميز بين الحسن والقبيح) بأن يقال له: (قد علمنا بأنك لا تختار شيئًا إلا وهو حسن):
قلت: فهذا يقتضي أنه إنما يعلم حسنه بعد فعله له، وهو إذا فعله، زال التكليف عنه.
فالحاصل: أن التمييز بين الحسن والقبيح لابد وأن يكون متقدمًا على الاختيار؛ وإلا وقع التكليف بما لا يطاق.
وإذا قال الله تعالى: (إنك لا تحكم إلا بالصواب): فهاهنا التمييز بين الحسن والقبيح لا يحصل إلا بعد الفعل، والشيء الذي يجب أن يكون متقدمًا، ليس هو الذي يجب أن يكون متأخرًا.
وثالثها: لو جاز أن يقول له: (احكم؛ فإنك لا تحكم إلا بالصواب) لجاز أن يكلفه تصديق النبي، وتكذيب المتنبي، من غير دليل ألبتة، بل يكله فيه على رأيه، ولجاز ذلك في الإخبار؛ فيقول:(أخبر؛ فإنك لا تخبر إلا عن حق) ولجاز أن يصيب في مسائل الأصول من غير تعلم ألبتة، ولجاز أن يفوض إليه تبليغ أحكام الله تعالى من غير وحي نزل عليه، وكل ذلك باطل بالإجماع.
ورابعها: لو جاز ذلك في حق العالم، لجاز في حق العامي؛ وبالإجماع لا يجوز.
أما الذي يدل على عدم الوقوع: فأمران: الأول: لو كان الرسول صلى الله عليه وسلم مأمورًا بأن يحكم على وفق إرادته من غير دليلٍ، لما كان منهيا عن اتباع هواه؛ لأنه لا معنى لاتباع الهوى إلا الحكم بكل ما يميل قلبه إليه؛ لكنه كان منهيًا عن اتباع الهوى؛ لقوله تعالى:} ولا تتبع الهوى {} وما ينطق عن الهوى {.
فإن قلت: لما قيل له: (احكم؛ فإنك لا تحكم إلا بالصواب) كان ذلك نصا من الله تعالى على حقية كل ما يميل قلبه إليه؛ فلا يكون ذلك اتباعًا للهوى).
قلت: فعلى هذا التقدير: صار اتباع الهوى في حقه غير ممكنٍ، ولو كان كذلك؛ فلم نهي عنه؟.
الثاني: لو قيل له: (احكم؛ فإنك لا تحكم إلا بالصواب) لما قيل له: (لم
فعلت كذا؟) لكن قد قيل له:} عفا الله عنك لم أذنت لهم {فلم يثبت ذلك في حقه.
وأما مويس: فإنه تعلق بأمورٍ: بعضها يدل على الوقوع، وبعضها يدل على الجواز فقط: أما الدال على الوقوع: فإما أن يدل على وقوع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو على وقوعه من غيره:
أما الأول: فقد ذكر مويس فيه عشرة أوجهٍ:
أحدها: أن منادي النبي عليه الصلاة والسلام نادي يوم فتح مكة (أن اقتلوا مقيس بن حبابة، وابن أبي سرحٍ، وإن وجدتموهما متعلقين بأستار الكعبة) لقوله: (من تعلق بأستار الكعبة، فهو آمن).
ثم عفا عن ابن أبي سرحٍ بشفاعة عثمان رضي الله عنه ولو كان الله تعالى أمر بقتله، لما قبل شفاعة أحد فيه إلا بوحيٍ آخر، ولم يوجد وحي آخر؛ لما أن نزول الوحي له علامات كانوا يعرفونها، وما ظهر في ذلك الوقت شيء من ذلك.
وثانيها: أنه قام يوم الفتح: (إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، لا يختلي خلاها، ولا يعضد شجرها) فقال العباس: (يا رسول الله، إلا الإذخر، فقال: إلا الإذخر) فهذا الحكم ما كان بالوحي؛ لأنه لم تظهر علامة نزول الوحي.
