الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكلام فيما اختلف فيه المجتهدون من أدلة الشرع
وفيه المسائل:
المسألة الأولى: في حكم الأفعال:
اعلم أنا بينا في أول هذا الكتاب أنه لا حكم قبل الشرع، أجبنا عن شبه المخالفين، ونريد الآن أن نبين أن الأصل في المنافع الإذن، وفي المضار المنع بأدلة الشرع؟ فإن ذينك أصلان نافعان في الشرع:
أما الأصل الأول: فالدليل عليه وجوه:
المسك الأول: التمسك بقوله تعالى: {خلق لكم ما في الأرض جميعًا} [البقرة: 29] واللام تقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع.
فإن قيل: لا نسلم أن اللام تقتضي الاختصاص بجهة الانتفاع؛ والدليل عليه قوله تعالى: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7]{لله ما في السموات والأرض} [البقرة: 284] ففي هاتين الآيتين يمتنع أن تكون اللام للاختصاص بالمنافع، ولأن النحاة قالوا: اللام للتمليك، وهو غير ما قلتموه. سلمنا ذلك؛ ولكنه يفيد مسمى الانتفاع، أو يفيد كل الانتفاعات؟.
الأول مسلم، ويكفي في العمل بها حصول فرد واحد من الانتفاعات، وهو الاستدلال بها على الصانع تعالى.
والثاني ممنوع؛ فما الليل؟ سلمنا أنه يفيد كل الانتفاعات، لكن بالخلق؛ لأن اللام داخلة على الخلق؛ فلم قلت: إن المخلوق كذلك؟.
سلمنا أنه يفيد الانتفاع بالمخلوق؛ لكن لكل واحد في حال واحد؛ لأن هذا مقابلة الجمع بالجمع، فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد فقط.
سلمنا أنه يفيد العموم؛ لكن كلمة (في) للظرفية، فيدل على إباحة كل ما في داخل الأرض، وهو الركاز المعادن؛ فلم قلتم: إن ما على الأرض كذلك؟
سلمنا إباحة كل ما على الأرض؛ لكن في ابتداء الخلق؛ لأن قوله: {خلق لكم} [البقرة: 29] يشعر بأنه حالما خلقها إنما خلقها لنا؛ فلم قلتم: إنه بقي في الدوام كذلك؟.
فإن قلت: (الأصل في الثابت البقاء):
قلت: هذا فيما يحتمل البقاء؛ لكن كونه مباحًا صفة، والصفة لا تبقى.
سلمنا الإباحة حدوثًا وبقاًء؛ لكن، لمن كان موجودًا وقت ورود هذا الخطاب؛ لأن قوله تعالى:{خلق لكم} خطاب مشافهة؛ فيختص بالحاضرين.
سلمنا أنه يدل على اختصاصها بنا؛ لكن قوله تعالى: {لله ما في السموات وما في الأرض} [البقرة: 284] ينافي ذلك.
والجواب: الدليل على أن اللام تفيد المنفعة قوله تعالى: {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] وقال عليه الصلاة والسلام: (النظرة الأولى لك، والثانية عليك) وقال عليه الصلاة والسلام: (له غنمه، وعليه غرمه) ويقال: (هذا الكلام لك، وهذا عليك).
غاية ما في الباب أنها جاءت في سائر المواضع لمطلق الاختصاص، فنقول:
لو جعلناه حقيقة في الاختصاص النافع، أمكن جعله مجازًا في مسمى الاختصاص؛ لأن مسمى الاختصاص جزء من الاختصاص النافع، والجزء لازم للكل، واللفظ الدال على الشيء يصح جعله مجازًا عن لازمه، أما لو جعلناه حقيقة لمسمى الاختصاص لم يكن الاختصاص النافع لازمًا؛ لأن الخاص لا يكون لازمًا للعام، وإذا لم يوجد اللوم لم يجز جعله مجازًا عنه.
وأما قول النحاة: (اللام للتمليك) فلم يريدوا أنها حقيقة للملك؛ وإلا لبطل بقوله: (الجل للفرس) بل مرادهم: الاختصاص النافع، وهو عين ما قلناه.
قوله: (يكفي حصول فرد من أفراد الانتفاعات، وهو الاستدلال بها على الصانع تعالى):
قلنا: لا يمكن حمل الآية على هذا النفع؛ لأن هذا النفع حاصل لكل مكلف من نفسه، فإنه يمكنه الاستدلال بنفسه على الصانع، وإذا حصل له هذا النفع من نفسه، كان تحصيل هذا الجنس من النفع من غيره ممتنعًا؛ لأن تحصيل الحاصل محال.
قوله: (اللام داخله على الخلق؛ فلم قلت: المخلوق كذلك؟):
قلنا: الخلق هو المخلوق؛ لقوله تعالى: {هذا خلق الله} [لقمان: 11] أي مخلوق الله، وبتقدير أن يكون الخلق غير المخلوق؛ لكن لا نفع للمكلف في صفة الله تعالى، فوجب أن يكون المراد ها هنا من الخلق المخلوق.
