الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة التاسعة
في المصالح المرسلة
اعلم أن المصالح بالإضافة إلى شهادة الشرع ثلاثة أقسام:
أحدها: ما شهد الشرع باعتباره، وهو: القياس الذي تقدم شرحه.
وثانيها: ما شهد الشرع ببطلانه؛ مثاله قول بعض العلماء لبعض الملوك، لما جامع في نهار رمضان: عليك صوم شهرين متتابعين، فلما أنكر عليه؛ حيث لم يأمره بإعتاق رقبةٍ، قال: لو أمرته بذلك، لسهل عليه، ولاستحقر إعتاق رقبة في قضاء شهوته.
واعلم أن هذا باطل؛ لأنه حكم على خلاف حكم الله تعالى؛ لمصلحة تخيلها الإنسان بحسب رأيه، ثم إذا عرف ذلك من جميع العلماء، لم تحصل الثقة للملوك بفتواهم، وظنوا أن كل ما يفتون به، فهو تحريف من جهتهم بالرأى.
القسم الثالث: ما لم يشهد له بالاعتبار، ولا بالإبطال نص معين، فنقول: قد ذكرنا في كتاب القياس: أن المناسبة: إما أن تكون في محل الضرورة، أو الحاجة، أو التتمة: فقال الغزالي رحمه الله: أما الواقع في محل الحاجة، أو التتمة، فلا يجوز الحكم فيها بمجرد المصلحة؛ لأنه يجري مجرى وضع الشرع بالرأي، وأما الواقع في رتبة الضرورة، فلا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد.
ومثاله: أن الكفار إذا تترسوا بجماعة من أساري المسلمين، فلو كففنا عنهم، لصدمونا، واستولوا على دار الإسلام، وقتلوا كافة المسلمين، ولو رمينا الترس، لقتلنا مسلمًا لم يذنب؛ وهذا لا عهد به في الشرع.
ولو كففنا لسلطنا الكفار على جميع المسلمين، فيقتلونهم، ثم يقتلون الأساري.
فيجوز أن يقول قائل: هذا الأسير مقتول بكل حالٍ، فحفظ كل المسلمين أقرب إلى مقصود الشرع من حفظ المسلم الواحد.
قال: وإنما اعتبرنا هذه المصلحة؛ لاشتمالها على ثلاثة أوصافٍ، وهي: أنها ضرورية، قطعية، كلية.
واحترزنا بقولنا: (ضرورية) عن المناسبات التي تكون في مرتبة الحاجة، أو التتمة.
وبقولنا: (قطعية) عما إذا لم نقطع بتسلط الكفار علينا، إذا لم نقصد الترس، فإن هاهنا: لا يجوز القصد إلى الترس، وكذلك: قطع المضطر قطعة من فخذه لا يجوز؛ لأنا لا نقطع بأنه يصير ذلك سببًا للنجاة، وبقولنا:(كلية) عما لو تترس الكافر في قلعة بمسلمٍ، فإنه لا يحل رمي الترس؛ إذ لا يلزم من عدم استيلائنا على تلك القلعة فساد يعم كل المسلمين.
وكذا: إذا كان جماعة في سفينة، ولو طرحوا واحدًا، لنجوا، وإلا، غرقوا بجملتهم، فهاهنا لا يجوز؛ لأن ذلك ليس أمرًا كليا؛ فهذا محصل ما قاله الغزالي رحمه الله.
ومذهب مالك رحمه الله: أن التمسك بالمصلحة المرسلة جائز.
واحتج عليه بأن قال: كل حكمٍ يفرض: فإما أن يستلزم مصلحة خاليةً عن المفسدة، أو مفسدةً خالية عن المصلحة، أو يكون خاليًا عن المصلحة والمفسدة بالكلية، أو يكون مشتملاً عليهما معًا:
وهذا على ثلاثة أقسامٍ: لأنهما إما أن يكونا متعادلين، وإما أن تكون المصلحة راجحة، وإما أن تكون المفسدة راجحة، فهذه أقسام ستة:
أحدها: أن يستلزم مصلحة خالية عن المفسدة، وهذا لابد وأن يكون مشروعًا؛ لأن المقصود من الشرائع رعاية المصالح.
