الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني
في المستفتي
قال الرازي: مسألة: يجوز للعامي أن يقلد المجتهد في فروع الشرع؛ خلافًا لمعتزلة بغداد، وقال الجبائي: يجوز ذلك فيما كان من مسائل الاجتهاد.
لنا وجهان:
الأول: إجماع الأمة قبل حدوث المخالف؛ لأن العلماء في كل عصرٍ لا ينكرون على العامة الاقتصار على أقاويلهم، ولا يلزمونهم أن يسألوهم عن وجه اجتهادهم.
الثاني: أن العامي إذا نزلت به حادثه من الفروع، فإما ألا يكون مأمورًا فيها بشيءٍ، وهو باطل بالإجماع؛ لأنا نلزمه إلى قول العلماء، والخصم يلزمه الرجوع إلى الاستدلال، وإما أن يكون مأمورًا فيها بشئ، وذلك: إما بالاستدلال، أو بالتقليد: والاستدلال: باطل؛ لأنه: إما أن يكون هو التمسك بالبراءة الأصلية، أو التمسك بالأدلة السمعية:
والأول باطل بالإجماع.
والثاني أيضًا: باطل؛ لأنه لو لزمه أن يستدل، لم يخل من أن يلزمه ذلك حين كمل عقله، أو حين حدثت الحادثة:
والأول باطل؛ لوجهين:
أحدهما: أن الصحابة ما كانوا يلزمون من لم يشرع في طلب العلم، ولم
يطلب رتبة المجتهد في أول ما يكمل عقله، وثانيهما: أن وجوب ذلك عليه يمنعه من الاشتغال بأمور الدنيا، وذلك سبب لفساد العالم.
والثاني أيضًا: باطل؛ لأنه يقتضي أن يجب عليه اكتساب صفة المجتهدين عند نزول الحادثة؛ وذلك غير مقدور له.
ولقائلٍ أن يقول على هذا الوجه: القائلون بأنه لا يجوز التقليد في الشرع لا يقولون بالإجماع، ولا بخبر الواحد، ولا بالقياس، ولا يجوزون التمسك بالظواهر المحتملة.
وإذا كان كذلك، سهل الأمر عليهم؛ فإنهم قالوا: قد تقرر في عقل كل عاقلٍ أن الأصل في اللذات الإباحة، وفي المضار الحرمة:
فإن جاء في بعض الحوادث نص قاطع المتن، قاطع الدلالة يوجب ترك ذلك الأصل العقلي - قلنا به.
وإن لم يوجد ذلك، وجب البقاء على حكم العقل، وإذا ثبت هذا: فالعامي، إذا وقعت له واقعة: فإما أن يكون فيه شيء من الذكاء، أو لا يكون؛ بل يكون في غاية البلادة: فإن كان فيه شيء من الذكاء، عرف حكم العقل فيه، وإن كان في غاية البلادة، نبهه المفتي على حكم العقل.
وليس لأحد أن يقول: الاشتغال بذلك يمنعه عن عمل المعاش؛ لأنه إذا جاز تكليفه بمعرفة الأدلة الدقيقة في مسائل الأصول، ولا يمنعه ذلك عن المعاش، فكيف تمنعه معرفة هذا القدر من طلب المعاش؟!.
ثم إذا عرف العامي حكم العقل، وأن ما في الواقعة نص يوجب ترك العمل
بحكم العقل، قاطع المتن، قاطع الدلالة - نبهه المفتي عليه، ولا حاجة في فهم مثل هذا النص إلى تدقيق يمنعه من عمل المعاش، وإن لم يوجد فيه مثل هذا النص، وجب عليه العمل بحكم العقل.
فثبت أن المنع من التقليد: إنما يصعب على قول من يوجب العمل بالقياس وخبر الواحد، أما من لا يقول بذلك، فلا صعوبة عليه ألتبة.