وثالثها: أنه عليه الصلاة والسلام نادى مناديه: (لا هجرة بعد الفتح) حتى استفاض ذلك، فبينما المسلمون كذلك، إذا أقبل مجاشع بن مسعود
بالعباس بن عبد المطلب شفيعًا؛ ليجعله مهاجرًا بعد الفتح، فقال عليه الصلاة والسلام:(اشفع عمي؛ ولا هجرة بعد الفتح).
ورابعها: أنه لما قتل النضر بن الحارث، جاءته قتيلة بنت النضر، فأنشدته:(الكامل):
أمحمد، ولأنت ضنء نجيبةٍ ..... في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت وربما .... من الفتي، وهو المغيظ المحنق
فقال عليه الصلاة والسلام: (أما إني لو كنت سمعت شعرها، ما قتلته) ولو كان قتله بأمر الله، لقتله، ولو سمع شعرها ألف مرةٍ.
وخامسها: قوله: (عفوت لكم عن الخيل والرقيق).
وسادسها: قوله عليه الصلاة والسلام: (أيها الناس، كتب عليكم الحج) فقال الأقرع بن حابسٍ: (أكل عامٍ، يا رسول الله) يقول ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت، فلما أعاد ذلك، قال:(والذي نفسي بيده، لو قلتها، لوجبت، ولو وجبت، ما قمتم بها، دعوني ما ودعتكم).
وسابعها: أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء ذات ليلة، فخرج ورأسه يقطر، فقال: (لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقت هذه الصلاة هذا الحين).
وثامنها: روى جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن عشت - إن شاء الله - لأنهين أمتي أن يسموا نافعًا، وأفلح وبركة)، وهذا الكلام يدل على أنه له.
وتاسعها: قال جابر: لما قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أن ماعزًا رجم، فقال:(هلا تركتموه؛ حتى أنظر في أمره) فلو لم يكن حكم الرجم إليه، لما قال ذلك.
وعاشرها: قوله عليه الصلاة والسلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، وعن لحوم الأضاحي، ألا فانتفعوا بها).
وأما الذي يدل على وقوع ذلك من غير رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقوله تعالى:} كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه {.
وأما الذي يدل على الجواز فقط: فأمور:
أحدها: أن الواجب من خصال الكفارة ليس إلا الواحد بالدلائل التي تقدم ذكرها في مسألة الواجب المخير، ثم أنه تعالى فوضها إلى المكلف، لما علم أنه لا يختار إلا ذلك الواجب؛ فدل على أن ذلك جائز.
وثانيها: أن الواجب في التكليف أن يكون المكلف متمكنًا من الخروج عن العهدة، فإذا قال الله تعالى له:(احكم؛ فإنك لا تنفك عن الصواب) علم أن كل ما يصدر عنه صواب؛ فكان متمكنًا من الخروج عن العهدة؛ فوجب القطع بجوازه.
وثالثها: إذا استوي عند المستفتي مفتيان، وأحدهما يفتي بالحظر، والآخر بالإباحة - فهو متمكن شرعًا من الأخذ بقول أيهما أراد، ولا فرق في العقل بين أن يقال:(افعل ما شئت؛ فإنك لا تفعل إلا الصواب) وبين أن يقال: (خذ بقول أيهما شئت؛ فإنك لا تفعل إلا الصواب).
والجواب عن أدلة المانعين: أن نقول: أما الوجه الذي تمسكوا به أولاً في امتناع ذلك عقلاً؛ فهو مبني على أن أحكام الله تعالى متفرعة على رعاية المصالح، ونحن لا نقول بهذا الأصل؛ فتلك الوجوه بأسرها ساقطة عنا، ثم إنا نسلم لهم هذا الأصل، ونبين ضعف كل واحد من تلك الوجوه:
أما قوله أولاً: (من أجاز هذا التكليف: إما أن يجعل الاختيار مما تتم به المصلحة، أو يجعل الفعل مصلحة في نفسه، ثم يختاره المكلف):
قلنا: اخترنا القسم الأول.
