الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة الحادية عشرة
في تقرير وجوهٍ من الأدلة التي يمكن
التمسك بها في المسائل الفقهية
اعلم أن الحكم الملتزم إثباته: إما أن يكون عدميا، أو وجوديا: فإن كان عدميا أمكن أن يذكر فيه عبارات:
إحداها: أن يقال: هذا الحكم كان معدومًا، وذلك يقتضي ظن بقائه على العدم؛ والعمل بالظن واجب.
إنما قلنا: (إنه كان معدومًا) لأن المحكوم عليه كان معدومًا في الأزل؛ فوجب ألا يكون الحكم ثابتًا في الأزل؛ لأن ثبوت الحكم من غير ثبوت المحكوم عليه عبث وسفه؛ وهو غير جائزٍ على الله تعالى.
فإن قلت: (فهذا يقتضي أن يكون كلام الله تعالى حادثًا):
قلت: لا نسلم؛ لأن المراد من الحكم كون الشخص مقولاً له: (إن لم تفعل هذا الفعل، في هذه الساعة، عاقبتك) ومن المعلوم بالضرورة أن هذا المعنى لم يكن متحققًا في الأزل، وأما بيان أنه لما كان معدومًا، حصل ظن تحقق ذلك العدم في كل زمانٍ - فلما بيناه في مسألة الاستصحاب.
وثانيتها: أنه لو ثبت الحكم، لثبت بدلالةٍ أو أمارةٍ.
والأول: باطل؛ لأن الأمة مجمعة على أنه ليس في المسائل الشرعية دلالة قاطعة.
والثاني أيضًا: باطل؛ لن اتباع الأمارة ابتاع الظن؛ وهو غير جائزٍ؛ لقوله تعالى:} إن الظن لا يغني من الحق شيئًا {وقول على الله بما لا نعلم؛ وهو غير جائزٍ؛ لقوله تعالى:} وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون {.
وثالثتها: لو ثبت الحكم، لثبت: إما لمصلحةٍ، أو لا لمصلحةٍ:
والثاني: عبث؛ والعبث غير جائزٍ على الحكيم.
والأول لا يخلو: إما أن تكون المصلحة عائدةً إلى الله - تعالى - أو إلى العبد:
والأول: محال؛ لامتناع النفع والضرر عليه تعالى.
والثاني أيضًا: محال؛ لأن المصلحة لا معنى لها إلا اللذة، أو ما يكون وسيلة إليها، والمفسدة لا معنى لها إلا الألم، أو ما يكون وسيلة إليه، ولا لذة إلا والله تعالى قادر على تحصيلها ابتداًء؛ فيكون توسط شرع الحكم عبثًا؛ وكذا القول في المفسدة.
فهذا الدليل ينفي شرع الحكم، ترك العمل به فيما توافقنا على وقوعه؛ فبقي في المختلف فيه على وفق الأصل.
ورابعتها: أن هذه الصورة تفارق الصورة الفلانية التي ثبت الحكم فيها في وصف مناسب؛ فوجب أن تفارقها في هذا الحكم:
بيان المفارقة في الوصف المناسب هو أنه وجد في الأصل ذلك الوصف الفلاني، وأنه مناسب ذلك، ويبين ذلك الحكم بطريقه.
وبيان أن هذا القدر يمنع من المشاركة في الحكم: وذلك لأن هاتين الصورتين
لو اشتركتا في الحكم، لكان: إما أن يكون الحكم الثابت في الصورتين معللاً بوصفٍ مشتركٍ بين الصورتين، أو لا يكون كذلك.
فإن كان الأول: لزم إلغاء الوصف المناسب المعتبر الذي اختص الأصل به؛ وإنه غير جائزٍ.
وإن كان الثاني: لزم تعليل الحكمين المتماثلين بعلتين مختلفتين؛ وهذا غير جائز؛ لأن إسناد أحد دينك الحكمين إلى علته: إن كان لذاته، أو للوازم ذاته، لزم في الحكم الذي يماثله إسناده أيضًا إلى تلك الماهية، لا إلى ماهية أخرى - وإن لم يكن لذاته، ولا للوازم ذاته، كان الحكم في نفسه غنيًا عن تلك العلة، والعني عن الشيء لا يكون مستندًا إليه؛ فوجب في ذلك الحكم ألا يكون مستندًا إلى تلك العلة، وقد فرضناه مستندًا إليها؛ هذا خلف.
وخامستها: أن الحكم لو ثبت في هذه الصورة، لثبت في الصورة الفلانية؛ لأن بتقدير ثبوته في هذه الصورة كان ذلك لدفع حاجة المكلف، وتحصيل مصلحته؛ وهذا المعنى قائم هناك؛ فيلزم ثبوت الحكم هناك، فلما لم يوجد هناك، وجب ألا يوجد هاهنا.
وسادستها: أن هذا الحكم كان منتفيًا من الأزل إلى الأبد؛ فكان منتفيًا في أوقات مقدرةٍ غير متناهيةٍ؛ فوجب أن يحصل ظن الانتفاء في هذه الأوقات؛ لأن الأوقات الغير متناهيةٍ أكثر من الأوقات المتناهية، والكثرة مظنة الظن؛ فوجب أن يكون الحكم في هذه الأوقات المتناهية مثل الحكم في تلك الأوقات الغير متناهية؛ وذلك يوجب النفي.
وسابعتها: شرع هذا الحكم يفضي إلى الضرر، والضرر منفي بالنص؛ وإنما
قلنا: (إنه يفضي إلى الضرر) لأنه إن فعل خلافه، استحق العقاب، وإن لم يفعل؛ بقى في صورة تارك المراد؛ فثبت كونه ضررًا؛ فوجب ألا يكون مشروعًا؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم):(لا ضرر، ولا ضرار).
