الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
النوع الخامس
القول في التراجيح الحاصلة بسبب كيفية الحكم
وهي على وجوه:
أحدها: القياس الذي يوجب حكمًا شرعيًا راجح على ما يوجب حكمًا عقليًا؛ لأن القياس دليل شرعي؛ فيجب أن يكون حكمه شرعيًا، إلا أنا لو قدرنا تقديم العلة المثبتة للحكم الشرعي على المثبتة للحكم العقلي - لزم النسخ مرتين، ولو قدرنا تقديم العقل، لزم النسخ مرة.
فإن قلت: (كيف يجوز أن يستخرج من أصلٍ عقلي علة شرعية؟!):
قلت: يجوز ذلك إذا لم ينقلنا عنه الشرع، فنستخرج العلة التي لأجلها لم ينقلنا عنه الشرع، أما إذا كان أحد الحكمين نفيًا، والآخر إثباتًا، وكانا شرعيين: فقيل: إنهما يتساويان؛ لكنا ذكرنا في (باب ترجيح الأخبار): أنه لابد وأن يكون أحدهما عقليًا.
وثانيها: الترجيح بكون أحد الحكمين في الفرع حظرًا، فذلك الحظر: إما أن يكون شرعيًا أو عقليًا: فإن كان شرعيًا: فهو راجح على الإباحة؛ لأنه شرعي، ولأن الأخذ بالحظر أحوط، وإن كان عقليًا، فكونه حظرًا جهة الرجحان، وكونه عقليًا جهة المرجوحية؛ فيجب الرجوع إلى ترجيحٍ آخر، ولابد في الحظر والإباحة من كون أحدهما عقليًا؛ على ما تقدم.
وثالثها: أن يكون حكم إحدى العلتين العتق، وحكم الأخرى الرق: فالمثبتة للعتق أولى؛ لأن للعتق مزيد قوةٍ، ولأنه على وفق الأصل.
ورابعها: إذا كان حكم إحداهما في الفرع إسقاط الحد، وحكم الأخرى إثباته؛ فالمسقطة أولى؛ لأن ثبوته على خلاف الأصل، فإن قلت:(المثبت للعقوبات يثبت حكمًا شرعيًا، والدارئ يثبت حكمًا عقليًا، فالمثبت للحكم الشرعي أولى؟!):
الجواب: أن الشرع إذا ورد بالسقوط، صار السقوط حكمًا شرعيًا، ولذلك لا يجوز نسخه إلا بما ينسخ الحكم الشرعي.
وخامسها: الترجيح بكون أحد حكمى العلة أزيد من حكم الآخر؛ بأن يكون حكم أحدهما الندب، وحكم الآخر الإباحة، فالمثبت للندب أولى؛ لأن في الندب معنى الإباحة وزيادًة، فكانت أولى؛ إذ كانت الزيادة شرعية.
وسادسها: العلة إذا كان حكمها الطلاق، كانت راجحًة؛ لما ثبت من قوة الطلاق.
وسابعها: القياس على الحكم الوارد على وفق قياس الأصول - أولى من القياس على الحكم الوارد بخلاف قياس الأصول؛ وعلته كون الأول متفقًا عليه، والثاني مختلفًا فيه، ولأن الأول خالٍ عن المعارض، والثاني مع المعارض؛ فيكون الأول أولى.
وثامنها: القياس على أصلٍ أجمع على تعليل حكمه - أولى مما لا يكون كذلك، وعلته أن على التقدير الأول تكون إحدى مقدمات القياس يقينية، وهي كون الحكم في الأصل معللاً، فيكون ذلك القياس راجحًا على ما لا يكون شيء من مقدماته يقينيًا.
وتاسعها: الترجيح بشهادة الأصول للحكم، وقد يراد بها دلالة الكتاب،
والسنة، والإجماع؛ على ذلك الحكم، وهذه، وإن كانت صريحة، فهي الأصل في إثبات الحكم؛ فلا يجوز الترجيح بها، وإن مسها احتمال شديد، جاز ترجيح القياس بها.
وعاشرها: يقع الترجيح بقول الصحابي؛ لأنه أعرف بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك إذا عضدت العلة علة أخرى؛ كما ترجح أخبار الآحاد بعضها ببعضٍ.
