الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسألة السادسة
مذهب الشافعي رضي الله عنه: أنه يجوز الاعتماد في إثبات الأحكام على الأخذ بأقل ما قيل
؛ فإنه حكى اختلاف الناس في دية اليهودي: فمنهم من قال: بمساواتها لدية المسلم، ومنهم من قال: هي نصف دية المسلم، ومنهم من قال: هي الثلث منها، فهو رضي الله عنه أخذ بالأقل.
واعلم أن هذه القاعدة مفرعة على أصلين: الإجماع، والبراءة الأصلية:
أما الإجماع: فلأنا لو قدرنا أن الأمة انقسمت إلى أربعة أقسامٍ:
أحدها: يوجب في اليهودي مثل دية المسلم، وثانيها: يوجب النصف، وثالثها: يوجب الثلث، ورابعها: لا يوجب شيئًا لم يكن الأخذ بأقل ما قيل واجبًا؛ لأن ذلك الأقل قول بعض الأمة؛ وذلك ليس بحجةٍ.
أما إذا لم يوجد هذا القسم الرابع، كان القول بوجوب الثلث قولاً لكل الأمة؛ لأن من أوجب كل دية المسلم، فقد أوجب الثلث، ومن أوجب نصفها، فقد أوجب الثلث أيضًا، ومن أوجب الثلث، فقد قال بذلك؛ فيكون إيجاب الثلث قولا قال به كل الأمة؛ فيكون حجة.
وأما البراءة الأصلية: فلأنها تدل على عدم الوجوب في الكل، ترك العمل به في الثلث، لدلالة الإجماع على وجوبه؛ فيبقي الباقي كما كان، ولهذه النكتة شرطنا في الحكم بأقل ما قيل عدم ورود شيءٍ من الدلائل السمعية؛ فإنه إن ورد شيء من ذلك، كان الحكم لأجله، لا لأجل الرجوع لأقل ما قيل؛ ولهذا
السر اختلف الناس في العدد الذي تنعقد به الجمعة، فقال قائلون: أربعون، وقال قائلون: ثلاثة.
فالشافعي رضي الله عنه لم يأخذ بأقل ما قيل؛ لأنه وجد في الأكثر دليلاً سمعيًا، فكان الأخذ به أولى من الأخذ بالبراءة الأصلية، وكذلك اختلفوا في عدد الغسل من ولوغ الكلب؛ فقال بعضهم: سبعة، وقال آخرون: ثلاثة فالشافعي رضي الله عنه لم يأخذ بالأقل؛ لأنه وجد في الأكثر دليلاً سمعيا.
فإن قلت: (لم لا يجوز أن يقال: (كان يجب الأخذ بأكثر ما قيل؛ لأنه قد ثبت في الذمة شيء واختلفت الأمة في الكمية؛ فقال قوم: هو كل الدية، وقال آخرون: بل نصفها، وقال آخرون: بل ثلثها، فإذا لم تحصل مع واحدٍ من هذه الأقوال دلالة سمعية، تساقطت.
ولا يحصل براءة الذمة باليقين إلا عند أداء كل دية المسلم؛ فوجب القول به؛ ليحصل الخروج عن العهدة بيقينٍ):
والجواب: أنه لما كان الأصل براءة الذمة، امتنع الحكم بكونها مشغولة إلا بدليل سمعي، فإذا لم يوجد دليل سمعي سوى الإجماع، والإجماع لم يثبت إلا في أقل المقادير - لم يثبت شغل الذمة إلا بذلك الأقل.
فإن قلت: (هب أنه لم يوجد دليل سوى الإجماع؛ لكنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول؛ فلعله ثبت في الذمة حق أزيد من أقل ما قيل، فإذا كان هذا الاحتمال قائمًا، لم يثبت الخروج عن العهدة باليقين، إلا بأكثر ما قيل):
قلت: لما لم يوجد سوى الإجماع، والإجماع لم يدل إلا على أقل ما قيل
فيه - كان الزائد على ذلك الأقل، لو ثبت، لثبت من غير دليلٍ؛ وذلك غير جائز؛ لأنه يصير ذلك تكليف ما لا يطاق.
وأيضًا: فإن الله تعالى تعبدنا بالبراءة الأصلية، إذا لم نجد دليلاً سمعيا يصرفنا عنها، فإذا لم يوجد دليل سمعي يدل على الزيادة، علمنا أن الله تعالى تعبدنا بالبراءة الأصلية؛ وحينئذٍ: يحصل القطع بأنه لا يجب إلا ذلك القدر الذي هو أقل المقادير.
(المسألة السادسة)
الأخذ بالأخف
يجوز الأخذ بالأخف
قال القرافي: قوله: (الثلث قال به كل الأمة): قلنا: عليه سؤالان:
الأول: أنه لم يقل به اقتصارًا لوجود الخلاف في الزائد، بل قال بثبوته من حيث الجملة.
الثاني: أنه على هذا التقدير المسند في هذه المسألة - الإجماع، والبراءة الأصلية، وكلاهما متفق على التمسك به، فلا معني لجعل هذه المسألة في المدارك المختلف في اعتبارها.