وأيضًا: فهذه الدلالة: لو صحت لوجب القول بجواز التقليد في مسائل الأصول؛ لأنا نعلم أن الوقوف على تلك الدلائل لا يحصل إلا بعد الكد الكثير، ونحن نعلم من حال الصحابة: أنهم ما كانوا يلومون من لم يتعلم علم الكلام في أول زمان بلوغه.
وأيضًا: الاشتغال بتحصيله يمنع من الاشتغال بأمر المعاش.
أجابوا: بأن الذي يجب على المكلف معرفة أدلة التوحيد والنبوة على طريق الجملة، لا على طريق التفصيل، ومعرفة تلك الأدلة على سبيل الإجمال أمر سهل هين، يحصل بأدني سبب؛ بخلاف الاجتهاد في فروع الشرع؛ فإنه لابد فيه من علومٍ كثيرةٍ، وتبحرٍ شديدٍ.
واعلم أن هذا الفرق: إنما يتلخص، إذا سلمنا لهم الفرق بين مباحث الجملة، ومباحث التفصيل.
وعندي أن هذا الفرق باطل، وذلك لأن الدليل، إذا كان مركبًا مثلاً من مقدمات عشرٍ، فالمستدل إن كان عالمًا بها بأسرها، وجب حصول العلم النظري له؛ لا محالة، وإن امتنعت الزيادة عليه؛ لأن تلك المقدمات العشر، إذا
كانت مستقلة بالإنتاج، فلو انضمت مقدمة أخرى إليها، استحال أن يكون له أثر ألبتة.
وأما إن لم يحصل العلم بأسرها؛ مثل أن يحصل العلم بتسع منها، ولم تكن المقدمة العاشرة معلومةً بالضرورة، ولا بالدليل، بل مقبولة؛ على سبيل التقليد - فتكون النتيجة المتولدة عن مجموع تلك العشر تقليدًا، لا يقينًا.
فثبت أن التمسك بالدليل لا يقبل الزيادة والنقصان ألبتة؛ مثاله أنهم يقولون: (صاحب الجملة يكفيه الاستدلال بحدوث الحوادث من البرق والرعد، والحر والبرد؛ على وجود الصانع):
فنقول: هذا لا يكفي؛ لأنا نقول: هذه الحوادث لابد لها من مؤثرٍ، وذلك المؤثر يجب أن يكون فاعلاً مختارًا.
أما المقدمة الأولي: فمعلومة للعوام.
وأما الثانية: فغير معلومة لهم؛ لأنه ما لم يثبت أن ذلك ليس أثرًا لمؤثرٍ موجب، لم يجب أن يكون إسناده إلى المختار، فإذا قطع العامي بأن ذلك المؤثر يجب أن يكون مختارًا؛ من غير دليلٍ عليه - كان مقلدًا، في هذه المقدمة وإذا كان مقلدًا فيها، لم يكن محققًا في النتيجة.
وأيضًا: إذا رأي حدوث فعل خارقٍ للعادة على يد مدعي النبوة، فلو قطع عند ذلك بنبوته، كان ذلك تقليدًا؛ لأن قبل الدليل يجوز أن يكون ذلك الحادث ليس فعلا لله تعالى، بل خاصية لنفس الرسول، أو خاصية لدواء، أو فعلاً من أفعال الجن، وبتقدير أن يكون فعلاً لله تعالى، لكن يجوز ألا يكون لله - تعالى - فيه غرض.
وإن كان له فيه غرض، جاز أن يكون ذلك الغرض شيئًا سوى التصديق، فلو قطع العامي بأن ذلك الفعل الخارق للعادة، لابد وأن يكون دالا على صدق المدعي؛ من غير دليل يدل على فساد هذه الأقسام - كان مقلدًا في اعتقاد هذه المقدمة؛ فلم يكن محققًا في النتيجة؛ فظهر بهذا فساد ما قالوا من الفرق بين صاحب الجملة، وبين صاحب التفصيل؛ وحينئذٍ: لا يبقي إلا أحد أمرين: إما أن يقال: بأن الإحاطة بأدلة الدين على تفصيلها وتدقيقها شيء سهل هين، وذلك مكابرة، وإما أن يقال: يجوز فيه التقليد، كما جوزوا في فروع الشرع التقليد؛ وحينئذٍ: لا يبقي بينهما فرق ألبتة.