قوله: (مقابلة الجمع بالجمع تقتضي مقابلة الفرد بالفرد):
قلنا: لا نسلم أن هذا مقابلة الجمع بالجمع، بل هذا يجري مجرى تمليك
الدار الواحدة لشخصين؛ فكما أن ذلك يقتضي تعلق حق كل واحد منهما، لا بجزء معين من الدار؛ بل بجميع أجزاء الدار؛ فكذا ها هنا.
قوله: (كلمة: (في) لا تتناول إلا ما كان في باطن الأرض).
قلنا: لا نسلم؛ بدليل قوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30].
قوله: (وهب أنه ثبت هذا الحكم في الابتداء؛ فلم قلت: إنه يدوم؟):
قلنا: لأن الأصل فيم يثبت بقاؤه.
قوله: (هذا الاختصاص صفة؛ فلا تقبل الدوام):
قلنا: لكن حكم الله تعالى صفة؛ فهي واجبة الدوام.
قوله: (وهب أن هذا الحكم ثبت للمخاطبين بهذا الخطاب؛ فلم قلت: إنه يثبت في حقنا؟):
قلنا: لأن الله تعالى، لما حكم بذلك في حقهم، وقد حكم به الرسول أيضًا في حقهم؛ فوجب أن يكون قد حكم به أيضًا في حقنا؛ لقوله عليه الصلاة والسلام (حكمي في الواحد، حكمي في الجماعة).
قوله: هذا معارض بقوله تعالى: {لله ما في السموات وما في الأرض} [البقرة: 284].
قلنا: التعارض إنما يثبت أن لو ثبت في الموضعين بمعنى واحد؛ وهو محال؛ لأن الذي أثبتناه في حقنا هو الاختصاص النافع؛ وذلك في حق الله -تعالى - محال، فإذن: لا تعارض، بل ذلك الاختصاص ليس إلا بجهة الخلق والإيجاد.
المسلك الثاني: قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} [الأعراف: 32] أنكر الله -تعالى -على من حرم زينة الله؛ فوجب ألا تثبت حرمة زينة الله، وإذا لم تثبت حرمة زينة الله، امتنع ثبوت الحرمة في كل فرد من أفراد زينة الله؛ لأن المطلق جزء من المقيد، فلو ثبتت الحرمة في فرد من أفراد زينة الله تعالى لثبتت الحرمة في زينة الله تعالى؛ وذلك على خلاف الأصل، وإذا انتفت الحرمة بالكلية، ثبتت الإباحة.
المسلك الثالث: أن -الله -تعالى قال: {أحل لكم الطيبات} [المائدة: 4] وليس المراد من الطيب الحلال؛ وإلا لزم التكرار؛ فوجب تفسيره بما يستطاب طبعًا، وذلك يقتضى حل المنافع بأسرها.
المسلك الرابع: القياس: وهو أنه انتفاع بما لا ضرر فيه على المالك قطعًا، ولا على المنتفع ظاهرًا؛ فوجب ألا يمنع؛ كالاستضاءة بضوء سراج الغير، ولاستظلال بظل جداره.
وإنما قلنا: إنه لا ضرر فيه على المالك؛ لأن المالك هو الله تعالى، والضرر عليه محال، وأما ملك العباد، فقد كان معدومًا، والأصل بقاء ذلك العدم، ترك العمل به فيما وقع اتفاق الخصم على كونه مانعًا، فيبقى في غيره على الأصل.
فإن قيل: (فهذا يقتضى القول بإباحة كل المحرمات؛ لأن فاعلها ينتفع بها، ولا ضرر فيها على المالك، ويقتضى سقوط التكاليف بأسرها، ولا شك في فساده.
وأيضًا: بالقياس على الاستضاءة والاستظلال غير جائز؛ لأن المالك لو منع
من الاستضاءة والاستظلال، قبح ذلك منه؛ والله -تعالى -لو منع، من الانتفاع، لم يقبح):
والجواب عن الأول: أنا احترزنا عنه بقولنا: (ولا ضرر على المنتفع ظاهرًا) وهاهنا في فعل ما نهى الله عنه، ترك ما أمر به ضرر، أما على قول المعتزلة: فلأنه لولا اشتمال الفعل والترك على جهة؛ لأجلها حصل النهى، وإلا لما جاز ورود النهى، وأما عندنا: فلأن الله -تعالى -لما توعدنا بالعقاب عليه، كان مشتملاً على الضرر؛ فلم يكن واردًا علينا.
وعن الثاني: أنه لا يجب أن يكون الفرع مساويًا للأصل من كل الوجوه؛ بل يكفى حصول المساواة فيه من الوجه المقصود.
المسلك الخامس: وهو أن الله -تعالى -خلق الأعيان: إما لا لحكمة، أو لحكمة.
والأول باطل؛ لقوله تعالى: {وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين} [الدخان: 38] وقوله: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} [المؤمنون: 115] ولأن الفعل الخالي عن الحكمة عبث، والعبث لا يليق بالحكيم.
وأما إن كان خلقها لحكمة، فتلك الحكمة: إما عود النفع إليه، أو إلينا.
