الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثالث
فيما فيه الاستفتاء
قال الرازي: مسألة: لا يجوز التقليد في أصول الدين، لا للمجتهد، ولا للعوام.
وقال كثير من الفقهاء بجوازه.
لنا: أن تحصيل العلم في أصول الدين واجب على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فوجب أن يجب علينا، وإنما قلنا: إنه كان واجبًا على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لقوله تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله} [محمد: 19] وإنما قلنا: (إنه لما كان واجبًا على الرسول صلى الله عليه وسلم، وجب أيضًا على أمته) لقوله تعالى: {واتبعوه} [الأعراف: 158].
فإن قيل: لا نسلم أنه يمكن إيجاب العلم بالله تعالى، وذلك لأن المأمور إن لم يكن عالمًا بالله تعالى، فحالما لا يكون عالمًا بالله، استحال أن يكون عالمًا بأمر الله تعالى، وحالما يمتنع كونه عالمًا بأمر الله تعالى، يمتنع كونه مأمورًا من قبله؛ وإلا لكان ذلك تكليف ما لا يطاق، وإن كان عالمًا بالله -تعالى -استحال أمره به؛ لأن تحصيل الحاصل محال.
سلمنا: أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان مأمورًا بذلك؛ فلم قلت: إنه يلزم من كون الرسول مأمورًا كون الأمة مأمورين به؟
وما ذكرتم من الدليل معارض بأمور:
أحدها: أن الأعرابي الجلف العامي كان يحضر، ويتلفظ بكلمتى الشهادة، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام -يحكم بصحة إيمانه، وما ذاك إلا التقليد.
وثانيها: أن هذه الدلائل لا يمكن الاطلاع عليها، إلا بعد ممارسة شديدة؛ وإنهم لم يمارسوا شيئًا من هذا العلم؛ فيمتنع اطلاعهم عليه، وإذا كان كذلك، تعين التقليد.
وثالثها: أنه عليه الصلاة والسلام -لم يقل لأحد ممن تلفظ بكلمتي الشهادة: (هل علمت حدوث الأجسام، وأنه تعالى مختار، لا موجب -فدل هذا على أن خطور هذه المسائل بالبال، غير معتبر في الإيمان، لا تقليدًا، ولا علمًا.
ومنهم: من عول في هذه المسألة على طريقة أخرى؛ فقال: (أجمعت الأمة على أنه لا يجوز إلا تقليد المحق، لكن لا يعلم أنه محق إلا إذا عرف بالدليل أن ما يقوله حق، فإذن: لا يجوز له أن يقلد إلا بعد أن يستدل، ومتى صار مستدلا، امتنع كونه مقلدًا) فيقال لهم: هذا معارض بالتقليد في الشرعيات؛ فإنه لا يجوز له تقليد المفتي، إلا إذا كان المفتي قد أفتى؛ بناًء على دليل شرعي.
فإن قلت: (الظن فيه كاف؛ فإن أخطأ، كان ذلك الخطأ محطوطًا عنه):
قلت: فلم لا يجوز مثله في مسائل الأصول؟.
واعلم أن في هذه المسألة أبحاثًا دقيقة مذكورة في كتبنا الكلامية.
والأولى في هذه المسألة أن يعتمد على وجه، وهو أن يقال: دل القرآن على ذم التقليد في الشرعيات؛ فوجب صرف الذم إلى التقليد في الأصول، وإذا قد وفقنا الله تعالى بفضله؛ حتى تكلمنا في جميع أبواب أصول الفقه؛ فلتتكلم الآن فيما اختلف فيه المجتهدون أنه، هل هو من أدلة الشرع، أو ليس كذلك؟!.
مسألة في شرائط الاستفتاء
قال القرافى: قوله: (منهم من أوجب الأخذ بقول الأعلم، وهو الأقرب):
تقريره: أن القاعدة الشرعية: أنه يقدم في كل ولاية من هو أقوم بمصالحها، فيقدم في القضاء من هو أعلم بوجوه الأقضية من التفطن لوجوه الحجاج، ومكايد الخصوم.
وفي الحروب من هو أعلم بمكايد الحروب، وسياسات الجيوش.
وفي كفالة الأيتام: من هو أعرف بيتمه والأموال، ومقادير الفروض.
وفي جباية الصدقات: من هو أعلم بالنصب، وأحكام الزكاة.
وربما كان المقدم في باب مؤخرًا في باب، فتقدم المرأة في الحضانة؛ لوفور شفقتها، وكثرة صبرها بالنسبة إلى الرجل؛ فإن أنفة الرجولية تأبى الصبر على الأطفال، فتقدم المرأة لذلك.
وتؤخر في الجهاد؛ لخور طبعها في الحروب، وملاقاة الأعداء، وأسباب الموت والفناء.
ولذلك قدم الفقيه في إمامه الصلاة؛ لكونه أعلم بتوقيعها، وعوارضها من القارئ، وكذلك -هاهنا -محط الفتيا، وسوغها، إنما هو العلم، فالأعلم يقدم.
قال الشيخ أبو إسحاق -في (اللمع): (إذا استويا ثلاثة أقوال: التخيير، تعيين الأرجح، يجتهد فيهما).
وقال أبو الخطاب الحنبلي في (التمهيد): (وقيل: يأخذ بالأشد، ويترك الأخف، إن كان فيهما أخف، وإذا قلنا بالتخيير، قال بعض الشافعية: ليس له أن يختار الأخف).
وقال ابن برهان في كتاب (الأوسط): (قيل: يأخذ بالأشد؛ لأنه أحوط، وقيل: بالأخف؛ لأن الشريعة مبنية على المساهلة، وقيل: يرجع إلى فتوى قلبه، لقوله عليه السلام: (استفت قلبك، وإن أفتاك الناس وأفتوك).
وقيل: يتخير، وهو الأصح.
قوله: (وثانيهما: أن يستويا في العلم، ويتفاضلا في الدين، فيقدم الأدين):
قلنا: الذي يخير عند الاستواء في الدين، والتفاضل في العلم، يلزمه أن يخير هاهنا بطريقة الأولى؛ لأن العلم مدرك الفتيا، وعمادها، والتفاضل فيه لا يمنع التخيير.
فأول التخيير، لكن المصنف لم يحكه في هذا القسم.
قوله: (وثالثها: أن يكون أحدهما أرجح في علمه، فقيل: يؤخذ بقول الأدين، والأقرب ترجيح قول الأعلم):
قلنا: كان أصل التقسيم يستحق كلامًا آخر، فنقول: أحدهما أرجح في دينه، والآخر أرجح في علمه، ثم يحكى الخلاف.
لكن الواقع في نسخ عدة هو ذكر القسم الأول فقط.
فلعله تركه اكتفاًء بالمفهوم.