قوله: (هذا يكون إسقاطًا للتكليف):
قلنا: لا نسلم؛ وذلك لأنه قال للرسول: إن اخترت الفعل، فاحكم على الأمة بالفعل؛ وإن اخترت الترك، فاحكم على الأمة بالترك، فهذا لا يكون إسقاطًا للتكليف، بل يكون مكلفًا بأن يأمر الخلق بمتعلق اختياره.
قوله: (الفعل والترك لا ينفك المكلف عنهما):
قلنا: لكن الحكم على الخلق بالفعل، والحكم عليهم بالترك - قد ينفك عنهما؛ فلم لا يجوز ورود التكليف به؟ ثم يشكل ما ذكروه بالمستفتى، إذا أفتاه مفتيان: أحدهما بالحظر، والآخر بالإباحة: فكل ما يقولونه هناك، فهو قولنا هاهنا. سلمنا فساد هذا القسم؛ فلم لا يجوز القسم الثاني؟.
قوله: (إما أن يكون مأمورًا بذلك في الأفعال الكثيرة، أو القليلة.
قلنا: لم لا يجوز في الكثيرة؟.
قوله: (الاتفاقي لا يكون أكثريا):
قلنا: لا نسلم؛ فإن حكم الشيء حكم مثله عقلاً، وشرعًا، وعرفًا، فلما جاز ذلك في الأفعال القليلة، جاز في الأفعال الكثيرة أيضًا، فإن لم يفد هذا الكلام القطع بالجواز، فلا أقل من ألا يحصل معه القطع البديهي بالامتناع.
وأما الأمثلة التي ذكروها: فنقول: إن كان الحال فيها، كما هنا - احتاج الفرق بين القليل والكثير إلى دليل؛ وإلا فيمتنع القياس؛ على أنا قد بينا في هذا الكتاب: أن القياس لا يفيد اليقين ألبتة.
سلمنا أن الاتفاقي لا يدوم؛ ولكن إذا كان الاتفاقي ببعض الجهات معلوم السبب بسائر الجهات، أو إذا لم يكن؟!.
الأول ممنوع، والثاني مسلم:
بيانه: أن من الجائز أن يعلم الله تعالى: أن أكل الطعام الحلو في هذه السنة مصلحة للمكلفين، ويعلم أنهم خلقوا على وجهٍ لا يشتهون إلا الطعام الحلو، فإذا كان تناول الطعام الحلو مصلحًة طول عمره، لم يكن جهله بكون الفعل مصلحة - مانعًا له في هذه الصورة من الإقدام عليه في أكثر أوقاته.
سلمنا تعذر ذلك في الكثير؛ فلم لا يجوز في القليل؟ والإجماع الذي ذكروه ممنوع.
أما قوله ثانيًا: (التمييز بين الحسن والقبيح لابد وأن يتقدم على الفعل):
قلنا: لا نسلم.
وبيانه: بالوجهين المذكورين في الجواب عن الوجه الأول.
سلمنا ذلك؛ ولكنه حاصل هاهنا لأن الغرض أن يأمن المكلف من أن يفعل
قبيحًا أو مفسدًة يستحق به الذم، فأي فرق بين أن يجعل الله تعالى له على ذلك أمارة قبل أن يفعل، وبين أن يجعل الأمارة على ذلك نفس الفعل؟!.
وعلى الوجهين جميعًا: هو آمن من القبيح، ومتخلص من الذم، وليس يلزم ما قالوا؛ من أن الأمارة، إذا لم تتقدم على الفعل، كان مقدمًا على ما لا يأمن كونه قبيحًا؛ لأنه قبل أن يفعل، لما قيل له:(إنك لا تختار إلا الصواب) فهو آمن من الإقدام على القبيح.