وحادي عشرها: أن يلزم من ثبوت الحكم في الفرع محذور؛ كتخصيص عمومٍ، أو ترك العمل بظاهر، أو ترجيح مجازٍ على حقيقة، وفرق بين هذا الترجيح، وبين ما ذكرناه من شهادة الأصول؛ لأن الحكم الشرعي قد يكون بحيث يوجد في الشرع أصول تشهد بصحته، وأصول أخر تشهد ببطلانه، فالقوة الحاصلة بسبب وجود الأصول التي تشهد بصحته غير القوة الحاصلة بسبب عدم ما يشهد ببطلانه، ومن هذا الباب: أن يكون الحكم لازمًا للعلة في كل الصور، فإن من يجوز تخصيص العلة، يسلم أن العلة المطردة أولى من المخصوصة.
القول في التراجيح بكيفية الحكم
قال القرافي: قوله: (المثبت بحكم شرعي راجح على المثبت بحكم عقلي): تقريره: أن الحكم العقلي - هاهنا - براءة الذمة، ورفع التكليف في تلك الصورة مستفاد من البراءة، فالقياس حينئذ مولد لا منشئ، والأصل في الأدلة الشرعية أن تكون منشأة لحكم شرعي، ويرد عليه أنا قبل هذا القياس يجوز أن يرد الشرع بالتكليف هنالك.
وبعد القياس يقضي بعدم الورود، فقد حصل الإنشاء في أمر من قبل الشرع، ولأنا لا نرفع عدم الحكم بعد هذا القياس إلا بقياس أرجح منه.
وقبل ذلك كنا نثبت التكليف بأي قياس؛ فإن البراءة ترتفع بمطلق الدليل الشرعي.
والقصد أن يعلم أن هذا القياس أيضًا أثبت أمرًا شرعيًا، ولا ننازع في مرجوحيته بالنسبة إلى القياس الموجب للتكليف.
قوله: (الحظر مقدم على الإباحة):
قال القاضي عبد الوهاب في (ترجيح الأخبار): رجح قوم الحظر على الإباحة؛ بناًء على أن الإباحة حكم عقلي، وهذا ينظر فيه، فإن كانت الإباحة شرعية فهي أولى.
وليس كل إباحة تكون عقلية.
قلت: المدرك ليس متعينًا فيما ذكره القاضي، بل الحظر يعتمد المفاسد ودرء المفاسد أولى؛ ولأن الحظر مشتمل على زيادة، والمثبت للزيادة أولى.
وحكى القاضي في (الملخص) أنهما سواء عند أكثر الشافعية، وعيسي ابن أبان إذا كانا شرعيين قال: وكذلك النافي والمثبت أكثر الفقهاء على أن المثبت أولى.
قال: وينبغي التفصيل، إن كان النفي يرجع إلى حكم شرعي، فهما سواء.
وإن كان هو البقاء على حكم العقل، فالناقل أولى، وكذلك النافي للحد أولى عند أكثر أهل (العراق).
قال: والصحيح أن المثبت أولى؛ لإفادته حكمًا شرعيًا.
قوله: (يجوز أن يستخرج من أصل عقلي علة شرعية إذا لم ينقلنا عنه الشرع):
تقريره: أن براءة الذمة من التكليف في كثيرٍ من الصور تعلم بالمدارك الشرعية أن سببه استواء المصلحة والمفسدة فيه، أو عدمها، فإذا شاركها صورة أخرى في ذلك سوينا بينهما في الحكم.
لكن على هذا التقدير يبقي قول المصنف: (إذا لم ينقلنا عنه الشرع ضائعًا؛ فإن هذا المعنى معقول لنا، نقلنا عنه الشرع أم لا.
قوله: (إذا كان أحدهما نفيًا، والآخر إثباتًا، لابد وأن يكون أحدهما عقليًا):
تقريره: أنه يريد بالنفي التحريم، وبالإثبات الإيجاب، وبالعقل الإباحة، ونفي الحرج.
ولا شك أن المحرم لا حرج في تركه.
والواجب لا حرج في فعله، فصار نفي الحرج الذي هو لازم لكل واحدٍ منهما، إما في جهة العقل، أو الترك يوجب دخول الحكم العقلي فيهما من وجه، وقد تقدم في ترجيح الأخبار الكلام على هذا الموضع.
قال إمام الحرمين: لا معنى للترجيح بالإثبات؛ لأن النفي قد يكون أغلب على الظن، وبالعكس، فينبغي الترجيح بتتبع مسالك الشريعة، مع قطع النظر عن النفي والإثبات.
قوله: (الحظر في الفرع إما أن يكون شرعيًا أو عقليًا):
قلنا: كون الحظر عقليًا إنما يكون على مذهب المعتزلة، أما عندنا فلا.
قوله: (المسقطة للحد أولى":
قال الباجي المالكي في (الفصول): هما سواء.