الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة العاشرة
الاستدلال بعدم ما يدل على الحكم؛ على عدم الحكم - طريقة عول عليها بعض الفقهاء
.
وتحريره: أن الحكم الشرعي لابد له من دليل، والدليل إما نص، أو، إجماع أو قياس، ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة؛ فوجب ألا يثبت الحكم.
إنما قلنا: (إن الحكم الشرعي لابد له من دليل) لأن الله - تعالى - لو أمرنا بشيءٍ، ولم يضع عليه دليلا، لكان ذلك تكليف ما لا يطاق؛ وإنه غير جائزٍ.
وإنما قلنا: (إن الدليل: إما نص، أو إجماع، أو قياس) لثلاثة أوجه:
أحدها: قصة معاذ؛ فإنها تدل على انحصار الأدلة في الكتاب، والسنة، والقياس، زدنا فيه الإجماع بدليلٍ منفصلٍ؛ فيبقي الباقي على الأصل.
وثانيها: أن الأدلة الدالة على الأحكام كانت معدومة في الأزل، وقد بينا أن الأصل في كل أصلٍ تحقق بقاؤه على ما كان، فهذا الدليل يقتضي ألا يوجد شيء من أدلة الأحكام، ترك العمل به في النص، والإجماع، والقياس؛ فوجب أن يبقي فيما عدا هذه الثلاثة على الأصل.
وثالثها: أنه لو حصل نوع آخر من الأدلة، لكان ذلك من الأمور العظام؛ لأن ما يجب الرجوع إليه في الشرع، نفيًا، وإثباتًا في الوقائع الحاضرة، والمستقبلة - لا شك أنه من الأمور العظام، فلو كان ذلك موجودًا، لوجب اشتهاره، ولو كان كذلك، لعرفناه بعد البحث والطلب؛ فلما لم نجد شيئًا آخر، سوى هذه الثلاثة - علمنا الانحصار، وإنما قلنا:(إنه لم يوجد واحًد من هذه الثلاثة) لما سنبينه.
أما النص؛ فلوجهين:
أحدهما: أنا اجتهدنا في الطلب، فما وجدنا، وهذا القدر عذر في حق المجتهد بالإجماع؛ فوجب أن يكون عذرًا في حق المناظر؛ لأنه لا معنى للمناظرة إلا بيان ما لأجله قال بالحكم.
وثانيهما: أنه لو وجد في المسألة نص، لعرفه المجتهدون ظاهرًا، ولو عرفوه، لما حكموا على خلافه ظاهرًا؛ فحيث حكموا على خلافه، علمنا عدمه.
أما الإجماع: فهو منفي؛ لأن المسألة خلافية، ولا إجماع مع الخلاف.
وأما القياس: فمنفي لوجهين:
أحدهما: أن القياس لابد فيه من أصلٍ، والأصل هو الصورة الفلانية، والفارق الفلاني موجود، ومع الفارق لا يمكن القياس؛ أقصى ما في الباب أن يقال: لم لا يجوز القياس على صورةٍ أخرى؟ ز
فنقول: لأنا بعد الطلب لم نجد شيئًا يمكن القياس عليه، إلا هذه الصورة، وهذا القدر عذر في حق المجتهد؛ فوجب أن يكون عذرًا في حق المناظر؛ على ما بيناه.
وثانيهما: أن سائر الأصول كانت معدومة؛ فوجب بقاؤها، على العدم؛ تمسكًا بالاستصحاب؛ فهذا تمام تقرير هذه الدلالة.
واعلم أن كل مقدمةٍ لا يمكن تمشية الدليل إلا بها، فلو كانت تلك المقدمة مستقلة بالإنتاج، كان التمسك بها في أول الأمر أولى.
ورأينا أن هذه الدلالة لا يمكن تمشيتها إلا بإحدى مقدمتين:
إحداهما: أن عدم الوجدان بعد الطلب يدل على عدم الوجود.
وثانيهما: أن الأمر الفلاني كان معدومًا؛ فيحصل الان ظن بقائه على العدم.