وأما الوجه الثالث والرابع: فجوابه: أن الله تعالى، لما نص في تلك الصورة بأن المكلف لا يختار فيها إلا الصواب؛ فلم قلت: لا يجوز ورود الأمر بمتابعة إرادته؟.
وليس إذا لم يلزم مويس، لم يجز لغيره التزامه.
وأما الوجهان اللذان تمسكوا بهما في نفي الوقوع: فالجواب عنهما: أن قوله تعالى لمحمد عليه الصلاة والسلام: (إنك لا تحكم إلا بالصواب)، لعله ورد في زمانٍ متأخرٍ، وما ذكروه ورد في زمانٍ متقدمٍ؛ فلا يتناقضان.
وأما الوجوه العشرة التي تمسك بها مويس في الوقوع، فضعيفة؛ لاحتمال أن يقال: ورد الوحي بها قبل تلك الوقائع مشروطًا؛ مثل أن يقال: لو استثنى أحد شيئًا، فاستثنى له ذلك؛ وكذا القول في سائر الصور.
سلمنا أنه ما كان بالوحي؛ فلعله كان بالاجتهاد، وبهذا التقدير: لا يصح قول الخصم.
وأما قوله تعالى:} إلا ما حرم إسرائيل على نفسه {. [آل عمران: 93]
قلنا: يحتمل أن يكون حرم ذلك على نفسه بالنذر، أو بالاجتهاد؛ ويكون إثبات التحريم بالنذر جائزًا في شرعهم.
وأما الوجه الأول: من الوجوه التي تمسكوا بها في الجواز فجوابه: أنه مبني على أن الواجب في خصال الكفارة واحد معين عند الله تعالى؛ لكنا لا نقول به. وأما الوجهان الباقيان: فمبنيان على تشبيه صورة بصورةٍ، وقد عرفت أن هذا لا يفيد اليقين؛ فثبت بما ذكرنا ضعف أدلة القاطعين؛ فظهر أن الحق ما ذهب إليه الشافعي رضي الله عنه من التوقف.
المسألة الخامسة في تفويض الحكم
قال القرافي: قوله: (إذا جعل الاختيار فيما تتم به المصلحة، وخيره بين الفعل والترك، سقط التكليف):
قلنا: التقدير في أصل المسألة أن الذي يحكم به صواب، والصواب أعم من التكليف؛ فإن الإباحة واختيار خصوص الفعل دون الترك، أو الترك بدلاً عن الفعل يمكن أن يكون صوابًا، وقد لا يكون الصواب في ذلك الفعل إلا الإباحة، واختيار أحدهما بدلاً عن الآخر.
نعم لو التزمنا في أصل المسألة أنه يكون واجبًا، أو محرمًا امتنع.
قوله: (لا يجوز تكليف الإنسان بما لا ينفك عنه):
قلنا: خصوص الفعل، أو خصوص الترك يمكن الانفكاك عنه، مع أنا قد بينا أن الصواب أعم من التكليف.
قوله: (يمتنع الاتفاق في الأشياء الكثيرة):
قلنا: أما بالنسبة إلى مقاصد الإنسان والحيوانات، فتحيله العادة باعتبار الاختيار الحيواني.
وأما بالنسبة إلى الجواز العقلي، وما يقبله بيان الربوبية في الشرائع، فغير محل النزاع؛ لأن العقل يجوز أن يقع ذلك في العوائد في الأفعال البشرية.
وإنما العوائد قد تعين أحد الجائزين بالوقوع، كما تعين بقاء البحر ماء مع جواز انقلابه زيتًا، ونحوه.
ولذلك عينت أن الشيخ الذي شاهدناه - الآن - لم يولد شيخًا؛ بل طفلاً، ثم متدرجًا في الأسنان حتى صار شيخًا؛ مع جواز خلقه في العقل شيخًا، ونظائر ذلك كثيرة.