واحتج منكرو التقليد في فروع الشرع؛ بأمورٍ:
أحدها: قوله تعالى:} وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون {.
وثانيها: أن الله تعالى ذم أهل التقليد بقوله تعالى:} إنا وجدنا آباءنا على أمة {.
وثالثها: قوله عليه الصلاة والسلام: (طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة) توافقنا على خروج بعض العلوم عن هذا العموم، فبقي العلم بفروع الشرع وأحكامه.
ورابعها: القول بجواز التقليد يفضي إلى بطلانه؛ لأنه يقتضي جواز تقليد من يمنع من التقليد، وما يفضي ثبوته إلى عدمه، كان باطلاً.
وخامسها: قوله عليه الصلاة والسلام: (اجتهدوا؛ فكل ميسر لما خلق له) أمر بالاجتهاد مطلقًا.
وسادسها: أن العامي، إذا قلد، لم يأمن من جهل المفتي وفسقه؛ فيكون فاعلاً للمفسدة.
وسابعها: لو جاز التقليد في فروع الشرع؛ لكان ذلك لأنه حصلت أمارات توجب ظن صدق المفتي، وهذا المعني قائم في أصول الدين؛ فوجب الاكتفاء بالفتوى في الأصول أيضًا.
والجواب عن الأول: أنه منقوض بكل ظن وجب العمل به؛ كما في أحوال الدنيا، وقيم المتلفات، وأروش الجنايات، وبخبر الواحد والقياس، إن سلموا جواز العمل بهما.
وعن السادس والسابع: أن تذكر الفرق الذي تقدم.
وأما الدليل على أن للعامي أن يقلد في مسائل الاجتهاد، وغير مسائل الاجتهاد: أنا لو كلفناه أن يفصل بين البابين، لكنا قد ألزمناه أن يكون من أهل الاجتهاد؛ لأنه إنما يفصل بينهما أهل الاجتهاد؛ فيعود المحذور المذكور.
واحتج المخالف: بأن ما ليس من مسائل الاجتهاد، فالحق فيها واحد، فلو قلدنا فيها، لم نأمن أن نقلد في خلاف الحق، وليس كذلك مسائل الاجتهاد؛ لأن كل قوم فيها حق.
والجواب: أنا لا نأمن أيضًا في مسائل الاجتهاد ألا يجتهد المفتي، أو يقصر في اجتهاده، أو يفتيه؛ بخلاف اجتهاده.
فإن قلتم: (إن مصلحة العامي هي أن يعمل بما يفتيه المفتي):
قلنا: وكذلك الأمر في تقليده فيما نحن فيه، وإن كان غير مصيبٍ.
مسألة: في شرائط الاستفتاء.
اتفقوا على أنه لا يجوز له الاستفتاء إلا إذا غلب على ظنه أن من يفتيه من أهل
الاجتهاد، ومن أهل الورع، وذلك إنما يكون إذا رآه منتصبًا للفتوى بمشهد الخلق، ويرى اجتماع المسلمين على سؤاله، واتفقوا على أنه لا يجوز للعامي أن يسأل من يظنه غير عالمٍ، ولا متدينٍ، وإنما وجب عليه ذلك لأنه بمنزلة نظر المجتهد في الأمارات.