وهاتان المقدمتان، لو صحتا، لكانتا مستقلتين بإنتاج المطلوب؛ فإنه يقال في أول المسألة:(الحكم الشرعي لابد له من دليلٍ، ولم يوجد الدليل؛ لأني اجتهدت في الطلب، وما وجدته؛ وذلك يدل على عدم الوجود) أو يقال: (ولم يوجد الدليل؛ لأن هذه الدلائل كانت معدومة في الأزل، والأصل في كل معدومٍ بقاؤه على عدمه).
وإذا ثبت هذا، فقد حصل ظن عدم الدليل؛ فيتولد منه القطع بأنه لو وجد الحكم، لوجد الدليل، مع ظن أنه لم يوجد ظن عدم الحكم؛ والعمل بالظن واجب.
فتقرير هذه الدلالة على هذا الوجه أقل مقدماتٍ، وأشد تلخيصا؛ فكان إيرادها على هذا الوجه أولى.
فإن قيل: قوله: (الدليل: إما نص، أو إجماع، أو قياس:
قلنا: هذا لا يتم على قولك؛ لأنك ذكرت هذه العبارة دليلاً في هذه المسألة الشرعية؛ وإنها ليست بنص، ولا إجماعٍ، ولا قياسٍ؛ وعند هذا: يلزم أحد محذورين؛ وهو: أنه إما ألا يكون هذا الكلام دليلاً في المسألة؛ حتى يتم الحصر، أو يبطل الحصر؛ حتى يتم هذا دليلاً في المسألة:
فإن قلت: الكلام عليه من وجهين:
أحدهما: أني أقول: (دليل الحكم الشرعي: إما نص، أو إجماع، أو قياس، ومدلول دليلي انتفاء الصحة؛ فإن هذا الانتفاء كان حاصلاً قبل الشرع،
فالإخبار عنه يكون إخبارًا عن أمرٍ لا تتوقف معرفته على الشرع؛ فلا يكون شرعيًا.
وثانيهما: أني لا أنفي الصحة إلا بالإجماع؛ لأن الإجماع منعقد على أنه متى لم يوجد شيء من هذه الأشياء، وجب نفي الحكم؛ فيكون الدليل في الحقيقة هو الإجماع):
قلت: أما الجواب عن الأول: فهو أنه لما ثبت انتفاء الصحة، لزم ثبوت البطلان، ضرورة تعذر القول بالوقف؛ فيكون كلامك دليلا على البطلان بواسطة دلالته على انتفاء الصحة؛ فيكون دليلاً على حكمٍ شرعي؛ فيعود المحذور المذكور.
وعن الثاني: أن الإجماع لم يدل على عدم الصحة ابتداء؛ بل دل على أنه مهما عدم النص، والإجماع، والقياس، لزم عدم الحكم؛ فيكون الإجماع دليلا على أن عدم هذه الثلاثة دليل على عدم الحكم، وعدم هذه الثلاثة مغاير لهذه الثلاثة؛ فيعود الكلام المتقدم.
السؤال الثاني: أنك جعلت عدم الثبوت دليل العدم؛ فهل تجعل عدم دليل العدم دليل الثبوت، أم لا؟!.
فإن لم يقل به، فقد ناقض؛ لأن نسبة دليل الثبوت إلى الثبوت؛ كنسبة دليل العدم إلى العدم!! فإن لزم من عدم دليل الثبوت عدم الثبوت - لزم من عدم دليل العدم عدم العدم.
وإن لم يلزم هاهنا، لم يلزم هناك أيضًا؛ إذ لا فرق بينهما في العقل، وإن اعترف بذلك، لزم المحذور من وجهين:
أحدهما: أن عدم دليل العدم دليل على عدم العدم، وعدم العدم وجود؛ فعدم دليل العدم دليل على الوجود؛ فقد حصل سوى النص، والإجماع، والقياس - دليل آخر على الوجود؛ فيبطل حصرهم.
والثاني وهو: أنه إذا كان عدم دليل العدم دليلاً على الوجود؛ لم يلزم انتفاء الوجود إلا ببيان عدم دليل العدم، وعدم العدم وجود: فإذن: لا يلزم انتفاء الوجود إلا بوجود دليل العدم؛ لكنك لو ذكرت دليل العدم، لاستغنيت عما ذكرت من الدلالة.
السؤال الثالث: أنك لو اقتصرت في نفي النص على عدم الوجدان، فهذا الطريق إن صح، وجب الاكتفاء به في نفي القياس؛ لأنه حاصل فيه، وإن لم يصح، لم يجز التعويل عليه في هذا المقام.
فإن قلت: (إنما تعرضت لنفي قياسٍ معينٍ؛ لأن المخالف يعتقده قياسًا ودليلاً، وليس في النصوص ما يعتقده دليلاً):
قلت: المخالف كما يعتقد في قياسٍ كونه حجة له، فكذلك قد يعتقد في بعض النصوص كونه حجةً له؛ فكان يلزم التعرض للأمرين.
السؤال الرابع: لم قلت: إنه لما وجد الفرق بين الصورتين، تعذر القياس، وذلك لأن الفرق إنما يكون قادحا، لو لم يجز تعليل الحكم الواحد بعلتين، فأما إذا كان جائزًا، احتمل كون الحكم في الأصل معللاً بالوصف الذي تعدي إلى الفرع، وبالوصف الذي لم يتعد غليه معًا؛ فلا يكون ذلك قادحًا في القياس.
السؤال الخامس: أن هذا النظم لا ينفك عن القلب؛ فإن المستدل إذا قال مثلاً في بيع الغائب: (لا نص، ولا إجماع، ولا قياس في صحته؛ فوجب ألا تثبت صحته):
فيقال: وتحريم أخذ المبيع من البائع بعد جريان هذا البيع على المشتري، أو تحريم أخذ الثمن من المشتري على البائع - حكم شرعي؛ فلا يثبت إلا بنص، أو إجماعٍ، أو قياسٍ، ولم يوجد ذلك؛ فوجب ألا يثبت):
والجواب: هذه الدلالة لا تتم إلا مع التمسك بأن الأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان، وأنه إنما يجوز العدول عن هذا الأصل، إذا وجد دليل يوجب العدول عنه، وذلك الدليل لا يكون إلا نصا، أو إجماعًا، أو قياسًا.
وعلى هذا: يسقط السؤال؛ وذلك لأنا نقول مثلاً في مسألة بيع الغائب: 0لا شك أن قبل جريان هذا البيع، كان المبيع ملكًا للبائع، والأصل في كل ثابت بقاؤه على ما كان، إلا أنا نترك التمسك بهذا الأصل عند وجود نص، أو إجماع، أو قياس يدل على خلافه، ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة؛ فلم يوجد ما يوجب العدول عن التمسك بذلك الأصل، وإذا كان كذلك، وجب الحكم ببقائه على ما كان.
وحاصل الكلام: أني إنما ادعيت الحصر فيما يدل على تغيير الحكم عن مقتضى الأصل، والحكم الذي أنتجته من هذا الدليل ليس من باب تغير الحكم، بل هو من باب إبقاء ما كان على ما كان؛ فلم يكن إدعاء الحصر في تلك الصورة قادحًا في صحة هذه الدلالة.
وإذا عرفت هذا، فالعبارة الصحيحة عن هذا الدليل: أن يقال: حكم الشرع إبقاء ما كان على ما كان، إلا إذا وجدت دلالة شرعية مغيرة، والدلالة المغيرة: إما نص، أو إجماع، أو قياس، ولم يوجد واحد من هذه الثلاثة، فلم توجد الدلالة المغيرة؛ فوجب بقاؤه على ما كان.
فإن قلت: (التمسك باستصحاب الأصل كافٍ فأي حاجةٍ إلى هذا التطويل؟):
قلت: المناظر تلو المجتهد، ومعلوم أن المجتهد لا يجوز له التمسك باستصحاب حكم الأصل، إلا إذا بحث واجتهد في طلب هذه الأدلة المغيرة.