والأول: محال؛ لاستحالة الانتفاع عليه، فتعين أنه -تعالى -إنما خلقها؛ لينتفع بها المحتاجون؛ وهذا يقتضى أن يكون المقصود من الخلق نفع المحتاج، وإذا كان كذلك؛ كان نفع المحتاج مطلوب الحصول، أينما كان، فإن منع منه؛ فإنما يمنع، لأنه بحيث يلزمه رجوعه ضرر إلى محتاج.
فإذا نهانا الله تعالى عن بعض الانتفاعات، علمنا أنه تعالى، إنما منعنا منها؛ لعلمه باستلزامها للمضار: إما في الحال، أو في المال؛ ولكن ذلك على خلاف الأصل؛ فثبت أن الأصل في المنافع الإباحة.
وهذا النوع من الكلام هو اللائق بطباع الفقهاء، والقضاة، وإن كان تحقيق القول فيه لا يتم إلا مع القول بالاعتزال.
أما الأصل الثاني؛ وهو أن الأصل في المضار الحرمة: فهذا يستدعى بحثين: أحدهما: البحث عن ماهية الضرر، والثاني: إقامة الدليل على حرمته.
أما الأول: فقد قالوا: الضرر ألم القلب؛ لأن الضرب يسمى ضررًا، وتفويت منفعة الإنسان يسمى إضرارًا، والشتم والاستخفاف يسمى ضررًا، ولابد من جعل اللفظ اسمًا لمعنى مشترك بين هذه الصور؛ دفعًا للاشتراك، وألم القلب معنى مشترك؛ فوجب جعل اللفظ حقيقة فيه.
فإن قيل: (أتعنى بألم القلب الغم والحزن، أم شيئًا آخر؟:
الأول: باطل؛ لأن من خرق ثوب إنسان، أو خرب داره، وكان المالك غافلاً عن هذه الحالة، يقال: أضر به، مع أنه لم يوجد الغم والحزن، وإن عنيت به شيئًا آخر، فبينه، نزلنا عن الاستفسار؛ فلم قلت:(الضرر ألم القلب؟):
قوله: (لابد من معنى مشترك في مواضع الاستعمال):
قلنا: هذا مسلم؛ لكن لم قبلت: إنه لا مشترك إلا ألم القلب؛ بل هاهنا مشترك آخر؛ وهو تفويت النفع؛ فما الدليل على أن ما ذكرتموه أولى؟ ثم الذي يدل على أن ما ذكرناه أولى: أن النفع مقابل الضرر، والنفع تحصيل المنفعة؛ فوجب أن يكون الضرر إزالة المنفعة.
وإذا ثبت ذلك، وجب ألا يكون حقيقة فيما ذكرتموه؛ دفعًا للاشتراك.
سلمنا أن ما ذكرتموه يدل على أن الضرر ألم القلب؛ لكنه معارض بوجهين:
الأول: أن من خرب دار إنسان، وكان المالك غافلاً عنه، يقال:(أضر به) مع أنه لم يوجد هناك ألم القلب؛ لأن ألم القلب لا يحصل إلا بعد الشعور به.
الثاني: قوله تعالى: {قال أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئًا ولا يضركم} [الأنبياء: 66] أخبر أن عبادة الأصنام لا تضرهم، مع أنها تؤلم قلوبهم يوم القيامة؛ لأنهم يعاقبون بذلك.
فثبت أن الضرر ليس ألم القلب.
والجواب: أن القلب إذا ناله غم وحن، انعصر دم القلب في الباطن، وانعصار دم القلب في الباطن؛ إنما يكون لانعصار القلب في نفسه، وانعصار العضو مؤلم له؛ لأن أي عضو عصرته، فإنه يحصل منه ألم، فالمراد من ألم القلب تلك الحالة الحاصلة له عند ذلك الانعصار، فظهر بهذا أن ألم القلب مغاير للغم، وإن كان مقارنًا له، وغير منفك عنه.
وأما من خرق ثوب إنسان، فإنما يقال: (أضر به على معنى أنه أوجد ما لو عرفه، لحصل الضرر؛ لا محالة؛ وهو في الحقيقة إطلاق اسم المسبب على السبب مجازًا.
قوله: (لم قلت: لا مشترك سواه):
قلنا: لأن المشترك الآخر كان معدومًا، والأصل بقاؤه على العدم.
قوله: (تفويت النفع أيضًا مشترك):
قلنا: لا يجوز جعله مسمى الضرر؛ لأن البيع الهبة حصل فيما تفويت النفع؛ لأن البائع فوت على نفسه الانتفاع بعين المبيع، مع أن ذلك لا يسمى ضررًا.
قوله: (الضرر في مقابلة النفع):
قلنا: هب أنه كذلك؛ لكن النفع عبارة عن تحصيل اللذة، أو ما يكون وسيلة إليها، والضرر عبارة عن تحصيل الألم، أو ما يكون وسيلة إليه.
وأما الآية: فنقول: لا نسلم أن الأصنام تضرهم في الدنيا، ولا في الآخرة؛ بل الذي يضرهم في الآخرة عبادتها؛ فزال السؤال.
المقام الثاني: في إقامة الدلالة على حرمة الضرر، والمعتمد فيه قوله عليه الصلاة والسلام:(لا ضرر، ولا إضرار في الإسلام).
