الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما تفاريع الفقه: فلا حاجة إليها؛ لأن هذه التفاريع ولدها المجتهدون بعد أن فازوا بمنصب الاجتهاد، فكيف تكون شرطًا فيه؟!.
واعلم: أن الإنسان كلما كان أكمل في هذه العلوم التي لابد منها في الاجتهاد - كان منصبه في الاجتهاد أعلى وأتم، وضبط القدر الذي لابد منه على التعيين - كالأمر المتعذر.
مسألة: الحق أنه يجوز أن تحصل صفة الاجتهاد في فن، دون فن؛ بل في مسألة دون مسألة؛ خلافًا لبعضهم.
لنا: أن الأغلب من الحادثة في الفرائض: أن يكون أصلها في الفرائض، دون المناسك، والإجارات، فمن عرف ما ورد من الآيات، والسنن، والإجماع، والقياس في باب الفرائض - وجب أن يتمكن من الاجتهاد.
وغاية ما في الباب أن يقال: لعله شذ منه شيء؛ ولكن النادر لا عبرة به؛ كما أن المجتهد المطلق، وإن بالغ في الطلب، فإنه يجوز أن يكون قد شذ عنه أشياء.
(الركن الثاني: المجتهد)
قوله: (يجوز أن يكون في أحكام الرسول عليه السلام ما صدر عن اجتهاد):
قال القرافي: تقريره: أن المراد ها هنا - بالأحكام: الأحكام الصادرة عنه عليه السلام بطريق الفتوى.
أما ما صدر عنه عليه السلام بتصرف القضاء، وفصل الخصومات - مجمع عليه أنه لا يفتقر إلى الوحي، وإن كان حكمًا شرعيًا.
فلذلك قال عليه السلام: (فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيءٍ من حق أخيه، فلا يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار).
فلو كان بالوحي لما توقف على السماع، ولما استوجب الأخذ النار؛ فإنه مأذون فيه من قبل الله تعالى.
وهذا الأخير فيه نظر؛ فإن إعطاء أهل الحرب فداء الأساري مأمور به إجماعًا من قبل الله تعالى، والكفار آثمون بأخذه، بناء على أنهم مخاطبون بالفروع، وقاطع الطريق إذا عجز عنه إلا بإعطاء التافه اليسير جاز الإعطاء له، وهو حرام عليه.
وكذلك من عجز عن منعه من الزنا بامرأة إلا بدفع مال وجب الدفع، والأخذ عليه حرام.
وبالجملة: التصرف في الأحكام الشرعية بالقضاء، لا يتوقف على الوحي، وليس هو المراد - هاهنا - إجماعًا.
قوله: (احتجوا بقوله تعالى:} فاعتبروا ....... {):
قلنا: قد تقدم ما هو على هذا الموضع في كتاب (القياس).
قوله: (فيكون مأمورًا بالقياس، وإلا قدح في عصمته):
قلنا: هذا كلام غير منتظم، إنما ينتظم إن لم يقسم مع أنه مأمور حتى يكون عاصيًا؛ فيقدح ذلك في العصمة، أما كونه ليس مأمورًا لا يقدح ذلك في العصمة، وكم من شيء نحن مأمورون به، وليس هو عليه السلام مأمورًا به.
فإنا مأمورون بالتقليد للعلماء، وبرواية نصوص الدين، والنظر في التخريج، والتعديل، وتدوين العلوم والقرآن والقراءات وكتب النحو واللغة، وغير ذلك من الأحكام؛ مع أنه عليه السلام لم يؤمر بشيء من ذلك، ولم يقدح ذلك في عصمته، وكيف يقدح عدم التكليف في العصمة؟ إنما يقدح ترك المكلف به بعد التكليف.
قوله: (ترجيح الراجح على المرجوح من مقتضيات العقول):
قلنا: لا نسلم؛ فإن إخبار العدل الواحد في الدماء وغيرها راجح صدقه على كذبه، ولم يحكم بموجب صدقه، ولا بكذبه؛ بل تركنا القسمين، ولم يقض العقل، ولا الشرع فيهما بشيء.
فكذلك الجماعة من الصبيان، والنسوان، والكفار، والفساق، وقرائن الأحوال والتهم الظاهرة في السراق وغيرهم، كل ذلك ملغى عقلاً وشرعًا.
فإن أردتم بالترجيح الحكم بموجب الراجح، بطل بهذه النقوض.
وإن أردتم بالترجيح أنه يرجح عند العقل، فمسلم، لكنه لبس صورة النزاع، إنما النزاع في القسم الأول.