والبحث ما وقع في هذه المسألة إلا عن الجواز، وأنتم تصديتم للاستجالة، وإثباتها. وما ذكرتموه لا يكفي فيها، بل جواز هذا على الله - تعالى - لجواز بعثه الرسل بالشرائع، والمعجزات الخوارق، وهذا كله خارج عن نمط العادة، فكذلك هاهنا.
وبهذا ظهر الجواب عن قوله في كتابة المصحف من الجاهل، ونحوه؛ فإن تلك احتمالات عادية، يجوز على الله - تعالى - أن يغيرها، فهي من قبيل الجائزات على الله - تعالى - مما نحن فيه.
وإنما يمنع ذلك قبل أن يغيرها الله تعالى، وكذلك هاهنا تمتنع هذه المسألة إذا لم يفعلها الله - تعالى - لأحد.
وإنما الكلام هل يجوز عليه أن يفعل ذلك أم لا؟ وأنتم أحلتم ذلك.
قوله: (ولولا ذلك لبطل الاستدلال بالاتفاق على العلم، والأخبار بالغيب على النبوة):
قلنا: لا نسلم أن دلالة الاتفاق على العلم قطعية، لا يجوز خلافها، وامتناع كتابة الجاهل بالمصادفة للمصحف اتفاقي عادي، فإن الله - تعالى - أجرى عادته به، وهو جائز أن يكون خلافه، بخلاف الاتفاق لا يجوز خلافه.
وأما ما ينسب إلى العاقل، والجاهل، والحيوانات السمية من مسدسات بيوت النحل، وشبهها؛ فليس بشيء من أولئك فاعلاً إنما الفاعل هو الله - تعالى - فما صدر فعل من غير معين.
قوله: (القصد إلى الفعل فرع كونه حسنًا، فإذا لم يتميز كان تكليفًا بما لا يطاق):
قلنا: لا نسلم لزوم تكليف ما لا يطاق؛ لأن الله - تعالى - أذن له في اختيار أي شيء شاء.
والإرادة شاءها لذاتها أنها مستغنية في تعلقها عن المرجح - كما تقرر في أصول الدين - فإذا علق إرادة بفعل علم أنه حسن؛ لأن الله - تعالى - أخبره أن متعلق إرادته لا يكون إلا حسنًا.
فتأخر التمييز عن تعلق الإرادة، فيكون المكلف به مقدورًا، كما لو قال النبي عليه السلام لمن ضاعت له ضالة:(ارحل أي مكان شئت؛ فإنك تجدها فيه)، فإنه يبادر فيختار بغير سفه مكانًا فيجدها فيه، والتكليف واقع بالإجبار، فيجب تقدمه على الاختيار، لا على الحكم بالحسن.
قوله: (يزول التكليف بالفعل): مسلم، ونحن لم ندع أن التكليف ثبت بعده؛ بل قبل الاختيار ويزول بالفعل، كما قال، ولا تناقض.
قوله: (لو جاز ذلك لجاز أن يقول الله تعالى: احكم؛ فإنك لا تحكم إلا بالحق، ولذلك يفرق بين النبي، والمتنبي، باختياره، ويصيب في مسائل الأصول من غير تعليم):
قلنا: هذا كله جائز عقلاً وفي شأن الله - تعالى - وله أن يقول: أي شيء اخترته من العقائد فهو الحق، وهو تعالى يعلم أنه لا يختار إلا الحق بقضائه، وقدره السابق في أزله.
وكذلك يقول له: اعتقد أي رجل شئت من أهل زمانك؛ فإنه النبي الذي بعثته، والله - تعالى - عالم أنه لا يختار إلا النبي بعينه، فليس في هذا التهويل محذور على الخصم، وله إلزامه.
غايته: أنه سكت عنه، ولم يدعه.
وقولكم: إنه باطل بالإجماع - ممنوع.