ثم هاهنا بحث، وهو أن أهل الاجتهاد، إذا أفتوه: فإن اتفقوا على فتوى، لزم المصير إليها، وإن اختلفوا؛ فقال قوم: وجب عليه الاجتهاد في أعلمهم، وأورعهم؛ لأن ذلك طريق قوة ظنه (وهو) يجري مجرى قوة ظن المجتهد، وقال آخرون: لا يجب عليه هذا الاجتهاد؛ لأن العلماء في كل عصر لا ينكرون على العوام ترك النظر في أحوال العلماء.
ثم بعد الاجتهاد: إما أن يحصل ظن الاستواء مطلقًا، أو ظن الرجحان مطلقًا، أو ظن رجحان كل واحدٍ منهما على صاحبه من وجهٍ، دون وجهٍ:
فإن حصل ظن الاستواء مطلقًا، فهاهنا طريقان:
أحدهما أن يقال: هذا لا يجوز وقوعه؛ كما لا يجوز استواء أمارتي الحل والحرمة.
والآخر أن يقال: يسقط عنه التكليف؛ لأنا جعلنا له أن يفعل ما يشاء، وأما إذا حصل ظن الرجحان مطلقًا، تعين العمل به، وأما إذا حصل ظن رجحان كل واحد منهما على صاحبه، من وجهٍ دون وجهٍ، فهاهنا صور:
إحداها: أن يستويا في الدين، ويتفاضلا في العلم، فمنهم: من خيره، ومنهم: من أوجب الأخذ بقول الأعلم؛ وهو الأقرب لمزيته؛ ولهذا يقدم في إمامة الصلاة.
وثانيتها: أن يتساويا في العلم، ويتفاضلا في الدين، فهاهنا: وجب الأخذ بقول الأدين.
وثالثتها: أن يكون أحدهما أرجح في علمه، فقيل: يؤخذ بقول الأدين،
والأقرب: ترجيح قول الأعلم؛ لأن الحكم مستفاد من علمه، لا من ديانته.
فإن قلت: العامي ربما اغتر بالظواهر، وقدم المفضول على الفاضل، فإن جاز له أن يحكم بغير بصيرةٍ في ترجيح بعض العلماء على بعضٍ، فليجز له أن يحكم في نفس المسألة بما يقع له ابتداًء؛ وإلا فأي فرقٍ بين الأمرين؟.
قلت: من مرض له طفل، وليس له طبيب، فإن سقاه دواًء برأيه، كان متعديا مقصرًا، ولو راجع طبيبًا، لم يكن مقصرًا.
فإن كان في البلد طبيبان، وقد اختلفا في الدواء، فخالف الأفضل - عد مقصرًا، ثم إنه يعلم كون أحدهما أعلم من الآخر؛ بالأخبار، وبإذعان المفضول له، وبأمارات تفيد غلبة الظن، فكذلك في حق العلماء: يعلم الأفضل بالتسامع والقرائن، دون البحث عن نفس العلم، والعامي أهل له، فلا ينبغي أن يخالف الظن بالتشهي.
مسألة: الرجل الذي تنزل به الواقعة: فإما أن يكون عاميًا صرفًا، أو عالمًا لم يبلغ درجة الاجتهاد، أو عالمًا بلغ درجة الاجتهاد، فإن كان عاميًا صرفًا، حل له الاستفتاء، وإن كان عالمًا بلغ درجة الاجتهاد: فإن كان قد اجتهد، وغلب على ظنه حكم، فهاهنا أجمعوا على أنه لا يجوز له أن يقلد مخالفه، ويعمل بظن غيره.
أما إذا لم يجتهد: فهاهنا قد اختلفوا، فذهب أكثر أصحابنا إلى أنه لا يجوز
للعالم تقليد العالم ألبتة، وقال أحمد بن حنبلٍ وإسحاق بن راهويه وسفيان الثوري رحمهم الله بجوازه مطلقًا.
ومن الناس: من فصل، وذكر فيه وجوهًا:
أحدها: أنه يجوز لمن بعد الصحابة تقليد الصحابة، ولا يجوز تقليد غيرهم، وهو القول القديم للشافعي رضي الله عنه.
وثانيها: أنه يجوز تقليد العالم للأعلم، وهو قول محمد بن الحسن رحمه الله.
وثالثها: أنه له التقليد فيما يخصه، دون ما يفتي به.
ورابعها: أنه يجوز له التقليد فيما يخصه، إذا كان بحيث لو اشتغل بالاجتهاد، لفاته الوقت، وهو قول ابن سريجٍ.
لنا وجهان:
الأول: أن هذا المجتهد أمر بالاعتبار في قوله تعالى:} فاعتبروا يا أولي الأبصار {ولم يأت به، فيكون تاركا للمأمور به، فيكون عاصيًا، فيستحق النار، ترك العمل به في حق العامي؛ لعجزه عن الاجتهاد، فيبقي معمولاً به في حق المجتهد.
الثاني: أنه متمكن من الوصول إلى حكم المسألة بفكرته؛ فوجب أن يحرم عليه التقليد؛ كما في الأصول، والجامع وجوب الاحتراز عن الضرر المحتمل عند القدرة على الاحتراز عنه.
فإن قلت: (المعتبر في الأصول اليقين؛ وإنه لا يحصل بالتقليد؛ بخلاف
الفروع؛ فإن البغية فيها الظن، ويمكن حصوله بالتقليد؛ ولذلك جاز للعامي أن يقلد في الفروع، دون الأصول.
وأيضًا: فما ذكرتموه ينتقض بقضاء القاضي؛ فإنه لا يجوز خلافه، وإن كان متمكنًا من معرفة الحكم؛ فإنه لا معني للتقليد إلا وجوب العمل عليه من غير حجةٍ.
وينتقض أيضًا بمن دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه متمكن من الوصول إلى حكم المسألة؛ مع أنه يجوز أن يسأل من أخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قلت: أما الجواب عن الأول: فهو: أنا إنما أوجبنا على المكلف تحصيل اليقين؛ لأنه قادر، والدليل حاضر؛ فوجب عليه تحصيله؛ احترازًا عن الخطأ المحتمل، وهذا المعني حاصل في مسألتنا؛ لأن المكلف قادر، والدليل المعين للظن الأقوى حاصل؛ فوجب عليه تحصيله؛ احترازًا عن الخطأ المحتمل في الظن الضعيف.
وعن الثاني: أنه لما دلت الدلالة على أن الحكم الذي قضي به القاضي لا يمكنه نسخه بالاجتهاد، فلم يكن العمل به تقليدًا؛ بل عملاً بذلك الدليل.
وعن الثالث: أنه لا نسلم جواز الاكتفاء بالسؤال من غير الرسول صلى الله عليه وسلم عند القدرة.
واحتج المخالف بأمورٍ:
أحدها: قوله تعالى:} فاسألوا أهل الذكر، إن كنتم لا تعلمون {والعالم قبل أن يجتهد لا يعلم؛ فوجب أن يجوز له السؤال.
وثانيها: قوله تعالى:} أطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم {والعلماء من أولي الأمر؛ لأن أمرهم ينفذ على الأمراء والولاة.
وثالثها: قوله تعالى:} فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين {أوجب الحذر بإنذار من تفقه في الدين مطلقًا؛ فوجب على العالم قبوله؛ كما وجب على العامي ذلك.
ورابعها: إجماع الصحابة: روي أن عبد الرحمن بن عوفٍ قال لعثمان: (أبايعك على كتاب الله، وسنة رسوله، وسيرة الشيخين) فقال: (نعم) وكان ذلك بمشهد من عظماء الصحابة، ولم ينكر عليه أحد، فكان ذلك إجماعًا.
فإن قلت: (إن عليًا خالف فيه): قلت: إنه لم ينكر جوازه؛ لكنه لم يقبله، ونحن لا نقول بوجوبه؛ حتى يضرنا ذلك.