قوله: (أفضل العبادات أحمزها):
قلنا: إن الله - تعالى - لم يطلب المشقة من العباد، إنما طلب منه تحصيل المصالح، فإن لم تحصل إلا بمشقة عظم الأجر؛ لصعوبة الطريق في تحصيل تلك المصلحة؛ ولأنه يكون حظ النفس فيه بعيدًا، فيفوت
الإخلاص، أما لو كان للجامع، أو للحج طريقان: أحدهما أشق، فأراد أن يفعل الأشق سلوكًا لتكثير ثوابه، كان غالطًا؛ بل هذا منهي عنه، لا ثواب فيه.
وربما كان فيه العقاب على قدر مفسدة المشقة.
وكذلك: لو تيسر له ماء ساخن في البرد للطهارة، والغسل، فأراد تركه، واستعمال البارد بالثلج؛ ليكون ذلك أشق عليه نهي عنه؛ لقوله - تعالى -:} ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة {، وقوله عليه السلام:(إن لنفسك عليك حقًا).
وإنما تحسن المشقة إذا تعينت طريقًا للمصلحة، وأما المشقة من حيث هي مشقة فلا فائدة.
(أحمزها) بالحاء المهملة، والزاي المعجمة.
وكثير من الفقهاء يقولونها (بالجيم)، وهو غلط نقله صاحب (الصحاح)، وغيره.
قوله: (لو لم يعمل بالاجتهاد كانت الأمة أفضل منه في هذا الباب):
قلنا: قد تقدم أن الأمة عملت بأوامر لم تتوجه جهته عليه السلام فما هو جوابكم هو جوابنا.
والجواب الصحيح في ذلك كله - أن القاعدة: أن المفضول يجوز أن يختص بما ليس للفاضل، كما قال عليه السلام:(أقرؤكم أبي، وأقضاكم على، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبلٍ، وأفرضكم زيد، والصديق رضي الله عنه أفضل من الجميع).
مع اختصاصهم بالأفضلية في هذه الصفات.
وكذلك آدم عليه السلام أبو البشر، ونوح أنذر قومه نحو ستمائة سنة، وغير ذلك من الصفات التي حصلت للكثير من الأنبياء، دونه عليه السلام وهو أفضل من الجميع.
وكل شريف عامي أفضل من الأئمة الأربعة: مالك، والشافعي، وأبو حنيفة، وأحمد في نسبه، وكل واحد منهم أفضل.
وكل شريفة عامية حصل لها من النسب ما لم يحصل لعائشة، وخديجة، وغيرهما مع القطع بالأفضلية فيهن، وهو كثير، فكذلك هاهنا.
قوله: (في كل الأحكام بالاجتهاد متعذر؛ لأنه لابد من النص في الأصول):
قلنا: قد تقدم في القياس - الخلاف في إثبات جملة الشريعة بالقياس، فيمتنع بناء على ذلك الخلاف.
قوله: (إنه عليه السلام قال: (العلماء ورثة الأنبياء)، فيثبت له عليه السلام الاجتهاد حتى يرثوه):
قلنا: هذا لا يتجه، فإنا إذا قلنا: زيد وارث عمرو - يقتضي أن ما ثبت لعمرو ينتقل لزيد، أما أن كل ما لزيد لابد أن يثبت لعمرو فباطل جزمًا؛ فإن الوارث قد يكون له أموال لم تكن لمورثه قط.
وهذا في البطلان فيه شبه بقول المنطقين: (إن الموجبة الكلية لا تنعكس).
فإذا قلنا: (كل إنسان حيوان) لا تنعكس كل حيوان إنسان) كذلك هاهنا لا تنعكس كل ما للوارث للموروث فيه شبه به وإن لم يكن منه، فظهر أن هذا الموضع غير مفيد المطلوب.
وقوله: (إنه تقييد من غير دليل): غير متجه؛ بل ليس هاهنا تقييد، ولا تخصيص، بل النص غير مقيد بغير ذلك.
قوله: (بعض السنن مضافة للنبي عليه السلام، فلو كان الكل بالوحي لم يختص ذلك به عليه السلام:
قلنا: الوحي قسمان:
وحي تعبدنا بتلاوته، وهو معجزة، وهو القرآن.
ووحي لم يتعبد بتلاوته، ولا هو معجزة.
فالحكم الثابت بهذا الوحي هو المضاف له عليه السلام؛ لأن الوحي ربما لم يبده لنا فأضفنا الحكم له.
فإن أردتم غير هذا، فهو ممنوع.
قوله: (إنه عليه السلام (اجتهد في فداء أساري بدر):
تقريره: أنه نزل عقيب هذا قول تعالى:} ما كان لبني أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض {.
