الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الثالث: اختلفوا في وقوع التعبد به سمعًا.
فقيل: وقع، وتوقف الجبائي في ذلك مطلقًا، وتوقف القاضي عبد الجبار في حق من حضر دون من غاب.
والمختار: جواز ذلك مطلقًا، ووقوعه في حضوره عليه السلام وغيبته.
وهذا النقل بعينه - نقل المسطرة - هو في (المستصفى) حرفًا حرفًا.
(مسألة)
في شرائط المجتهد
قوله: (والحكم بحكمة الله - تعالى - مبني على العلم بأنه - تعالى - عالم بقبح القبيح، وعالم بغناه عنه):
قلنا: المبني على هذين المقامين ظهور أثر الحكمة، والعمل بها، أما الحكمة فهي هيئة وحالة الحكم، وهي عبارة عن كونه بحيث إذا اطلع على قبيح تركه، أو حسنٍ حسن منه فعله.
وقد يتفق له الاطلاع على ذلك، وقد لا يتفق له الاطلاع عليه، فالحكم بالحكمة على القول بها مبني على هذه الحيثية، على ذنيك المقامين.
قوله: (خلق فينا علمًا ضروريًا، بأنه لا يريد هذه الألفاظ إلا ظواهرها):
تقريره: أن هذا العلم له سبب عادي، وهو تكرر ذلك منه - تعالى - وقرائن أحوال السياق، وغيرها من القرائن الواردة، مع اختلاف الأمم، والشرائع وتعاقب الأعصار، فصار ذلك سببًا للعلم الضروري؛ إن حسن استقراؤه لذلك.
قوله: (القرينة السمعية هي التي تقضي تخصيص العموم في الأعيان، وهو المسمي بالتخصيص، او في الأزمان، وهو النسخ):
قلنا: هذا الكلام يقتضي أن القرينة العقلية ليست كذلك؛ لقولكم فيها: إنها الدالة على ما يجوز أن يراد باللفظ، ولم تذكروا هذا التفصيل فيها، ثم ذكرتم التفصيل في القرينة السمعية، وضدها.
والعقلية: هي - أيضًا - تقتضي التخصيص، كما في قوله تعالى:} الله خالق كل شيء {.
وقد تقدم للمصنف في النسخ - أن الفعل يكون ناسخًا - أيضًا في حق من قطعت رجلاه؛ فإن حكم الوضوء يسقط عنه، فاستوى العامان، فلا معنى لتخصيص السمعية بالتخصيص والنسخ.
قوله: (الذي يقتضي تعميم الخاص هو القياس):
تقريره: أن القياس إذا اعتبر في خصوص قوله عليه السلام: (لا تبيعوا البر بالبر)، اقتضى تعميمه في كل مطعوم، فقد صار الخاص الذي هو
حكم الحديث عامًا في موارد العلة، فالعموم حصل في حكم النص، لا في النص، ثم كلامه يقتضي أنه قسيم للقرينة العقلية، والسمعية؛ لجعله إياه ثالثًا بعدهما، مع أنه لا يخرج شيء عن العقل والنقل، والحق أنه سمعي عقلي.
سمعي: باعتبار الدليل الدال على أن القياس حجة، والنص الوارد في أصل القياس؛ لتوقف القياس عليه أيضا.
وعقلي: لتوقفه على تصرف العقل في استنباط العلة، وتحقق شروط القياس.
قوله: (الذي تتعلق به الأحكام الشرعية خمسمائة آية):
قلت: قال الشيخ أبو إسحاق في (اللمع): (آيات الأحكام)، ولم يحصره، غير أنه قال: لا يلزمه آيات المواعظ، ونحوها، وكذلك ابن برهان، وغيره لم يحصرها، وحصرها صاحب "الروضة"، وصاحب "التمهيد".
قال ابن برهان في (الأوسط): يشترط فيه معرفة الكتاب العزيز، ناسخه ومنسوخه، وأسباب نزوله، ومجمله، ومفصله، وعامه، ومجملة في آيات التكاليف، دون المواعظ، وغيرها وعالمًا بالسنة: متنًا وإسنادًا، والصحيح، والسقيم، والعدل، والمجروح.