وكذلك نقول: إن جميع ذلك جائز على الله - تعالى - بالنسبة إلى العامي.
قوله: (يصير اتباع الهوى في حقه غير ممكن، فيتعذر نهيه عنه، وقد نهي عنه):
قلنا: أمكن أن يكون وقوع ذلك في بعض الفتاوى دون بعض، فنهي عن الهوى باعتبار البعض الآخر، أو باعتبار الفتاوى، دون الأحكام.
أو نقول: النهي إنما يعتمد عدم إمكان الشيء عادة، كالطيران في الهواء،
أما المتعذر عقلاً، فلا يجوز كفر الكافر؛ فإنه معلوم لله - تعالى - فيتعذر الإيمان منه، ومع ذلك نهي عنه.
وكذلك التعذر بإخبار الشرع كما قال تعالى:} سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون {.
} وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين {.
فصار الإيمان منهم متعذرًا؛ لأجل هذا الخبر؛ لاستحالة الخلف على الله - تعالى -ومع ذلك فالكفر المتعذر عدمه بهذا الحد منهي عنه كذلك - هنا - إنما أوجب التعذر إخبار الله - تعالى - أنه لا يتبع الهوى، فلا يمنع ذلك النهي عن اتباع الهوى.
قوله: (لو وقع ذلك لما قال الله تعالى:} عفا الله عنك لم أذنت لهم {:
قلنا: نقل القاضي عياض في (الشفاء): (أن الله - تعالى - خيره في هذه الواقعة، فالحكم الشرعي الإباحة، ولا عبث، غير أن الشرع قد يخير بين شيئين، ويكون الجزم في أحدها، كما أن الإنسان يخير بين السفر والإقامة، والجزم في الإقامة، ويخر بين كراء الجمال، والحمير، والجزم في الجمال في البراري.
كذلك - هاهنا - الجزم ألا يأذن لهم؛ ليتبين المنافق من غيره، فالحكم واحد، ولا ذنب، ولا إثم، وذكر العفو لطف من الله - تعالى - لأنه قد يتخيل الذنب من قوله:} أذنت لهم {فيعظم مصيبته، فبدأ بذكر العفو لطفًا به صلى الله عليه وسلم.
قوله: (أنشدته (الكامل):
أمحمد ولأنت ضنء نجيبةٍ .... في قومها والفحل فحل معرق
قلنا: أنشد هذا البيت ابن السراج، واستشكل أنه منادي، وقد نون،
وهو علم، وشأن العلم البناء، والمبني لا ينون، وهذا النوع يكون في الشعر، نحو: يا سيدًا، يا ساجدًا، فينونون، مع أنه معين شأنه البناء.
وقال ابن السراج: وللنحاة فيه مذهبان: منهم من يرفعه، ويقول: ضمه للبناء، والتنوين للضرورة.
ومنهم من يقول: أصل المنادي النصب، فإذا دعت ضرورة الشعر للتنوين نصبنا، فإن السامع التنوين لا يجتمعان، وذكر أن البيت روى بالرفع، وبالنصب، والمغيظ بكسر الغين وفتح الميم.
قيل: المتبع؛ لأنه معتل العين مثله.
والمحنق: بضم الميم، وفتح النون من أحنق، مبني لما لم يسم فاعله، إذا أخذه الحنق، نحو: أعجب، فهو معجب بفتح الجيم، وهو من الأفعال التي بنتها العرب لما لم يسم فاعله ابتداء، نحو: عنيت بحاجتك، ونتجت الناقة.
والجواب عن الاستدلال به أن الأنبياء عليهم السلام مأمورون بحفظ - غرض النبوة، وصونها عن نسبة اللوم، وإذا مدح فاستعطف، فلم يعطف كان سببًا للطعن، فكذلك قال عليه السلام ما قال؛ للأمر الكلي السابق من الله - تعالى - لا لأنه يحكم بإرادته.