وفي مسلم قال عليه السلام لعمر رضي الله عنه: (عرض على عذاب قومك أدني من هذه الشجرة) أي: في أمر الفداء ...... الحديث بطوله، ولو كان بالوحي كان مأذونًا فيه، ولم يكن إنكار، ولا عذاب،
والعذاب هاهنا لم يكن إلا أنه كان مع النبي عليه السلام فيما قاله بالاجتهاد.
قال العلماء: اختصوا بالعذاب، وإن ساووا في الاجتهاد؛ لأنهم قصروا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقصر.
وإذا اجتهد الحاكم، ولم يصب كان له أجر من غير عقوبة.
وكان عمر رضي الله عنه مجتهدًا مصيبًا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مجتهدًا مطيعًا، وأولئك الجماعة مجتهدون مقصرون.
قوله: (بعض الصحابة - رضوان الله عليهم - راجعه في منزل نزله، والأحكام الشرعية لا تجوز مراجعته فيها):
قلنا: إذا كانت عن اجتهاد، فلمن ظهر في نظره معارض راجح أو سؤال صحيح على ذلك المدرك الذي تمسك به المجتهد أن يسير إليه؛ لينتقل ذهنه إليه، ويكون ذلك من باب التعاون على المعروف والطاعة.
ونحن: مأمورون بالنصح معه عليه السلام ومع الخلق كلهم برهم وفاجرهم، في جميع الأحوال؛ لاسيما في الأمور المهمة من الدين، فلا تنافي بين المراجعة والأحكام الشرعية.
قوله: (الاجتهاد لا يفيد إلا الظن، وهو عليه السلام قادر على تلقيه من جهة الوحي، والقادر على العلم لا يجوز له الاكتفاء بالظن):
قلنا: لا نسلم هذا لا طردًا، ولا عكسًا؛ لأن الاجتهاد، قد تكون له مقدمات يقينية، فيحصل العلم - كما تقدم في القياس - أنه قد يعلم تعليل الأصل بكذا، ويعلم وجود العلة في الفرع، فيحصل اليقين.
وأما الوحي: فقد يكون بالظاهر، وقد يكون بالنص.
والظاهر: لا يفيد اليقين، وسماعه عليه السلام من جبريل كسماع الصحابة من النبي عليه السلام والصحابي إذا سمع الظاهر، لم يقطع بأنه المراد منه ظاهره إلا بقرائن خارجه عن دلالة اللفظ، وقد لا تحصل تلك القرائن؛ بل الأصل عدمها في الموطنين، فلا يحصل إلا الظن في الجهتين.
وبه: ظهر الفرق بين معاين القبلة، وبين هذه المسألة.
قوله: (لو جاز له عليه السلام الاجتهاد، لجار لجبريل عليه السلام.
قلنا: الفرق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكلف بسياسة الأمة، وتحصيل مصالح الدنيا والآخرة للخلق إجمالاً وتفصيلاً.
وقد يعجزه ذلك في البعض بالنص، فيحصله بالاجتهاد، وجبريل عليه السلام لم يكلف بشيء من أمور الخلق بل بالتبليغ فقط، وهو نقل صرف، لا مدخل للاجتهاد فيه.
قوله: (إذا أفتى عليه السلام بالحكم صار مقطوعًا به؛ كما في الإجماع):
تقريره: أن الحكم يكون مدرك النبي عليه السلام ومدرك الإجماع فيه ظنيًا، فإذا أفتى به حصل القطع من جهة الدليل الدال على العصمة، وإن ذلك حق قطعًا، فيحصل في ذلك الحكم القطع من جهة الدليل الدال على العصمة، لا من جهة الدليل الظني، ولا مانع أن يحصل ما دل عليه الظن دليل يفيد القطع، كما يقول الفقهاء: هذه المسألة يدل عليها الكتاب والسنة والإجماع، والقياس، فيجمعون بين أخبار الآحاد، والقياس، والإجماع، والأولان ظنيان، والإجماع قطعي.
قوله: (لو جاز عليه عليه السلام الخطأ، لكنا مأمورين باتباعه فيه):
قلنا: قوله عليه السلام: (فمن قضيت له بشيءٍ من حق أخيه، فلا يأخذه، وإنما أقطع له قطعة من النار) يقتضي أنه قد يقضي لزيد بما لا يستحق مع أن مخالفته في جميع أقضيته عليه السلام مستوف أوامر، ونحن مأمورون بالتسلم له عليه السلام في جميع أحكامه.
قوله: (احتجوا بقوله تعالى:} عفا الله عنك لم أذنت لهم {):
قلنا: قال القاضي عياض في (الشفاء): (إن معنى هذه الآية: أن الله - تعالى - كان خيره بين الإذن لهم وعدمه، فاختار الإذن لهم، فأعلمه الله - تعالى - أن المصلحة كانت تقتضي عدم الإذن، حتى يتبين له