والكلام على التمسك بهذا النص اعتراضًا وجوابًا مشهور في الخلافيات الكلام فيما اختلف فيه المجتهدون، هل من أدلة الشرع؟.
قال القرافي: قوله: (قال النحاة: (اللام للتمليك):
تقريره: أن (اللام) في اللغة: تكون (ساكنة)، و (ومفتوحة)، و (مكسورة).
والمكسورة: التي هي المقصودة -هنا -تكون للملك: إذا أضافت ما يصلح للملك لمن يصلح له الملك، نحو:(المال لزيد)، وإلا فلا.
وللاستحقاق: إذا أضافت لغير من يقبل الملك، بل العادة جرت به نحو: سرج للدابة، وباب للدار؛ لأن العادة اقتضت أن يكون للدابة سرج، وللدار باب.
والاختصاص: نحو: ابن لزيد، أي هو مختص به دون سائر الناس؛ لأنه لا يكون له إلا أب واحد.
وللتشريف: نحو: قوله تعالى: (إلا الصوم؛ فإنه لي وأنا أجزى به).
وللذم نحو: هذا حزب للشيطان.
وللتعليل: نحو: اتجرت لأربح.
والجحود: إذا تقدمت (كان) مع النفي نحو: ما كنت لأسافر.
ولام العاقبة: نحو: قوله تعالى: {ليكون لهم عدوا وحزنًا} [القصص: 8].
ولام الأمر: نحو: ليقم زيد.
ولام الاستغاثة: نحو: يا لزيد لعمرو.
ولتعدية الفعل: نحو: أكلت لزيد الطعام.
فهذه أحد عشر موضعًا.
والمفتوحة: تكون مستعملة استعمالات مكسورة في معانيها مع المضمرات، كما تكون مع الظواهر نحو: المال له.
وللتأكيد: نحو: إن زيدًا لقائم.
وجواب القسم: نحو: {وإن ربك ليحكم بينهم} [النحل: 124].
وللقسم: نحو: لعمرك إنه لقادم.
وللمستغاث به -كما تقدم -فيفتح لام المستغاث نحو: يا لزيد، يا لله.
فهذه خمسة مواضع.
والساكنة: تكون في التعريف نحو: الرجل، والمال، والأمر.
ومع حرف العطف المتقدم عليها: نحو: قوله تعالى: {وليوفوا نذورهم وليطوفوا} [الحج: 29].
وأما قوله تعالى: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7]، فبمعنى (على) وكذلك قوله عليه السلام، (واشترطي لهم الولاء) أي عليهم على أحد الأقوال، فهذا مجاز لا يعد في الحقيقة.
وفي قوله تعالى: {لله ما في السموات} [البقرة: 284] للتمليك.
قوله: (يفيد الانتفاع بالخلق؛ لأن اللام داخلة عليه):
تقريره: أن الغرض قد يتعلق بنفس الفعل، ون ما يترتب عليه، نحو: قتل العدو؛ فإن نفس الفعل هو الشافي، وهو مقصودك، وأما يترتب عليه، فلا.
وكذلك تقول: أخرجته لجلده وقتله؛ لأن المقصود نفس الفعل عندك.
وقد يكون لمقصود ما يترتب على الفعل، لا نفس الفعل، نحو: شرب الأدوية، وصنع الأغذية؛ فإن المقصود ليس نفس الشرب، ولا طبخ الطعام، بل ما يترتب عليه حتى لو تصور -عندك -حصول المقصود منهما، بدون الفعل، والمباشرة، كان أحب إليك، بخلاف قتل العدو، وقد تكون المباشرة هي المقصودة.
ونظيره في الشرعيات: ذبح الضحايا، والهدايا؛ فإن مباشرتها مقصودة،
بخلاف دفع الديون، والزكوات المباشرة ليست مقصودة، بل وصول الحق لمستحقه.
فهاهنا أمكن أن يقال: المعلل باللام هو الفعل، لا ما يترتب عليه، فلا يكون انتفاعنا بالأعيان له مدخل في التعليل غير أن قوله:(اللام) داخلة على الخلق) عبارة فيها اتساع؛ فإن (اللام) لم تدخل إلا على الضمير الذي هو العباد الذي خلق لأجلهم، لا على الخلق، ولا عل المخلوق الذي المقصود الانتفاع به، بل معناه أن المعلل في الصورة الظاهرة إنما هو فعل الخلق لا المخلوق؛ لقوله تعالى:{خلق لكم} [البقرة: 29]، ولم يقل تعالى: هذه المخلوقات لكم، فكان حق العبارة أن يقول: لأن الذي علل (باللام) هو الخلق، لا المخلوق لكنه لما وجد المختص بالتعليل قال:(اللام) داخلة عليه، أي لأجله، فكأنه استعمل (على) بمعنى (اللام) مجازًا.
وحروف الجر ينوب بعضها مناب بعض نحو قوله تعالى: {وإن أسأتم فلها} [الإسراء: 7].