وثانيها: أن يستلزم مصلحة راجحة، وهذا أيضًا لابد وأن يكون مشروعًا؛ لأن ترك الخير الكثير، لأجل الشر القليل - شر كثير.
وثالثها: أن يستوى الأمران، فهذا يكون عبثًا؛ فوجب ألا يشرع.
ورابعها: أن يخلو عن الأمرين؛ وهذا أيضًا يكون عبثًا؛ فوجب ألا يكون مشروعًا.
وخامسها: أن يكون مفسدةً خالصة؛ ولا شك أنها لا تكون مشروعة.
وسادسها: أن يكون ما فيه من المفسدة راجحًا على ما فيه من المصلحة؛ وهو أيضًا غير مشروعٍ؛ لأن المفسدة الراجحة واجبة الدفع بالضرورة.
وهذه الأحكام المذكورة في هذه الأقسام الستة: كالمعلوم بالضرورة أنها دين الأنبياء؛ وهي المقصود من وضع الشرائع؛ والكتاب والسنة دالان على أن الأمر كذلك تارةً بحسب التصريح، وأخرى بحسب الأحكام المشروعة؛ على وفق هذا الذي ذكرناه.
غاية ما في الباب: أنا نجد واقعة داخلة تحت قسمٍ من هذه الأقسام، ولا يوجد لها في الشرع ما يشهد لها بحسب جنسها القريب؛ لكن لابد وأن يشهد الشرع بحسب جنسها البعيد على كونه خالص المصلحة، أو المفسدة، أو غالب المصلحة، أو المفسدة؛ فظهر أنه لا توجد مناسبة، إلا ويوجد في الشرع ما يشهد لها بالاعتبار: إما بحسب جنسه القريب، أو بحسب جنسه البعيد.
إذا ثبت هذا، وجب القطع بكونه حجة؛ للمعقول والمنقول:
أما المعقول: فلأنا إذا قطعنا بأن المصلحة الغالبة على المفسدة - معتبرة قطعًا عند الشرع، ثم غلب على ظننا أن هذا الحكم مصلحته غالبة على مفسدته - تولد من هاتين المقدميتن ظن أن هذه المصلحة معتبرة شرعًا؛ والعمل بالظن واجب، لقوله عليه الصلاة والسلام:(أقضى بالظاهر). ولما ذكرنا أن ترجح الراجح على المرجوح من مقتضيات العقول؛ وهذا يقتضي القطع بكونه حجة.
وأما المنقول: فالنص، والإجماع.
أما النص: فقوله تعالى:} فاعتبروا {أمر بالمجاوزة، والاستدلال بكونه مصلحة على كونه مشروعًا مجاوزة؛ فوجب دخوله تحت النص.
وأما الإجماع: فهو أن من تتبع أحوال مباحثات الصحابة، علم قطعًا أن هذه الشرائط التي يعتبرها فقهاء الزمان في تحرير الأقيسة، والشرائط المعتبرة في العلة، والأصل، والفرع - ما كانوا يلتفتون إليها؛ بل كانوا يراعون المصالح؛ لعلمهم بأن المقصد من الشرائع رعاية المصالح؛ فدل مجموع ما ذكرنا على جواز التمسك بالمصالح المرسلة.
المسألة التاسعة
في المصالح المرسلة
قال القرافي: قوله: (ومن المصالح ما شهد الشرع ببطلانه مثاله: إفتاء
...............................................................
...................................................................
............................................................
الملك في إفساد صوم رمضان شهرين متتابعين؛ إذ لو أفتى بعتق رقبة، لسهل عليه ذلك):
قلنا: هذا المثال قد يتخيل فيه أنه ليس مما أبطله الشرع؛ لقيام الفارق بين الملوك وغيرهم، وأن الكفارة إنما شرعت زجرًا، والملوك لا تنزجر بالإعتاق، فتعين ما هو زجر في حقهم.
فهذا نوع من النظر المصلحي الذي لا تأباه القواعد.
وأظهر منه انعقاد الإجماع على عدم منع زراعة الكرم، وإن أدى المنع لعدم الخمر، وعدم منع الاشتراك في المساكن، وإن أدى المنع لعدم الزنا المتوقع من قرب الدار، فسد ذريعة الخمر، والزني مصلحتان، وقد ألغيتا هاهنا إجماعًا.
