الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي قتل المؤتمن بالخرقانية ووقعة السودَان بَين القصرين وَغير ذَلِك
قَالَ الْعِمَاد وَشرع صَلَاح الدّين فِي نقص إقطاع المصريين فَقطع مِنْهُم الدابر من أجل من مَعَه من العساكر وَكَانَ بِالْقصرِ خصي يدعى مؤتمن الْخلَافَة متحكم فِي الْقصر فأجمع هُوَ وَمن مَعَه على أَن يكاتبوا الفرنج ويقبضوا على الأَسدِية والصلاحية لِأَن صَلَاح الدّين يخرج إِلَى الفرنج بِمن مَعَه فَيُؤْخَذ مَن بَقِي من أَصْحَابه بِالْقَاهِرَةِ وَيتبع من وَرَائه فَتكون عَلَيْهِم الدائرة فكاتبوا الفرنج وَاتفقَ أَن رجل من التركمان عبر بالبئر الْبَيْضَاء فَرَأى مَعَ إِنْسَان ذِي خلقان نَعْلَيْنِ جديين لَيْسَ بهما أثر مشي
فأنكرهما فَأَخذهُمَا وَجَاء بهما إِلَى صَلَاح الدّين ففتقهما فَوجدَ مُكَاتبَة الفرنج فيهمَا من أهل الْقصر يرجون بحركتهم حُصُول النَّصْر فَأخذ الْكتاب وَقَالَ دلوني على كَاتب هَذَا الْخط فدلوه على يَهُودِيّ من الرَّهْط فَلَمَّا أحضروه ليسألوه ويعاقبوه على خطه ويقابلوه نطق بِالشَّهَادَةِ قبل كَلَامه وَدخل فِي عصمَة إِسْلَامه ثمَّ اعْترف بِمَا جناه وشيده من الْأَمر وبناه وَأَن الْآمِر بِهِ مؤتمن الْخلَافَة وَإنَّهُ بَرِيء من هَذِه الآفة فَحسن السُّلْطَان إِسْلَامه وَثَبت إعتصامه وَعرف استسلامه وَرَأى إخفاء هَذَا السِّرّ واكتتامه
واستشعر الخصيّ العَصِيّ وخشي أَن تشقه على شقّ الْعَصَا العِصيّ فَمَا صَار يخرج من الْقصر مَخَافَة وَإِذا خرج لم يبعد مَسَافَة وَصَلَاح الدّين عَلَيْهِ مغضب وَعنهُ مغض لَا يَأْمر فِيهِ ببسط وَلَا قبض إِلَى أَن استرسل واستبسل وَظن أَن مَا نَسْله من الشَّرّ الْعَقِيم نصل وَكَانَ لَهُ قصر فِي قَرْيَة يُقَال لَهَا الخرقانية لخُرقه ورقع مَا يَتَّسِع عَلَيْهِ من خرقه وَهُوَ بِقرب قليوب فَخَلا فِيهِ يَوْمًا للذته وَلم يدْرِي أَنه يَوْم ذلته وانقضاء ساعاته بِانْقِضَاء دولته فأنهض إِلَيْهِ صَلَاح الدّين من أَخذ راسه وَنزع من جَاءَ بِهِ لِبَاسه وَذَلِكَ يَوْم الْأَرْبَعَاء الْخَامِس من ذِي الْقعدَة سنة أَربع فورد موارده مِن رَداه على أدون مشرع
قَالَ وَلما قتل غَار السودَان وثاروا وَكَانُوا أَكثر من خمسين ألفا وَكَانُوا إِذا قَامُوا على وَزِير قَتَلُوهُ واجتاحوه وأذلوه واستباحوه واستحلوه