قوله: (الصفة لا تبقى):
قلنا: لا نسلم، بل هذا خلاف الإجماع، بل الذي قيل به أن الأعراض لا تبقى أفرادها الشخصية، أما أنواعها فلا خلاف أنها تبقى، وأن الثوب يدوم وصفه بالبياض الذي هو عرض الدهر الطويل، أما أن ذلك البقاء لبقاء الفرد الواحد، أو لتجرد الأفراد في كل زمان -هذا موضع الخلاف.
وعلى هذا التقدير: الصفة دائمة الدوام، المقصود في هذه المسألة، وهو صادق لغة، وعرفًا -هذا في المحدث.
أما الإباحة التي هي صفة قديمة، فظاهر أنها لا تقبل العدم.
قوله: (لكن قوله تعالى: {لله ما في السموات، وما في الأرض} [البقرة: 284] ينافى ذلك):
تقريره: أنه ذكر هذه الآية أولاً، وآخرًا، وليس ذلك تكرارًا، بل ذكرها أولاً للمعارضة في (اللام)، وأنها لا تكون للاختصاص بالنفع.
وثانيًا: للمعارضة في كون النفع لنا؛ بل هو لله -تعالى -بعد تسليم أنها للاختصاص.
فالأول: في (اللام)، والثاني: في (النفع).
أي ليس النفع لنا؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أنه لله.
غايته أن الدليل دل على أن الله -تعالى -منزه عن المنافع. وإذا خرج اللفظ عن ظاهره في أن الله -تعالى -ينتفع، بقيت مستعملة في عدم انتفاعنا نحن؛ لأن اللفظ دل على أمرين، انتفاع الله -تعالى -ويلزم من اختصاصه عدم نفعنا نحن.
قوله: (لو جعلناه حقيقة في مسمى الاختصاص، لم يمكن جعله مجازًا في الاختصاص النافع بعدم اللزوم).
قلنا: قد تقدم -مرارًا -أن هذا مستدرك، وأنه ليس من شرط المجاز اللزوم؛ فإن من جملة أنواع المجاز التي عددتموها التعبير بالجزء عن الكل، بالضد عن الضد، وبالأسد عن زيد، وليس شيء من ذلك يلزمه المحل المتجوز إليه.
وهذه النزعة -تقدم -أنها من أصل القياس بالدلالة باللفظ.
تقدم الفرق بينهما في أقسام الدلالة من خمسة عشر وجهًا.
بل اللائق هنا: أن يقولوا: يكون المجاز مرجوحًا بالنسبة إلى القسم
الآخر؛ فإن المجاز مع اللزوم أقوى، ويحصل المقصود، ولا حاجة للتصريح بعد الجواز.
قوله: (النحاة لم يريدوا حقيقة الملك):
قلنا: بل صرحوا بذلك، وجعلوها لفظة مشتركة بين تلك المعاني المتقدمة، ولا ينتقض عليهم بقولهم: الجل للفرس، ومع النقل عنهم لا يبقى نزاع.
قوله: (الانتفاع بالخلق حاصل للإنسان من نفسه، فلو جعل من غيره كان ممتنعًا):
قلنا: هو غير ممتنع؛ فإنه يرجع إلى ترادف الأدلة على وجود الصانع -تعالى -وصفاته العلى، وكل جزء من أجزاء العالم وإن قل دليل على ذلك، فكما اجتمعت هذه الأدلة، جاز اجتماع دلالة الإنسان من نفسه، ومن غيره، ويكون ذلك من باب ترادف الأدلة، وإنما كان يمتنع ذلك إذ لو كان كل واحد مؤثرًا، لكن هذا الباب لا تأثير فيه.
ولذل قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم} [فصلت: 53].
فجمع بينهما وقال الشاعر [المتقارب]:
وفي كل شيء له آية .... تدل على أنه واحد
وليس هذا من باب تحصيل الحاصل في شيء.
قوله: (الخلق هو المخلوق؛ لقوله تعالى: {هذا خلق الله} [لقمان: 11]:
قلنا: الخلق غير المخلوق اتفاقًا، وإنما قال الأشعري وغيره من المحققين: الخلق نفس المخلوق أي: ليس زائدًا عليه في الخارج؛ لأن الخلق والتأثير من
باب النسب والإضافات التي لا وجود لها في الأعيان؛ بل فذ الأذهان فقط.
والنسب الذهنية مغايرة للأمور الخارجية قطعًا، ويكفى في ذلك أن أحدهما ذهني، والآخر خارجي.
ولذلك غلط من ألزم الأشعري أنت يعرب (السموات والأرض) في قوله تعالى: {خلق السموات والأرض} [الأنعام: 1] لأن الخلق مصدر اتفاقًا. وهو عنده نفس المخلوق، فالمخلوق مصدر، والمخلوق هو السموات والأرض، فهي مصدر، وهو خلاف إجماع النحاة.
وجوابه: ما تقدم أنه نفسه في الخارج، بمعنى أنه ليس زائدًا عليه.
ولفظ المصدر موضوع -هاهنا -لنسبة ذهنية، كالتقدم، والتأخر، ونحوهما.
فتلك النسبة هي تعرب لفظها مصدرًا، أما في الخارج فلا.
وكذلك في الخلق مع المخلوق تغاير لفظًا، ومعنى، وأحدهما ذهني، والآخر خارجي، وهو ليس زائدًا على الخارجي.