قوله: (لا نحكم بالمصلحة المرسلة في محل الحاجة، والتتمة؛ لأنه إثبات شرع بالرأي):
قلنا: عليه سؤالان:
أحدهما: المنع، بل ما ثبت ذلك إلا باجتهاد صحيح، وأن الاستقراء دل على أن الشرائع مصالح، وأن الرسل عليهم السلام إنما بعثوا بالمصالح ودرء المفاسد، فمن أثبت ضرورة، أو حاجة، أو تتمة بالمصالح، فقد اعتمد على قاعدة الشرائع، فلا يكون إثباتًا للشرع بالهوى.
وثانيهما: أنه إن كان إثباتًا بالهوى، فينبغي أن يمنع ذلك في الضرورة بطريق.
الأولي؛ فلأن الضروريات أهم الديانات، فإذا منعنا اتباع الهوى فيما خف أمره أولى أن نمنعه فيما عظم أمره.
قوله: (إن كان مفسدة خالصة، أو راجحة، فهو غير مشروع):
قلنا: هذه العبارة عليها مناقشة؛ لأن المشروع أعم من المأمورات والمباحات؛ لأن المحرمات، والمكروهات مشروعة، بل ينبغي أن نقول: لا يكون مأذونًا في فعلها، بل مطلوبه العدم، فتكون مشروعة بالنهي، لا بالأمر والإذن.
قوله: (استقراء أحوال الصحابة يقتضي أنهم كانوا إنما يعتبرون المصالح، ولا يعرجون على الأصل، والفرع، وهذه الشرائط):
تقريره: أنهم رضي الله عنهم حددوا أمورًا بالمصالح المرسلة، وأجمعوا عليها:
ومنها: تجديد ولاية العهد من الصديق لعمر رضي الله عنهما.
ومنها: جمع القرآن، وتعيين الوقت الذي أخرجت فيه اليهود من جزيرة العرب؛ فإن النص إنما دل على أنه لا يبقي دينان في جزيرة العرب مطلقًا، أما تعين هذا الوقت لإخراجهم، فللمصلحة الموجبة لإبقائهم أولاً، وإخراجهم فيه.
ومنها: تدوين القرآن في زمان عمر رضي الله عنه.
ومنها: جعل أذانين للجمعة في زمن عثمان رضي الله عنه.
ومنها: توسيع مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذ الأوقاف المجاورة له، وضمها إليه، وإبطال الوقفية فيها، فعله - عثمان رضي الله عنه وجمع عمر رضي الله عنه الناس على أبي في قيام رمضان.
ومنها: الشورى في أمور الإمامة، فعلها - عمر رضي الله عنه في
سنته، فمن اتفقوا عليه كان الخليفة، وهي غير البيعة والعقد.
ومنها: قضي عمر رضي الله عنه بأن من اتجر من أهل (المدينة) بالزيت، والطعام إلى (المدينة) يخفف عنه، بخلاف ما يتجر فيه من غيرهما؛ توسعة على أهل (المدينة) في الطعام، وترغبة لأهل الذمة في حمله.
ومنها: تقدير الجزية بأربعة دنانير، وأنواع من الطعام، والضيافة، وغيرها، قدره عمر رضي الله عنه.
ومنها: أن عمر رضي الله عنه كان يأكل الشعير، ويفرض لعامله نصف شاة.
وأمور كثيرة لا تعد ولا تحصى لم يكن في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم شيء منها، بل اعتمد الصحابة فيها على المصالح مطلقًا، سواء تقدم لها نظير أم لا؟.
وهذا يفيد القطع باعتبار المصالح المرسلة مطلقًا كانت في مواطن الضرورات، أو الحاجات، او التتمات.
(تنبيه)
قال التبريزي: عند إمعان النظر ينكشف الصواب في هذا؛ فإن كل مصلحة ليست مطلوبة بكل طريق، ولا بواسطة كل حكم، فالمال المحفوظ يحفظ عن السارق بقطع يده، بجلد ظهره، بحبسه، بتغريمه.