وثامنتها: لو ثبت هذا الحكم، لثبت بدليل؛ وإلا كان ذلك تكليف ما لا يطاق؛ وإنه غير جائزٍ، لكنه لا دليل؛ لأن ذلك الدليل إما أن يكون هو الله تعالى، أو غيره:
والأول: باطل؛ وإلا لزم من قدم الله تعالى قدم الحكم؛ وإلا لزم النقيض؛ وهو خلاف الدليل، لكن قدم الحكم عبث، ولا جائز أن يكون غير الله تعالى؛ لأن ذلك الغير: إن كان قديمًا، عاد الكلام، وإن كان محدثًا، فقد كان معدومًا، والأصل بقاؤه على العدم.
وأيضًا: فلأن شرط كونه دليلاً أن توجد ذاته، وأن يوجد له وصف كونه دليلاً؛ فإذن: كونه دليلاً مشروط بحدوث هذين الأمرين، ويكفي في ألا يكون دليلاً عدم أحدهما، والمتوقف على أمرين مرجوح بالنسبة إلى ما يتوقف على أمرٍ واحد؛ فإذن: كونه دليلاً مرجوح في الظن؛ فوجب ألا يكون دليلاً، وأما إن كان الحكم وجوديا فللطرق الكلية فيه وجوه:
أحدها: أن المجتهد الفلاني قال به؛ فوجب أن يكون حقا؛ لقوله (صلى الله عليه وسلم): (ظن المؤمن لا يخطئ).
ترك العمل بهذا في ظن العوام؛ لأن ظنونهم لا تستند إلى وجهٍ صحيحٍ؛ فيبقي معمولاً به في حق ظن المجتهد.
فإن قلت: (فقول المجتهد المثبت معارض بقول المجتهد النافي!!):
قلت: قول المثبت أولى؛ لأن قول المثبت ناقل عن حكم العقل، وقد ذكرنا في باب التراجيح: أن الناقل أولى.
وأيضًا: فالنافي يحتمل أنه إنما نفي؛ لأنه وجد له ظن النفي، ويحتمل أنه إنما نفي؛ لأنه لم يوجد له ظن الثبوت، وعدم وجود الظن لا يكون ظنا بخلاف المثبت؛ فإنه لا يمكنه الإثبات إلا عند وجود الثبوت؛ فإنه لو لم يوجد له هذا الظن؛ لكان مكلفًا بالبقاء على حكم العقل، وإذا كان كذلك، ثبت أن قول المثبت أولى من قول النافي.
وثانيها: أن نقول: ثبت الحكم في الصورة الفلانية؛ فيجب ثبوته هاهنا.
وبيانه بالآية، والخبر، والأثر، والمعقول:
أما الآية: فمن وجهين: أحدهما: قوله تعالى:} فاعتبروا {، دلت الآية على الأمر بالمجاوزة، والاستدلال بثبوت الحكم في محل الوفاق، على ثبوته في محل الخلاف - مجاوزة؛ فكان داخلاً تحت الأمر.
وثانيهما: قوله تعالى:} إن الله يأمر بالعدل والإحسان {والعدل هو: التسوية، فالله تعالى أمر بالتسوية، وهذا تسوية؛ فيكون داخلاً تحت الأمر.
وأما الخبر: فهو أنه عليه الصلاة والسلام: (شبه القبلة بالمضمضة) في حكم شرعي؛ فوجب علينا أيضًا تشبيه الحكم بالحكم؛ لقوله تعالى:} فاتبعوه {وهذا الذي عملناه تشبيه صورةٍ بصورةٍ؛ فكان داخلاً تحت الأمر.
وأما الأثر: فهو أن أبا بكر رضي الله عنه (شبه العهد بالعقد) وأن عمر رضي الله عنه: أمر أبا موسى بالقياس؛ في قوله: (قس الأمور برأيك) وإذا ثبت أنهما فعلا ذلك، وجب علينا مثله؛ لقوله عليه الصلاة والسلام:(اقتدوا باللذين من بعدي؛ أبي بكرٍ وعمر).
وأما المعقول: فهو: أن نعين محل الوفاق؛ فنقول: الحكم هناك إنما ثبت؛ لحاجته ومصلحته، وذلك المعني قائم هاهنا؛ فورود الشرع بالحكم هناك، يكون ورودًا به هاهنا.
وثالثها: أجمعنا على أن حكمًا ما في علم الله تعالى ثبت، ولا شك أن ذلك الحكم إنما ثبت لمصلحةٍ، وهذا الحكم بتقدير الثبوت محصل لنوع مصحلةٍ؛ فلابد وأن يشتركا في قدرٍ مشتركٍ؛ فيعلل بالقدر المشترك؛ وذلك يقتضي ثبوت الحكم.
ورابعها: أن هذا الحكم بتقدير الثبوت يتضمن تحصيل مصلحة المكلف، ودفع حاجته؛ فوجب أن يكون مشروعًا؛ لأن جهة كونه مصلحة جهة الدعاء إلى الشرعية، فلو خرجت عن الدعاء إلى الشرعية، لكان ذلك الخروج لمعارض؛ والأصل عدم المعارض.
وخامسها: أن أحد المجتهدين قال بثبوت الحكم، والآخر قال بعدمه: فالثبوت أولى؛ لأن المسلمين أجمعوا على أنه إذا ورد خبران؛ أحدهما ناقل عن حكم العقل، والآخر مبقٍ له؛ فإن الناقل أولى؛ فكذا هاهنا.
فإن قلت: (فالنفى بتقدير وروده بعد الثبوت يكون ناقلاً أيضًا):