أما أنه نفسه في العقل، والمفهوم، فلم يقل أحد، وهو خلاف الضرورة أيضًا: قوله تعالى: {هذا خلق الله} [لقمان: 11]، مجاز باتفاق النحاة، وأنه من باب التعبير بالمصدر عن المفعول، نحو: ضرب الأمير، ونسيج اليمن، ورجل عدل، ورضا.
أي مضروب الأمير، ومنسوج اليمن، وعادل، ومرضى.
قوله: (لا نفع للمكلف في صفات -الله -تعالى):
قلنا: صفات الله -تعالى -أربعة أقسام:
ذاتية: نحو: أزلي، أبدى.
ومعنوية: نحو: العلم، والإرادة.
وسلبية: نحو: ليس بجسم، ولا عرض.
وفعلية: نحو: الخلق، والرزق، وجميع ما يحدثه الله -تعالى -من المواهب من النعم الظاهرة، والباطنة، ولذلك سمى -تعالى -نفسه الوهاب، والفتاح، والرزاق، ونحوها.
فهذا القسم من الصفات ينتفع العبد به، بل لا ينتفع في الدنيا، ولا في الآخرة إلا به، وهو المقصود من صورة النزاع.
قوله: (لا نسلم أن هذا من مقابلة الجمع بالجمع):
تقريره: أن مقابلة الجمع بالجمع لها أحوال:
تارة: يكون الجمع ثابتًا لكل واحد من أفراد الجمع، كقوله تعالى:{إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات} [البروج: 11] أي لكل واحد من أفراد المؤمنين ثلاث جنات.
وتارة: يقتضى توزيع الجمع على الجمع، كقوله تعالى:{وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة} [البقرة: 283].
أي: كل واحد منكم يأخذ رهنًا، فالجمع مورد على الجمع.
وتارة: يكون الجمع يحتمل الأمرين كهذه الآية، وليس في اللغة ما يقتضى شيئًا من ذلك، بما هي لغة، إنما يعلم ذلك من القرآن، فمن استدل باللفظ معناه؛ لتعارض الاحتمالات.
قوله: (لا نسلم أن (في) لما في باطن الأرض لقوله تعالى: {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30]):
تقريره: أن الأصل في المجرور بلفظة (في) أن يكون هو الظرف المحيط، هذا هو الحقيقة اللغوية.
غير أنه صار من المنقول العرفي لما في فوق الأرض، مما قاربها، فو مجاز راجح منقولة من باب التعبير بالشيء عما يقاربه، ثم اشتهر في العرف، فصار منقولاً، ومنه قوله تعالى:{وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل: 20].
الكل من باب المنقولات، والنقل مقدم على أصل اللغة في حمل اللفظ عليه؛ لأنه ناسخ، والناسخ مقدم على المنسوخ.
قوله: (حكم الله -تعالى -صفته، فهي واجبة الدوام):
قلنا: قد تقدم أن الأحكام الشرعية لا بد فيها -مع الكلام النفسي -من التعلق -وأن التعلق نسبى، فيكون الحكم من حيث هو حكم مركب من وجودي الذي هو الكلام النفسي، وعدمي الذي هو التعلق، والمركب من الوجودي، والعدمى عدمي، فيكون الحكم من حيث هو عدميًا، وإن كان كلام الله -تعالى -وجديًا، والعدمى يمكن رفعه.
وأيما كان يستحيل رفعه، لو كان الحكم لم يدخل في اعتباره قيد عدمي، ولولا ما ذكرته لتعذر النسخ، وتبدل الحرمة بالحل، بعقد النكاح، والحل بالحرمة بالطلاق، وهو كثير، بل قد تبين -أول الكتاب -أن الحكم بما هو حكم أمر ممكن؛ لأجل أحد أجزائه الذي هو التعلق الممكن يفيد الرفع، والبقاء، والتأثير، والتعليل.
قوله: (في قوله عليه السلام: (حكمي على الواحد حكمي على الجماعة):
قلنا: هذا الحديث يقتضى أنه متى حكم على واحد حكم على جماعة، والجماعة تصدق بثلاثة، أما ما يتناهى إلى يوم القيامة فلم قلتم: إن اللفظ يتناوله؟
فإن قلت: الجماعة، و (اللام) عام في جميع أفراد الجماعات؛ لأن (اللام) للعموم فيما دخلت عليه، فلتعم أفراد الجماعات إلى قيام الساعة، وهو المطلوب؟
قلت: ينبغي أن يسوى بين (اللام) في الواحد، وبينها في الجماعة حتى يناسب اللفظ، و (اللام) في الواحد لو كانت للاستغراق والعموم، لدخلت الجماعات فيها، وكل من يصدق عليه أنه واحد، فيضيع قوله عليه السلام:(حكمي على الواحد)، ويتحد المرتب، والمرتب عليه، ويبقى معنى الحديث:(حكمي على كل فرد حكمي على فرد)، فيلزم التكرار، وهو على خلاف الأصل.