لا سبيل لتعيين شيء من ذلك بالرأي، ثم مقصود الحفظ لا يختلف بأن يكون الأخذ سرقة، أو مكابرة من غير إبطال الحرز، سواء له أو بانفراد أو أتلفه في الحرز، أو أخرجه، والحكم مختلف.
فإذن الحكم الذي يثبته المجتهد لم يكن ورد الشرع به أصلاً، فلا سبيل إلى اختراعه، وإن ورد به الشرع.
.........................................
أنواع شهادة الحكم باعتبار المعنى.
وأما صورة التترس، فحفظ الإسلام، وقهر الكفار - مقصود مطلقًا بأدلة قاطعة لا تحتاج إلى استشهاد بأصل، لكن عارض تحصيل هذا المقصود الإفضاء إلى سفك جم امرئ مسلم لم يذنب، وهذا أيضًا مقصود الاجتناب بأدلة لا شك فيها.
وعند تعارض الأدلة: يجب العمل بالراجح المتعين بأدلة، سنها سيرة الصحابة رضي الله عنهم ثم له شواهد، كقطع اليد المتآكلة حفظًا للجملة؛ بل جواز الفصد، والحجامة؛ فإنه إفساد للبعض لإصلاح الكل.
قال إمام الحرمين في (البرهان): (الاستدلال بهذه الطريقة أمر عسر، وهو معنى معتبر في الحكم مناسب له في مقتضى العقل من غير أصل متفق عليه مسند إليه هذا المناسب.
وقد منعه القاضي، وطوائف من المتكلمين، والأصحاب، وبالغ مالك في أعمال المصالح حتى أفرط، وخرج عن المصالح المألوفة في الشرع، وأفضى به ذلك إلى استحلال القتل، وأخذ المال، وأخذ بمصالح يقتضيها غالب الظن من غير مستند إلى أصل.
وجوز الشافعي ومعظم الحنفية اعتبار المصالح، وإن لم تستند إلى أصل متفق عليه، لكن بشرط عدم البعد، والإفراط، بل ما يشبه المصالح المعتبرة وفاقًا، فتصير المذاهب ثلاثة: المنع مطلقًا، بالاقتصار على المصالح التي لها أصول. والجواز مطلقًا، وإن بعدت المصالح، ما لم يعارضها كتاب أو سنة، أو إجماع.
ومذهب الشافعي: التوسط المتقدم، وهو اعتبار ما قرب من معاني الأصول.
احتج القاضي أبو بكر للمنع، بأن قبح هذا الباب ليس له أصل، ويفضى إلى أن يبقي أهل النظرية بمنزلة الأنبياء عليهم السلام ولم ينسب ما يرونه إلى الشريعة، وهو ذريعة إلى إبطال أئمة الشريعة، وإلى أن يفعل كل واحد ما يرى.
ثم يختلف ذلك باختلاف الزمان، والمكان، وأصناف الخلق، فيبطل ما درج عليه الأولون؛ ولأنه لو جاز ذلك لكان العاقل ذوي الرآي العالم بوجوه السياسات إذا راجع المفتين في حادثة، وأعلموه أنها ليست منصوصة، ولا أصل لها يضاهيها - يجوز له حينئذ العمل بالأصوب عنده، واللائق بطريق الاستطلاح، وهذا صعب لا يستجرئ عليه متدين، ولو ساغ ما قاله مالك، لاتخذ الناس أيام كسرى أنوشروان في العدل والسياسة معتبرهم، وهذا ممنوع، وتجرؤ على الانحلال عن الدين بالكلية.
وقد اعتمد ذلك في أقضية الصحابة - مع أنه لا يشق غبار فيها على أمور كان ينبغي له أن يتناولها:
فبلغه أن رجلاً مد يده إلى لحية عمر رضي الله عنه ليزيل شيئًا منها، فخشى عمر رضي الله عنه أن ذلك قصد به الاستهانة للأئمة.
فقال: إن لم ترني ما أحدثت، وإلا أبنت يدك.
فجعل مالك هذا أصلاً في إباحة الدماء بالنظر المصلحى، وبلغه عن عمر رضي الله عنه أنه شاطر عماله، فجعل ذلك أصلاً في استباحة الأموال بالنظر المصلحي.