فَحَسبُوا أَن كل بَيْضَاء شحمة وَأَن كل سَوْدَاء فَحْمَة فثار أَصْحَاب صَلَاح الدّين إِلَى الهيجاء ومقدمهم الْأَمِير أَبُو الهيجاء واتصلت الْحَرْب بَين القصرين وأحاطت بهم العسكرية من الْجَانِبَيْنِ ودام الشَّرّ يَوْمَيْنِ حَتَّى أحس الأساحم بالحين وَكلما لجؤوا إِلَى محلّة أحرقوها عَلَيْهِم وحووا ماحواليهم وأخرجوا إِلَى الجيزة وأذلوا بِالنَّفْيِ عَن مَنَازِلهمْ العزيزة وَذَلِكَ يَوْم السبت الثَّامِن وَالْعِشْرين من ذِي الْقعدَة فَمَا خلص السودَان بعْدهَا من الشدَّة وَلم يَجدوا الى الْخَلَاص سَبِيلا و {أَيْنَمَا ثقفوا أُخذوا وقتِّلوا تقتيلا}
وَكَانَت لَهُم على بَاب زويلة محلّة تسمى المنصورة وَكَانَت بهم المعمرة المعمورة فَأتي بنيانها من الْقَوَاعِد فَأَصْبَحت خاوية ثمَّ حرثها بعض الْأُمَرَاء واتخذها بستاناً فَهِيَ الْآن جنَّة لَهَا ساقية
قَالَ وَكَانَ قد وصل إِلَى صَلَاح الدّين قبيل هَذِه النّوبَة أَخُوهُ الْأَكْبَر فَخر الدّين شمس الدولة تورانشاه بن أَيُّوب أنفذه إِلَيْهِ نور الدّين من دمشق يشد أزره بِمصْر لما سمع بحركة الفرنج وَأهل الْقصر فوصل الْقَاهِرَة فِي ثَالِث ذِي القعده
قَالَ ابْن أبي طي وباشر بِنَفسِهِ وقْعَة السودَان هَذِه وَكَانَ لَهُ فِيهَا أثر عَظِيم وَمن عَجِيب مَا اتّفق أَن العاضد كَانَ يتطلع من المنظرة ويعاين الْحَرْب بَين القصرين فَقيل إِنَّه أَمر مَنْ بِالْقصرِ أَن يقذفوا العساكر الشامية بالنشاب وَالْحِجَارَة فَفَعَلُوا وَقيل إِن ذَلِك كَانَ عَن غير اخْتِيَاره فَأمر شمس الدولة الزراقين بإحراق منظرة العاضد فهمَّ أحد الزراقين بذلك وَإِذا بَاب الْمضرَّة قد فتح وَخرج مِنْهُ زعيم الْخلَافَة وَقَالَ أَمِير الْمُؤمنِينَ يسلم على شمس الدولة وَيَقُول دونكم العبيد الْكلاب أخرجوهم من بِلَادكُمْ وَكَانَت العبيد مشتدة الْأَنْفس بِأَن العاضد راضٍ بفعالهم فَلَمَّا سمعُوا ذَلِك فُتَّ فِي اعضادهم فجبنوا وتخاذلوا وأدبروا
وَمِمَّا كتبه الْعِمَاد على لِسَان غَيره إِلَى صَلَاح الدّين قصيدة مِنْهَا
(بِالْملكِ النَّاصِر استنارت
…
فِي عصرنا أوجه الْفَضَائِل)
(عليّ من حَقه فروض
…
شكرا لما جاد من نوافل)
(يُوسُف مصر الَّذِي إِلَيْهِ
…
تشد آمالنا الرَّوَاحِل)
(أجريت نيلين فِي ثراها
…
نيل نجيع ونيل نائل)
(وَمَا نفيت السودَان حَتَّى
…
حكَّمت الْبيض فِي الْمقَاتل)
(صيرت رحب الفضاء ضيقا
…
عَلَيْهِم كفة لحابل)
(وكل رَاء مِنْهُم كِرَاء
…
وَأَرْض مصر كَلَام وَاصل)
(وَقد خلت مِنْهُم المغاني
…
وأقفرت مِنْهُم الْمنَازل)
(وَمَا أصيبوا إِلَّا بَطلّ
…
فَكيف لَو أمطروا بوابل)
(والسود بالبيض قد أبيحوا
…
فَهِيَ نواز بهم نَوَازِل)
(مؤتمن الْقَوْم خَان حَتَّى
…
غالته من شَره غوائل)
(عاملكم بالخنا فأضحى
…
وَرَأسه فَوق رَأس عَامل)
(يَا مخجل الْبَحْر بالأيادي
…
قد آن أَن تُفتح السواحل)
(فقدِّس الْقُدس من خباث
…
أرجاس كفر غُتم أراذل)