فيتعين أن (اللام) في الواحد لحقيقة الجنس، فيكون في الجماعة كذا تحصيلا للمناسبة بين اللفظين، يحصل في هذا الكلام فائدة زائدة؛ لأن معنى الكلام -حينئذ -متى حكمت على حقيقة هى واحد، فقد حكمت على حقيقة هي جماعات من غير إشعار بعموم فيهما، وإلا ضاعت المناسبة، ولزم التأكيد، فيبطل الاستدلال بالحديث، على عموم الناس، إلى قيام الساعة بحكمه عليه السلام -على واحد؛ لأن (اللام) عن ذلك الحكم، أنه حكم على جماعة، فيصدق بثلاثة إجماعًا، ويبقى ما عداه مسكوتًا عنه.
قوله: (يمتنع ثبوت الحرمة في فرد من أفراد زينة الله؛ لأن المطلق جزء من المقيد):
قلنا: ظاهر كلامكم يقتضى أن لفظ زينة الله -هاهنا -مطلق مع أنه اسم جنس أضيف؛ فيعم كقوله عليه السلام: (هو الطهور ماؤه، الحل ميتته)، فعم بالإضافة في اسم الجنس جميع أفراد ميتات البحر، ومياهه.
وعلى هذا يكون الإمكان ثابتًا في كل فرد من أفراد الزينة باللفظ، ولا حاجة إلى هذا البحث.
بل الحاجة إليه تبطل المقصود من جهة أنا إذا جعلناه مطلقًا، فلا يلزم من عدم تحريم المطلق وإباحته أنواعه وأفراده، كما يصدق أن الله -تعالى -حرم مطلق الحيوان الذي هو المشترك بين أنواعه.
ومع ذلك يناقضه تحريم بعض الأنواع من الخنزير، وغيره.
ولذلك لم يحرم الله -تعالى -مطلق المشروب، وحرم بعض أنواعه الذي هو الخمر. وهذه قاعدة مطردة، وهى أنه لا يلزم من عدم تحريم الأعم عدم تحريم الأخص، ولا من تحرم الأخص تحريم الأعم، ويلزم من تحريم الأعم تحريم الأخص.
وما نحن في من باب عدم تحريم الأعم لا من تحريم الأعم، فلا يفيد البحث شيئًا، ويرد المنع في قولكم: إن المطلق إذا لم يحرم لم يحرم المقيد، بل يحرم المقيد مع إباحة المطلق، ولم يلزم من تحريم الأم والبنت تحريم مطلق المرأة، بل التحريمات تنشأ عن الخصوص.
أما إذا سلكتم طريق العموم اللفظي المستفاد من إضافة اسم الجنس، اندفع هذا السؤال.
غير أن هاهنا احتمالاً أوردته في باب العموم، وهو أن اسم الجنس قد لا يصدق على الكثير نحو: الدرهم، والدينار، والرقبة، فلا يقال: للكثير من الدراهم والدنانير والرقاب: درهم، ولا دينار، ولا رقبة.
وقد يصدق على الكثير، نحو: الماء، والمال، واللحم، والعسل، فيقال للكثير: ماء، ومال، وعسل، فأمكن أن يقال: اسم الجنس إذا أضيف إنما يعم إذا كان يصدق على الكثير والجمع، أما ما لا يصدق، فلا.
لكن هذا تفصيل لم أر أحدًا تعرض له، وفي نفسي منه احتمال.
وقد تقدم النقل -في باب العموم -عن الغزالي -في المحدد بالتاء، وأنه لا يعم إذا عرف بـ (اللام)، لأنه يختص بالواحد، فهو يقوى هذا الاحتمال في الإضافة -كما نقله -في تعريف (اللام).
فعلى تقدير: أن هذه الصيغة ليست للعموم؛ لأن مفردها الذي هو رتبة لا يصدق على جماعة الرتبات، يبطل البحث، ويعسر التقرير؛ لأنه يكون -حينئذ -مطلقًا، فيرد عليه ما تقدم.
قوله: (وإذا انتفت الحرمة بالكلية ثبتت الإباحة):
قلنا: لا نسلم؛ لأن عدم الحرمة أعم، ولا يلزم من ثبوت الأعم، ثبوت الأخص؛ فقد أجمعنا على عدم ثبوت التحريم في النائم، والساهي، والبهائم.
ومع ذلك لم يخاطبوا بالإباحة، وعدم الحرمة ثابت قبل الشرع في أفعال جميع المكلفين، ولم تثبت الإباحة قبل الشرع على الصحيح؛ بل مطلق الحكم منفى.
قوله: (إن لله -تعالى -لما تواعدنا بالعقاب كان مشتملاً على الضرر):
قلنا: ويمكن أن يقال -على أصولنا نحن -أيضًا: إن النهى، والتوعيد
يتبعان المفاسد، والمفاسد ضرر على المكلف غير العقوبة التابعة للمخالفة في النهى، ويستوي في تخريج السؤال مذهبنا، ومذهب المعتزلة.
غير أن المفسدة عندهم يكون دفعها وجوبًا، وعندنا يكون دفعها تفضلاً، ويكفى في القياس استواء الفرع، والأصل في الوجه المقصود، لكن ما ذكره الخصم معنى مناسب مزاحم في صورة أصل القياس: أمكن أن يكون هو العلة، أو جزء العلة، فيبطل القياس؛ لعدم تعين الجامع، فإن كون العبد يقبح منه ذلك في عرضه، ومروءته عادة -أمكن أن تكون الإباحة لدفع هذه المفسدة الداخلة على العرض والمروءة، وهذه العلة منتفية في حق الله -تعالى -فيبطل القياس.