قوله: (في قوله عليه السلام: (عفوت لكم عن الخيل، والرقيق)
قلنا: قوله صلى الله عليه وسلم: (عفوت لكم)(وعفا الله عنكم) - سواء؛ فإن الله - تعالى - أقامه مبلغًا عنه، كما يقول نائب الملك: أوجبت عليكم، وعفوت عنكم، ويكون ذلك بإيجاب الملك، وعفوه، وأمره له في ذلك.
وأما قوله عليه السلام في الحج: (لو قلتها لوجبت)، وروى:(ما تركتكم).
فهذا يقتضي أنهم إذا تعرضوا له عليه السلام بالسؤال، وغيره أوجب ذلك عليهم شرعًا.
وهو مشكل الظاهر من جهة أن الله - تعالى - إذا لم يشرع، فسؤال الناس لا يحدث شيئًا، بل يقول عليه السلام: لا أعلم في ذلك شرعًا، وفي هذا الباب قوله عليه السلام في قيام الليل، لما لم يخرج في الليلة الثالثة، أو الرابعة:(خشيت أن يفرض عليكم)؛ فإن مواظبته عليه السلام في قيام الليل كيف يؤدي إلى الوجوب؟ بل إن أوجب الله - تعالى - وجب، لازموه أم لا؟.
وإن لم يوجبه لم يجب، فالموضع مشكل.
والذي أرى في هذه المواضع - أن الله - تعالى - شرع المصالح بحسب القدرة عليها، وتواطن النفس بها، واستقرارها على السكون للعمل بها، فإذا أراد الله - تعالى - شرعًا خلق في النفوس ذلك، وجعله سبقًا عادمًا لورود الشرائع، وإذا خلق في الوجود الضعف في نفوس الخلق جعل ذلك سببًا لتخفيف التكليف، فصارت الخمسون صلاة خمسًا، وعلى هذا القياس عادة الله - تعالى - في خلقه.
إذا تقرر هذا ظهر الجواب عن صلاته القيام؛ فإن المداومة عليها إظهار صورة القوة على هذه المصلحة، فيوجبها الله - تعالى - لأن مصلحتها مصلحة إيجاب، ومصلحة الإيجاب قد ترك إيجابها للمشقة؛ لقوله عليه السلام:(لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك) أخبرهم عليه السلام أن مصلحة السواك مصلحة إيجاب، وتركه الإيجاب للمشقة.
ولذلك إذا أظهروا الميل إلى الفعل، أو نوع من العبادات كان ذلك إظهارًا للقوة، فربما جعل الله - تعالى - ذلك سببًا عاديًا لتحقيق الوجوب، فنهي عن ذلك، وأمرنا بالموادعة، وترك التعرض لإظهار القدرة، والجلد؛ لئلا يعظم التكليف.
وأما قوله عليه السلام: (لو قلتها لوجبت) فسهل؛ لأنه يخبر عن الله - تعالى - في الشرائع، وقوله قول الله - تعالى - ولذلك قال الله تعالى:} إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله {،} من يطع الرسول فقد أطاع الله {.
وقوله عليه السلام: (لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقت هذه الصلاة هذا الوقت) - يشير إلى ثلث الليل، كما قال في السؤال.
فتقديره: لجعل الله - تعالى - ذلك؛ لأن إخباره عن نفسه إخبار عن الله - تعالى - كما تقدم.
وأما قوله عليه السلام: (عسيت - إن شاء الله - أن أنهي أمتي أن يسموا نافعًا، وأفلح، وبركة).
فلا يتعين لهذه المسألة، بل يظهر أنه من مسألة أخرى، وهي أنه عليه السلام قد فوض إليه الاجتهاد؛ فإن هذا من باب المفاسد التي تقارب النهي؛ فإن السائل يقول: أين بركة؟، فيقول سيده: ما بركة هنا، وهذا اللفظ يشعر بخروج البركة من المنزل؛ فيكره التلفظ بهذا اللفظ، فنهي عما يؤدي إليه.