ولم يذكر ما ذكره في (المحصول): من الاقتصار على تجريح غيره، وتعديله، كمسلم، والبخاري.
وقد قال جماعة من العلماء: إن البناء على الفعل، أو الفاعل، أو وسيلة الفعل وسببه، أو ذكر الجزاء على الفعل، أو العقاب على تركه، يدل على طلب ذلك الفعل، وكذلك ذم الفعل، أو الفاعل، أو وسيلة الفعل، أو ذكر الثواب على تركه، والعقاب في فعله؛ يقتضى النهي عن ذلك الفعل، وكذلك ذكر التهديد، ونحوه دليل التحريم، والامتنان دليل الإباحة.
وهذه الأمور كلها غير الأوامر، والنواهي، وصيغ التخيير، فإذا اعتبرت هذه الجهات مع دلالة الالتزام، وأنواعها من المفهومات، وغيرها، والتضمنات، والاقتضاءات حصل من ذلك أحكام كثيرة.
وقد قال بعض العلماء: كل قصة مذكورة في كتاب الله - تعالى - فالمراد بذكرها الانزجار عما في تلك القصة من المفاسد التي لابسها أولئك الرهط، والأمر بتلك المصالح التي لابسها المحكي عنه.
وكل قسم في كتاب الله - تعالى - متضمن الأمر بتعظيم المقسم به، وكل نداء بصفة الخير يدل على الأمر بتلك الصفة، أو بصفة الشر يقتضي النهي عن تلك الصفة، نحو:} يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم {،} يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون {، فإذا استوفيت هذه الأقسام بوجوه الاعتبار لم يبق في كتاب الله - تعالى - آية إلا وفيها حكم شرعي.
فلا معنى لتخصيص موارد الأحكام بخمسمائة آية.
وهذا البحث بعينه يطرد في الأحاديث، فيندرج فيها ما ينبغي اندراجه من أخبار المواعظ، وأحكام الآخرة.
قوله: (يعرف مواقع الإجماع، والخلاف):
قلت: من هذا الموضع يحصل الجواب عن سؤال كبير، وهو أن الاجتهاد من فروض الكفايات، وقد فقد الاتصاف به - في هذا العصر - فتكون الأمة - الآن - قد اجتمعت على ترك السعي في تحصيل صفة واجبة التحصيل، فتكون مجمعة على المعصية، والإجماع على المعصية مخل بعصمة الأمة.
وجوابه: أن الوجوب مشروط بالإمكان، فإذا تعذر الشرط سقط الوجوب، وإذا كان العلم بالإجماع والخلاف شرطًا في جواز الاجتهاد، وقد انتشرت المذاهب - في هذا الوقت - بكثرة التفاريع، والتصانيف انتشارًا شديدًا، بحيث يتعذر ضبط المذهب الواحد بتصانيفه وفروعه، فضلاً عن جميع المذاهب.
وإذا تعذر الاجتهاد سقط وجوبه، فلا يعصى الناس بترك الاجتهاد.
قوله: يشترط معرفة شرائط الحد، والبرهان على الإطلاق):
قلنا: لا يكمل معرفة ذلك إلا بإيعاب علم المنطق؛ فإنه ليس فيه إلا ذلك، فيكون المنطق شرطًا في منصب الاجتهاد، فلا يمكن - حينئذ - أن يقال: الاشتغال به منهي عنه.
وأن العلماء المتقدمين كالشافعي، ومالك لم يكونوا عالمين به؛ فإن ذلك يقدح ذلك في حصول منصب الاجتهاد لهم.
نعم هذه العبارات الخاصة، والاصطلاحات المعنية في زماننا لا يشترط معرفتها، بل معرفة معانيها فقط.
قوله: (العلمان المتمان، أحدهما: متعلق بالكتاب، وهو علم الناسخ والمنسوخ):
قلنا: هذا ليس خاصًا بالكتاب؛ بل الناسخ والمنسوخ في السنة أيضًا.
قوله: (أهم العلوم للمجتهد: أصول الفقه، وسائر العلوم غير مهمة):
قلنا: عليه مناقشة لفظية، من جهة أن قولكم: إن أصول الفقه أهم - يقتضي أن غيره مهم؛ إلا أنه زاد في الاهتمام؛ لأن (أفعل) التفضيل تقتضي المشاركة.