فإذا لم يجد في الواقعة شيئًا منها، حل له فيما بينه وبين الله تعالى: أن يحكم بمقتضى الاستصحاب، فأما قبل البحث عن وجود هذه الدلائل المغيرة، فلا يجوز له التمسك بالاستصحاب أصلاً، فلما ثبت أن الأمر في المجتهد كذلك، وجب أن يكون في حق المناظر كذلك؛ لأنه لا معنى للمناظرة المشروعة إلا بيان وجه الاجتهاد.
وأما الجواب عن السؤال الثاني فهو: أن الاستدلال بعدم المثبت أولى من الاستدلال بعدم النافي على الوجود؛ وبيانه من وجوهٍ:
أحدها: أنا لو استدللنا بعدم المثبت على العدم، لزمنا عدم مالا نهاية له؛ وذلك غير ممتنعٍ، أما لو استدللنا بعدم النافي على الوجود، لزمنا إثبات ما لا نهاية له؛ وهو محال.
وثانيها: أنا نستدل بعدم ظهور المعجز على يد الإنسان، على أنه ليس بنبي، ولا نستدل بعدم ما يدل على أنه ليس برسولٍ، على كونه رسولاً.
وثالثها: أنه لا يقال: (إن فلانًا ما نهاني عن التصرف في ماله؛ فأكون مأذونًا في التصرف) ويقال: (إنه لم يأذن لي في التصرف في ماله؛ فأكون ممنوعًا).
ورابعها: أن دليل كل شيءٍ على حسب ما يليق به؛ فدليل العدم العدم، ودليل الوجود الوجود.
سلمنا أنه ليس أحد الطريقين أولى من الآخر؛ لكن ذلك يقتضي أن يتعارضا، ويتساقطا؛ وحينئذٍ: يبقي مقتضى الأصل، وهو بقاء ما كان على ما كان.
وأما السؤال الثالث: فليس سؤالاً علميا، بل هو شيء يتعلق بالوضع، والاصطلاح؛ فلا يليق الخوض في أمثاله في الكتب العلمية.
وأما السؤال الرابع: فجوابه: أنا بينا في هذا الكتاب: أنه لا يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين مستنبطتين، وأن سؤال الفرق سؤال قادح.
وأما السؤال الخامس: فساقط؛ لأنا لم نقل: إنه يلزم من عدم النص، والإجماع، والقياس - بقاء ما كان على ما كان، إلا بعد أن بينا أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان، فمعارضة الخصم إنما تلزم لو ثبت أن الأصل في الشيء ألا يبقي على ما كان؛ ولما كان ذلك باطلاً، كانت معارضته باطلة.
المسألة العاشرة
الاستدلال بعدم الدليل على عدم الحكم
قال القرافي: قوله: (قصة معاذ تدل على انحصار الأدلة في الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس):
قلنا: قوله: (اجتهد برأيي) أعم من القياس، فلا يثبت الحصر؛ لأن الاستدلال بالمصلحة المرسلة، وبعدم اللازم على عدم الملزوم، وبوجود الملزوم على وجود اللازم - ليس بقياس، وهو من الاجتهاد.
وهذا هو السؤال على الوجه الثالث: أنه لو كان دليل آخر لاشتهر، فنقول: قد اشتهر، وهو هذا ونحوه.
قوله: (لو دل دليل انتفاء الصحة):
تقريره: أن مدلول هذا الدليل عدم صحة ما يصلح أن يكون دليلاً شرعيًا، وعدم الصحة من العدميات الأزلية.
فيستصحب قوله: (كلامك دليل على البطلان بواسطة دلالته على انتفاء الصحة، فيكون دليلاً على حكم شرعي، فيعود المحذور):
تقريره: أن النافي للصحة يستلزم البطلان والمنع، فيكون المعنى: أن الشرع يمنع من الاستدلال بغير هذه الثلاثة، والمنع حكم شرعي، استنفدته من هذه الدلالة المغايرة للنص، والإجماع، والقياس، فبطل الحصر به.
***********************