وخامسها: أنه حكم يسوغ فيه الاجتهاد؛ فجاز لمن لم يكن عالمًا به تقليد من علمه؛ كالعامي، والجامع وجوب العمل بالظن الحاصل بقول المفتي.
وسادسها: أجمعنا على أنه يجوز للمجتهد أن يقبل خبر الواحد عن مجتهدٍ آخر، بل عن عامي، وإنما جاز ذلك؛ اعتمادًا على عقله ودينه، فهاهنا: إذا أخبر المجتهد عن منتهي اجتهاده بعد استفراغ الوسع، والطاقة، فلأن يجوز العمل به كان أولى.
وسابعها: أن المجتهد، إذا أدي اجتهاده إلى العمل بفتوى مجتهد آخر، فقد حصل ظن أن حكم الله - تعالى - ذلك، وذلك يقتضي أن يحصل له ظن أنه لو لم يعمل به، لاستحق العقاب؛ فوجب أن يجب العمل به؛ دفعًا للضرر المظنون.
والجواب عن الأول: أن ظاهر الآية يقتضي وجوب السؤال، وإنه غير واجب بالاتفاق.
وأيضًا: فقوله:} إن كنتم لا تعلمون {يقتضي أن يجب على المجتهد بعد اجتهاده استفتاء غيره؛ لأنه بعد اجتهاده ليس بعالمٍ، بل هو ظان؛ وبالإجماع لا يجوز ذلك.
وأيضًا: فإنه أمر بالسؤال، وليس فيه تعيين ما عنه السؤال، فنحن نحمله على السؤال عن وجه الدليل.
وعن الثاني: أن الأصول دلت على وجوب الطاعة؛ لكنها لا تدل على وجوب الطاعة في كل شيءٍ، فنحن نحملها على وجوب الطاعة في الأقضية والأحكام؛ والدليل على أن الآية لا تتناول محل النزاع: أنها لو تناولته، لوجب ذلك التقليد، وبالإجماع: التقليد غير واجبٍ.
وعن الثالث: أن الآية تدل على وجوب الحذر عند إنذارٍ، لا عند كل إنذارٍ، ونحن نقول بالأول فإنا نوجب العمل بروايته.
وعن الرابع: أنه يحتمل أن يكون المراد من سيرة الشيخين طريقتهما في العدل، والإنصاف، والانقياد للحق، والبعد عن الدنيا.
وعن الخامس: أن الفرق هو أن العامي قاصر؛ فجاز له العمل بالتقليد، والعالم ليس بقاصرٍ.
وعن السادس: أن المفتي ربما بني اجتهاده على خبر واحدٍ، فإذا تمسك به المجتهد ابتداء كان الاحتمال فيه أقل مما إذا قلد فيه غيره.
وعن السابع: أن مجرد الظن واجب العمل به؛ لكن إذا لم يقم دليل سمعي يصرفنا عنه، وما ذكرناه من الدلائل السمعية يوجب العدول عن هذا الظن.
القسم الثاني في المستفتى
قال: القرافى: قوله: (لو صحت تلك الدلالة لوجب القول بجواز التقليد في مسائل الأصول؛ لأنا نعلم أن الوقوف على تلك الدلائل لا يحصل إلا بعد الكد الكثير):
قلنا: القائلون بأنه لا يجوز التقليد في أصول الدين، قالوا: يكتفي فيها بليل فرد على مطلب من حيث الجملة، دون الجواب عن الشبهات، ونحوها، والمطالب المكلف بها نحو أربعين مطلبًا، وأكثرها في الطباع، والمحتاج فيها إلى الفكر قليل، ولا يشغل ذلك عن المعاش.
ولا يقاس عليه الأدلة في الأحكام الشرعية الفروعية؛ فإنها تحتاج إلى
استعداد شديد في معرفة المصالح، والمفاسد، وتقديم بعضها على بعض، وذلك لا يحصل إلا بعد اشتغال كبير يحصل منه كيفية توجب فهم نفس الشارع في ذلك.