فقولكم بعد ذلك: (إن غيره غير مهم) يناقضه.
قوله: (التفاريع الفقهية لا يحتاج إليها):
قلنا: قال سيف الدين وغيره: الفروع الفقهية يحتاج فيها أمران في أصول الفقه:
تصورها: لأن أصول الفقه أدلة مضافة للفقه، ومعرفة المضاف فرع معرفة المضاف إليه.
وثانيهما: التمثيل بالفروع، والاستشهاد، والاحتجاج، والنقض على الخصوم، وعلى الأدلة.
كما نقول: لو كان الأمر للوجوب لانتقض بالكتابة، وغيرها من المأمورات، ولو كان القياس حجة للزم العمل حيث أجمعنا على ترك المناسب، كتركنا لتحريم زراعة العنب؛ لسد ذريعة الخمر، وتحريم التجاور في المنازل خشية الزنا، ونحو ذلك.
فإذا كان منصب الاجتهاد متوقفًا على أصول الفقه، وأصول الفقه متوقف على الفروع من وجهين، لزم توقف منصب الاجتهاد - من هذين الوجهين - على الفروع.
وأما قوله قبل هذا: (إن معرفة اللغة، والنحو، والتصريف شرط).
فتقريره:
أما اللغة: فلتعلم مسميات الألفاظ، وترتب عليها مقتضاها؛ لأن القرآن الكريم عربي.
وأما النحو: فإن تغيير الإعراب تغير المعنى، ألا ترى إلى قوله عليه السلام:(إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة).
وقعت المناظرة فيه بين سني، وإمامي:
فاستدل السني به على أن فاطمة رضي الله عنها لا ترث؛ لإخباره عليه السلام في هذا الحديث: أن ما تركه يكون لمصالح المسلمين.
فقال له الإمامي: هذا منك بناء على أن لفظ (الصدقة) مرفوع؛ وإنما هو منصوب، ومعنى الكلام: إنا لا نورث، فما تركناه صدقةً، أي: لا نورث أوقافنا؛ بل تتأبد وقفيتها.
حتى استدل الحنفية: على أن وقف غير الأنبياء عليهم السلام يورث بطريق المفهوم، فلا يكون في الحديث على هذا حجة لعدم توريثها مطلقًا.
فقال السني وكان لا يعرف النحو: لا أدري ما صدقة، ولا صدقة، ولكن هذا الحديث قيل لمن هو أعلم منك باللغة، وكلام العرب، وهو فاطمة رضي الله عنها لما ذكره لها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فاعترفت به، ولم تقل ما قلت.
ولو كان ما قلته صحيحًا لقالته رضي الله عنها، فانقطع الإمامي، فلو لم يوفق الله - تعالى - السني لهذا الجواب لانقطع بسبب تغير المعنى بتغير الإعراب.
ونظيره: قوله صلى الله عليه وسلم: (اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر) بالخفض على البدلية، فيكونان هما المقتدى بهما.
والإمامية: يرون بزعمهم بالنصب على النداء: يا أبا بكر وعمر، فيكونان على هذا التقدير مأمورين بالاقتداء بغيرهما؛ لا أن غيرهما مأمور باتباعهما، فيختلف المعنى؛ لأجل اختلاف الإعراب، ونظائره كثيرة.
وأما التصريف: فلأنه إنما يفتى بجلد الزاني، والزانية، إذا علم أن اسم الفاعل من زنا يزنى: زانٍ وزانية.
أما لو جوزنا: أن يكون هذا اللفظ لغير ذلك، لاختلف الحكم، وكذلك إنما يفتي بقتل المشركين، إذا علم أن اسم الفاعل من أشرط: مشرك، ونظائره كثيرة، وهذا من باب التصريف.
وأما الحد والبرهان: فلأن الحدود هي التي تضبط بها الحقائق التصورية، فمن علم ضابط شيء، فهو مستضئ بذلك الضابط، فأي محل وجد الضابط عليه، قضى بأنه تلك الحقيقة، وما لا فلا، وهو معنى قول بعض العقلاء: