الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الثاني
قال الرازي: (القول في التراجيح العائدة إلى ما يدل على أن ذات العلة موجودة
":
اعلم أن العلم بوجود تلك الذوات: إما أن يكون بديهيا، أو حسيا، أو استدلاليا، والاستدلال: إما أن يفيد العلم، أو الظن، وعلى التقديرين: فذلك الدليل: إما أن يكون عقليًا محضًا، أو نقليا محضًا، أو مركبًا منهما: فلنتكلم في هذه الأقسام: فنقول: أما إذا كان الطريق مفيدًا لليقين، سواء كان بديهيًا، أو حسيًا، أو استدلاليا يقينيا، وسواء كان عقليا محضا، أو نقليا محضًا، أو مركبًا منهما، وسواء كثرت المقدمات، أو قلت، فإنه لا يقبل الترجيح، وكلام أبي الحسين يدل على أنه يقبل - أما أن القطعيات لا تقبل الترجيح: فلما تقدم.
فإن قلت: الضروري أولى من النظري؛ لأن الضروري لا يقبل الشك والشبهة، والنظري يقبل ذلك.
قلت: النظري واجب الحصول عند حصول جميع مقدماته المنتجة له، كما أن البديهي واجب الحصول عند حصول تصور طرفيه، وكما أن النظري يزول عند زوال أحد الأمور التي لابد منها في حصول جميع مقدماته المنتجة له - فكذلك الضروري يزول عند زوال أحد التصورات التي لابد منها؛ فإذن: لا فرق في وجود الجزم عند حضور موجباته في البابين، بل الفرق هو أن النظري يتوقف على أمور أكثر مما يتوقف عليه الضروري؛ فلا جرم كان زوال النظري أكثر من زوال الضروري، فأما وجوب الوجود، وامتناع العدم عند حصول كل
ما لابد منه: فلا فرق بين الضروري والنظري فيه ألبتة؛ أما إذا كان الطريق الدال على وجود العلة ظنيا: فقد قيل: كلما كانت المقدمات المنتجة لذلك الظن أقل، كان القياس أقوى؛ لأن المقدمات، متى كانت أقل، كان احتمال الخطأ أقل، ومتى كان احتمال الخطأ أقل، كان ظن الصواب أقوى.
واعلم أن هذا الكلام على عمومه ليس بحق؛ لأن الظن يقبل التفاوت في القوة والضعف، فإذا فرضنا دليلاً كانت مقدماته قليلة، إلا أن كل واحدة منها كانت مظنونة ظنًا ضعيفًا، ودليلاً آخر ظنيًا معارضًا للأول مقدماته كثيرة إلا أن كل واحدة منها، كانت مظنونة ظنا قويا، فالقوة الحاصلة في أحد الجانبين بسبب قلة الكمية قد تصير معارضة من الجانب الآخر؛ بسبب قوة الكيفية، وقد تكون قوة الكيفية في أحد الجانبين، أزيد من قلة الكمية في الجانب الآخر؛ حتى إن الدليل الظني الذي يكون مركبًا من مائة مقدمةٍ قد يفيد ظنًا أقوى من الظن الحاصل من الدليل المركب من مقدمتين؛ فإذن لابد من اعتبار هذا التفصيل الذي ذكرناه.
إذا عرفت هذا، فنقول: الدليل الظني الذي يدل على وجود العلة: إما أن يكون نصًا، أو إجماعًا، أو قياسًا:
أما القياس: فالكلام فيه كما في الأول، ولا يتسلسل، بل ينتهي إلى النص، أو الإجماع.
أما النص: فطرق الترجيح فيه ما تقدم في القسم الثالث من هذا الكتاب.
وأما الإجماع: فإن كانا قطعيين، لم يقبل الترجيح، وإن كان أحدهما قطعيًا، والآخر ظنيًا، لم يقبل الترجيح؛ لأن الإجماع المعلوم مقدم على المظنون، أما إذا كانا مظنونين، فهذا يقع على وجهين.
أحدهما: الإجماعان المختلف فيهما عند المجتهدين كالإجماع الذي يحدث عن قول البعض، وسكوت الباقين.
وثانيهما: الإجماع المنقول بطريق الآحاد، فهذان القسمان في محل الترجيح.
وأما الذي يقال: إن أحدهما متفق عليه، والآخر مختلف فيه: فإن أريد به عدم الاختلاف في أحدهما، ووقوعه في الآخر، فذلك ليس من باب الترجيح؛ لأن تقدم المعلوم على المظنون قطعي، وإن عنى به قلة الاختلاف في أحدهما، وكثرته في الآخر، فلا نسلم أن هذا القدر يوجب الترجيح.
ولنختم هذا الفصل بشيء، وهو: أنه إذا تعارض قياسان، وكان وجود الأمر الذي جعل علة لحكم الأصل في أحد القياسين معلومًا، وفي الآخر مظنونًا - كان الأول راجحًا؛ لما بينا: أن القياس الذي بعض مقدماته معلوم - راجح على ما كان كل مقدماته مظنونًا.
"القول في الترجيح بدليل العلة"
قال القرافي: قوله: (العلم بوجود العلة قد يكون بديهيا، أو حسيا، أو استدلاليا بعقل محض، أو نقل محض، أو مركب منهما":
تقريره: أن البديهي كالعلم بكون سم الأفاعي علة الضرر للحيوان في العادة والحس، كإزالة العنق؛ فإنه يعلم وجوده بالحس، وهو علة الموت والعقل الصرف، نحو: كون العلم علة العالمية.
وكذلك كل معنى مع حكمه في محلة من الأعراض وغيرها، والنقل كقوله تعالى:} كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم {.
والمركب منهما كما إذا دل السمع على أن القلتين في الماء يدفعان الخبث، ودل العقل بالحرز أن هذا الماء قلتان فأكثر.
وكذلك الحدود علل الزجر بالسمع، ومقاديرها يغلب حصولها بالعقل؛ فإن مراتب الأعداد لا تحس، بل تعقل.
قوله: (الظن يقبل التفاوت في القوة والضعف".
قلنا: هذا مقام مشكل؛ فإن القواعد تقتضي أن العرض لا يقوم بالعرض، وقوة الشيء وضعفه صفة له، ونحن نجد الظن [يتزايد] حتى يقارب العلم، وكذلك الرجاء، والخوف، واللذة، والجوع، والعطش، والشجاعة، والبخل كلها تقبل الزيادة والنقص.
فهل ذلك بسبب أن هذه المعاني تقبل القوة، ويوصف بها دون غيرها؟ كما أن العلوم الحسية أجلى من العقلية لذاتها، أو قوة هذه الأمور ترجع إلى كثرة أفرادها في جوهر النفس، فيزيد الظن عبارة عن قيام فرد آخر بجوهر آخر.
وكذلك بقية المعاني حتى يصل إلى حد يجب الانتقال منه إلى العلم، فيقوم فرد من أفراد العلم بجوهر واحد.
وتقدم تلك الأفراد من الظنون حينئذ، وهذا في خبر التواتر وغيره، وهذا هو الذي أجده قريبًا للعقل والقواعد، ولكنه لا يتم على القول بأن النفس ذات [جوهر]، وهو قول الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، وغيره يخالفه في ذلك، فيعسر عليهم الجواب.
قوله: (الأقل مقدمات أرجح":
قلنا: اشترط المحققون أن الأقل إنما يرجح على الأكثر إذا كان بعض الأكثر حتى يكون ثم مقدمات مشتركة، ويختص أحد الجانبين بمزيد أما القليل الأجنبي، فقد يكون الكثير أرجح منه.
فإن من وجد ألف دينار في جدارٍ يكتفي بمقدمة واحدة، وهي أخذ تلك الألف بيده من الجدار.
وتحصيلها بالزراعة، أو بالمتجر يحتاج إلى مقدمات كثيرة جدا، ومع ذلك فإنا نجد المحصلين لذلك بالمتجر كثيرًا، ولم نر أحدًا حصله بتلك المقدمة الواحدة.
فكون الوجدان في الجدار بعض مقدمات المتجر كان المتجر أعسر، ومرجوحًا قطعًا.
قوله: (إن أريد بالاتفاق والاختلاف وقوع الاختلاف في أحدهما دون الآخر، فليس من باب الترجيح؛ لأن تقديم المعلوم على المظنون قطعي، وإن أريد أن قلة الخلاف أرجح من كثرته، فلا نسلم أن ذلك يوجب الترجيح":
قلنا: إن أردت بتقديم المعلوم تقديمه لكونه أرجح، فتقديم الراجح على المرجوح مطلقًا معلوم بالإجماع، ومن ضروريات الدين، وإن أردت أن المظنون يصير باطلاً، ويتعين المعلوم، والترجيح على الباطل لا يتأتي فصحيح، لكن لا نسلم تعين هذا القسم؛ لأن المعلوم يقبل النسخ.
فلعلة نسخ بغير هذا المطنون، وبقي هذا المطنون سالمًا عن المعارض، لكن الأصل عدم النسخ.
ولما كانت هذه المقدمة ظنية، فصار في المعلوم مقدمة ظنية تقبل الترجيح.
وقولكم: قلة الخلاف لا توجب الترجيح - ممنوع، بل كثرة الخلاف توجب كثرة تطرق الخطأ باعتبار كل قول على حياله.
وقلة الخطأ توجب الرجحان
********************