قوله: (الفرق بين التفصيل والإجمال باطل؛ لأن المقدمات إذا حصلت كلها حصل العلم، وإلا فلا):
قلنا: هذا لا ينفى الفرق؛ لأنهم يريدون بالإجمال: عدم التبحر، وعم استحضار الشبهات، والجواب عنها.
وبالتفصيل: الجواب عن الشبهات، والتوسع في قواعد تلك الأدلة، فما ذكرتموه هو الإجمال لا التفصيل.
قوله: (احتجوا بقوله تعالى: {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} [الأعراف: 33]:
قلنا: هذا محمول على أصول الديانات): جمعًا بينه وبين الأدلة الدالة على جواز التقليد، لاسيما وهو إجماع السلف، وهو الجواب الثاني.
وقوله: عليه السلام: (طلب العلم فريضة على كل مسلم، ومسلمة).
جوابه: أن طلب العلم قسمان: فرض عين، وفرض كفاية.
ففرض العين: قال الشافعي -رحمة الله -: (هو علمك بحالك التي أنت فيها).
فمن كان يباشر صرفًا وجب عليه أن يتعلم الأحكام المتعلقة بالصرف، وكذلك الإجارات، وغيرها من الحالات التي تعرض للإنسان.
وفرض الكفاية: هو ما يقع من الوقائع حيث فرض على الكفاية، غير أن فرض الكفاية واجب على الكل ابتداء هنا لخطاب المجهول، وقد تقدم في (الواجب المخير) الفرق بين خطاب المجهول والخطاب بالمجهول وهذان القسمان مجمع عليهما، والإجماع متى حصل في شيء صار معلومًا، فيكون العلم حاصلاً في القسمين لمن اتصف بهما.
والإجماع سابق على هذا الخلاف، فلا عبرة به.
أو نقول: هو محمول على قواعد العقائد؛ جمعًا بينه وبين الأدلة الدالة على الاستثناء.
قوله: (جواز التقليد يفضى إلى بطلانه؛ لأنه تقليد من يمنع التقليد؛ فيتناقض):
قلنا: إنما نقول بجواز التقليد بشرط عدم التناقض.
قوله: (وخامسها: قوله عليه السلام: (اجتهدوا فكل ميسر لما خلق له):
قلنا: المراد الاجتهاد في فعل الطاعات؛ لأن صدر الحديث يقتضيه؛ لقول الصحابة -رضوان الله عليهم -لرسول الله صلى الله عليه وسلم -لما سألوا عن القدر، فأخبرهم به عليه السلام -فقالوا: ففيم العمل؟ فقال عليه السلام: (اعملوا، وقاربوا، وسددوا؛ فكل ميسر لما خلق له).
وهو المراد بالاجتهاد -هاهنا - ولأنه مطلق؛ لأنه فعل في سياق الإثبات، فيكفى في العمل به صورة، ونحن قد عملنا به، إما في الأعمال الصالحة، وإما في أصول الديانات، وأيما كان فقد خرجنا عن عهدة هذا النص، ولم يبق فيه حجة.
قوله: (العامي لا يأمن جهل المفتى وفسقه):
قلنا: ظاهر الحال يأباه، وجاز ذلك، كما جاز للمجتهد أن يعمل بظواهر النصوص، مع احتمال النسخ، وغيره من الأمور العشرة التي تتوقف إفادة النصوص القطع عليها.
قوله: (وعن السادس):
قلنا: تقدمت سبعة حجاج للخصم، لم يجب إلا عن الأول، وذكر الجواب عن السادس، وإنما هو عن السابع، ولم يذكر بقية الأجوبة، وهذا خلل عظيم:
وكشفت عدة نسخ، فوجدتها هكذا، ولا أدرى هل ذلك من المصنف، أو من النساخ؟ والله أعلم بذلك.
قوله: (مسائل الاجتهاد كل قول فيها حق):