وكان ينبغي له أن يؤول الأول، بأن مقصود عمر التعزير بالقول، دون تحقق الفعل، ويؤول الثاني، بأنه اطلع من عماله على أنهم تناولوا من بيت المال ما يستحقونه، وعمر رضي الله عنه أجل من أن يخفى عليه ذلك، وهم لم يكونوا معصومين.
قلت: أما قوله: (يصير العقلاء أنبياء)، إن أراد أنهم ورثتهم، فهو حق، وإن أراد أنهم يحكمون بالهوى، والعقل المحض، فلا نسلم أن الأنبياء كذلك، فلا معنى لهذا الكلام.
وأما قوله: العالم بالسياسة إذا أخبره المفتون بعدم الأصول، فيكون له الأخذ برأيه.
قلنا: لا يلزم ذلك؛ فإن مالكًا يشترط في المصلحة أهلية الاجتهاد؛ ليكون الناظر متكيفًا بأخلاق الشريعة، فينبو عقله وطبعه عما يخالفها، بخلاف العالم بالسياسات إذا كان جاهلاً بالأصول، فيكون بعيد الطبع عن أخلاق الشريعة، فيهجم على مخالفة أخلاق الشريعة من غير شعور.
وأما ما نقله من إباحة الدماء، والأموال بما قاله، فالمالكية لا يساعدونه على صحة هذا النقل عن مالكٍ.
وكذلك ما نقله عن الإمام في (البرهان) من أن مالكًا يجيز قتل ثلث الأمة لصلاح الثلثين.
المالكية ينكرون ذلك إنكارًا شديدًا، ولم يوجد ذلك في كتبهم، إنما هو في كتب المخالف لهم، ينقله عنهم، وهم لم يجدوه أصلاً.
وأما أخذ الأموال، ومصادرة العمال، فقد ذكر هذه المسألة أبو الوليد الطرطوشي، في كتابه ((سراج الملوك)، وقال:(إنما شاطر عمر عماله؛ لأنهم كانوا يتجرون بجاه العمل، والجاه للمسلمين)، فصار أصل المال
لمالكيه، وجاه المسلمين، كالعامل في القراض، فأشبه متجرهم القراض، فجعل قراضا، فكان النصف للمسلمين، والنصف لرب المال، وهذا مدرك حسن ليس فيه اتهام الصحابة - رضوان الله عليهم - بأخذهم مالا يستحقونه من بيت المال، ولم يخونوا، ولم يخرج مالك عن هذا.
ولا يوجد لمالك مصادرة أحد؛ لأنه متهم أصلاً.
وكذلك جعل الطرطوشي قول عمر لابنيه عبد الله، وعبيد الله، لما دفع لهما أبو موسى الأشعري من بيت مال (العراق) مالاً، قال: اتجرا فيه، وأديا رأس المال لعمر، وخذوا فائدته، فقال عمر:(أكل الجيش فعل معه ذلك)؟، فقال: لا، فقال: ابنا أمير المؤمنين أديا المال وربحه، فقال عبيد الله: يا أمير المؤمنين لو هلك المال ضمناه.
فقال: أديا المال وربحه.
وكثرت المراجعة بينهما، فقال له: عبد الرحمن بن عوفٍ: (اجعله قراضًا يا أمير المؤمنين، فجعله قراضًا)، فكانت هذه الواقعة أصلاً للقراض عند العلماء، حتى إنه لا يعلم في القراض كتاب، ولا سنة تدل على مشروعية القراض غير هذا الموضع.
غير أن الإجماع انعقد على جوازه بناء على هذه الواقع'، أو غيرها؟، الله أعلم بذلك، حكاه ابن حزم في كتابه (الإجماع)؟
وكيف يجعل عمر، أو جميع الصحابة الذين كانوا عنده ما كان قرضًا مضمونًا قراضًا غير مضمون؟ وكيف يحل أخذ نصف ربح مال القراض؟.
قال الطرطوشي: جعلوه قراضًا؛ لأن ولدى أمير المؤمنين إنما تمكنا من ذلك بجاه أبيهما الذي هو جاه المسلمين، فكان للمسلمين النصف - كما تقدم في العمال - حرفًا بحرف، وليس في هذا خروج عن القواعد، ولم يبح مالك دمًا ولا مالاً بغير دليل شرعي.