قوله: (العبث لا يليق بالحكيم):
قلنا: هذا إنما يتم على قاعدة المعتزلة في الحسن والقبح.
أما عندنا: فلا يجب تعليل أفعاله -تعالى -بالأغراض، فله -تعالى -أن يفعل لمصلحة، وليس ذلك مستحيلاً عليه -تعالى -وحكمته -تعالى -التعلق، والإرادة الواجبة النفوذ، والقدرة العاملة التأثير، ونحو ذلك من صفاته العلى، لا باعتبار مراعاته للمصالح، وإن كان -تعالى -لم يبعث الشرائع إلا مصالح، على أنها على سبيل التفضل، فنحن نساعد المعتزلة في إطلاق الحكمة، والحكم عليه، ونخالفهم في التفسير؛ فإنه يفسرون ذلك بمراعاة المصالح وجوبًا، ونحن نمنعه.
وأما قوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا} [المؤمنون: 115]، {ما خلقناهما إلا بالحق} [الدخان: 39]، وحيث تكرر ذكر الحق في الخلق فمعناه التكليف، أي: ما خلقناهما إلا للتكليف.
وخلق السموات والأرض؛ ليكلفنا بمعرفته بسببها أي: يستدل بها على
ما كلفنا بمعرفته، وقد صرح بذلك في قوله تعالى:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56].
قال ابن عباس: لآمرهم بعبادتي.
والتكليف غير إباحة المنافع، فلا يكون في هذه الآيات حجة على هذا التقدير.
قوله: (هذا الكلام لا يتم إلا مع الاعتزال):
قد تقدم التنبيه عليه.
قوله: (إذا حرق داره يقال: أضر به، وإن لم يشعر بذلك):
قلنا: إنما سموه إضرارًا؛ لأنه بحيث إذا شعر به تضرر وانغم، وأنه لو احتاج لداره لم يجدها.
أما لو فرضناه لا يحتاج إلى داره ألبتة، ولا يعرض له ذلك، فلا نسلم أنه يصدق عليه الإضرار.
قوله: (إذا حزن انعصر القلب):
تقريره: أن النفس مجبولة على الهرب من المؤذى، فإذا استشعرت المؤذى، أو المخوف، رب الحبار الغريزي، والدماء، والأرواح، لمجارى العادي إلى باطن الجسد.
ولهذا قيل: صفرة الوجل؛ لأن الوجل: الخوف، فيصفر ظاهر الجسد بخلوه من الدماء بسبب الهروب من المنافي، وينعصر الجسم كله إلى داخل.
عكسه الغضب: يبرز النفس لطلب الانتصار، فتبرز الدماء، والأرواح، والقوى إلى خارج في مجارى العادات؛ لأنها أجناد النفس، فيحمر ظاهر الجسد، وتنفتح الأوردة.
وحالة الخجل مركبة من الحالين؛ لأنه يذكر المؤلم المخجل، فيصفر، ثم يستقبله، أو يطلب الانتصار لنفسه، فيحمر، فيبقى في الخجل يحمر، ويصفر. وفي الوجل يصفر فقط، وفي الغضب يحمر فقط.
قوله: (البائع فوت على نفسه النفع، وكذلك الواهب):
قلنا: وهو من حيث هو كذلك ضرر، وإنما لم يظهر الألم، ولم يوجد، لوجود معارض راجح عنده، وهو الثمن في البيع، والمودة في الهبة، والثواب في الصدقة، ولا يلزم من انتفاء الشيء لوجود معارض ألا يكون نفسه موجودًا.
قوله: (في قوله عليه السلام: (لا ضرر ولا ضرار في الإسلام):
قلنا: هذه صيغة الخبر، واختلف: هل هما عبارتان مترادفتان لمعنى واحد، أو الضرر للإنسان في نفسه والإضرار بغيره، فيكونان متباينين، وقيل بالعكس وقوله عليه السلام (في الإسلام) يمكن أن يكون لفظ (في) للظرفية، أي: لم يقع هذا في الشريعة؛ فيحصل مقصود المصنف، ويمكن أن يكون للسببية، أي: لا يضر أحد بسبب الإسلام، ويكون هذا من باب الموادعة التي نسختها آية السيف، ويكون الأول راجحًا لوجهين:
الأول: أن ظاهر (في) الظرفية، دون السببية، بل السببية أنكرها جماعة كما تقدم في كتاب (اللغات).
والثاني: أن يلزم النسخ، وعلى الأول لا يلزم، لكن يلزم التخصيص؛ فإن المشروعات في الإسلام من الحدود، والتعاذير، والقصاص، والغرامات، والجاد، وبذل النفس والمال، ومقاومة السلطان الجائر، ونحو ذلك كلها أضرار مشروعة، لكن التخصيص أولى من النسخ، فهذه ى المباحث التي يشير إليها في الخلافيات سؤالاً وجواباً.