فمتى كانت الفتاوي تبع المصالح والمفاسد، فهذه مسألة الاجتهاد، وهذه المسألة معناها أنه يختار أي شيء أراد اختياره، فيصادف الصواب في نفس الأمر، من غير اعتبار البناء على مصلحة أو مفسدة.
فهذا هو الفرق بين المسألتين، فينبغي أن يضبط؛ فإن المسألتين تلتبسان على كثير من الناس.
وأما قوله عليه السلام في ماعز: (كنتم تركتموه حتى أنظر في أمره):
فمعناه أنه أهل يرجع عن إقراره، فيكون ذلك شبهة تدرأ الحد عنه؛ لأنه أوحى إليه أن الحدود تدرأ بالشبهات، فليس من هذه المسألة.
وقوله عليه السلام: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها)، وعن لحوم الأضاحي:(ألا فانتفعوا بها):
فالأول: من باب النسخ بالوحي، فليس في اللفظ ما يقتضي أنه من قبله عليه السلام.
وأما الثاني: ففي (مسلم) قال عليه السلام: (إنما كنت نهيتكم لأجل الدفة - يعني الطائفة - التي كانت قدمت المدينة)، فأمر عليه السلام بالتصدق بلحوم الأضاحي؛ ليتوسع القادمون، وانتفاء الحكم لانتفاء علته، لا ينافي ثبوت ذلك ابتداء بالوحي، وانتفاؤه انتهاء بانتفاء العلة، وليس ذلك من قبله عليه السلام.
قوله: (يدل على وقوعه من غير النبي عليه السلام قوله تعالى:} إلا ما حرم إسرائيل على نفسه {):
قلنا: لا دليل فيه؛ فإن من شرعنا أن الإنسان يوجب على نفسه ما ليس بواجب في أصل الشريعة بالنذر، فيصير المنذور واجبًا بالنذر، وهو أوجبه على نفسه.
فلعل شريعته كانت تحرم الامتنان فيها على نفسه، إما بالنذر، أو بسبب غيره، ويصدق عليه أنه حرمه على نفسه، كما يقال في شريعتنا: أوجبه على نفسه، وليس في ذلك أنه من قبيل إسرائيل عليه السلام.
قوله: (وأما الأمثلة التي ذكروها، فنقول: إن كان الحال فيها كما هاهنا احتاج الفرق بين القليل والكثير إلى دليل، وإلا فيمتنع القياس):
تقريره: أن المثل التي ذكروها، إن استوت كلها في الجواز العقلي، كما استوت الأفراد في مسألتنا، فوقوع أحد الجائزين دون الآخر، مع الاستواء في الجواز العقلي يحتاج لمرجح، وإلا لزم الترجيح من غير مرجح، فلابد من دليل يخصص القليل بالوقوع دون الكثير، وإذا ثبت في تلك الصورة طالبنا الخصم بوجود معنى؛ لأنه إن لم يكن موجودًا تعذر الفرق في صورة النزاع بين القليل والكثير؛ لاختصاص الفارق الذي هو الدليل المرجح بتلك الصورة.
فنحن من وراء مطالبته بذلك حتى يتبين، وإن كان الحال - هنالك - ليس مثل الحال في صورة النزاع، منعنا القياس؛ لأن من شرطه التماثل، فأحد الأمرين لازم.
أما تعذر القياس للاختلاف، أو اختصاص الدليل المخصص بتلك الصورة.
قوله: (بينا أن القياس لا يفيد اليقين):
قلنا: وقد تقدم الجواب عنه، وأنه يفيد اليقين.
قوله: (سلمنا أن الاتفاقي لا يدوم، ولكن إذا كان الاتفاقي ببعض الجهات معلوم السبب بسائر الجهات، أو إذا لم يكن؛ الأول ممنوع، والثاني مسلم):