قَالَ الْعِمَاد وَمِمَّا مدحت بِهِ صَلَاح الدّين فِي ذَلِك التَّارِيخ تهنئة لَهُ بِالْملكِ وتعزية بِعَمِّهِ
(أيا يُوسُف الْإِحْسَان وَالْحسن خير من
…
حوى الْفضل والإفضال وَالنَّهْي والأمرا)
(وَمن للهدى وَجه النجاح
…
بِرَأْيهِ تجلَّى وثغر الثغر من عزمه افترى)
(حمى حوزة الدّين الحنيف بحوزه
…
من الْخَالِق الحسني وَمن خلقه الشكرا)
(أَبوهُ أبي إِلَّا الْعَلَاء وَعَمه
…
بمعروفه عمَّ الورى البدو والحضرا)
(وَطَالَ الْمُلُوك شيركوه بِطُولِهِ
…
وَمَا شاركوه فِي الْعلَا فحوى الفخرا)
(بَنو الْأَصْفَر الإفرنج لاقوا ببيضه
…
وَسمر عواليه مناياهم حمرا)
(وَمَا ابيضَّ يَوْم النَّصْر واخضر روضه
…
من الخصب حَتَّى اسودَّ بالنقع واغبرَّا)
(رأى النَّصْر فِي تقوى الْإِلَه وكل من
…
تقوى بتقوى الله لَا يعْدم النصرا)
(وَلما رأى الدُّنْيَا بِعَين ملالة
…
أغذَّ من الأولى مسيرًا إِلَى الْأُخْرَى)
(وَقَامَ صَلَاح الدّين بِالْملكِ كافلا
…
وَكَيف ترى شمس الضُّحَى تخلف البدرا)
(وَلما صبَّتْ مصرُ إِلَى عصر يُوسُف
…
أعَاد إِلَيْهَا الله يُوسُف والعصرا)
(فَأجرى بهَا من راحتيه بجوده
…
بحاراً فسماها الورى أنملا عشرا)
(هُزِمْتُمْ جنود الْمُشْركين برعبكم
…
فَلم يَلْبَثُوا خوفًا وَلم يمكثوا ذعرا)
(وفرقتم من حول مصر جموعهم
…
بِكَسْر وَعَاد الْكسر من أَهلهَا جبرا)
(وأمَّنتم فِيهَا الرعايا بعدلكم
…
وأطفأتم من شَرّ شاورها الجمرا)
(بسفك دم حطتم دِمَاء كَثِيرَة
…
وحزتم بِمَا أبديتم الْحَمد والأجرا)
(وَمَا يرتوي الْإِسْلَام حَتَّى تغادروا
…
لكم من دِمَاء الغادرين بهَا غدرا)
(فصبوا على الإفرنج سَوط عَذَابهَا
…
بِأَن تقسموا مَا بَينهَا الْقَتْل والأسرا)
(وَلَا تهملوا الْبَيْت الْمُقَدّس واعزموا
…
على فَتحه غازين وافترعوا البكرا)
(تديمون بِالْمَعْرُوفِ طيِّب ذكركُمْ
…
وَمَا الْملك إِلَّا أَن تديموا لكم ذكرا)
(وَإِن الَّذِي أثرى من المَال مُقْتِرُ
…
وَإِن يُفْنِه فِي كسب محمدة أثري)
قَالَ وَكَثُرت كتب صَلَاح الدّين إِلَى أصدقائه مبشرة بِطيب أنبائه فَمِنْهَا كتاب ضمنه هَذَا الْبَيْت
(مَا كنت بالمنظور أقنع مِنْكُم
…
وَلَقَد رضيت الْيَوْم بالمسموع)
فَقلت فِي جَوَابه أبياتا مِنْهَا
(يَا هَل لسالف عيشتي بفنائكم
…
من عودة محمودة وَرُجُوع)
(قد غبتم عَن ناظري مَا أَذِنت
…
للقلب شمسُ مَرة بِطُلُوع)
(كنتُ المشفَّع فِي المطالب عنْدكُمْ
…
فَغَدَوْت أطلب طيفكم بشفيع)
(أَصبَحت أقنع بِالسَّلَامِ على النَّوَى
…
وبقربكم كم بتُّ غير قنوع)
قَالَ وَوصل أَيْضا مِنْهُ كتاب ضمنه هَذَا الْبَيْت
(وأنثر در الدمع من قبل أبيضا
…
وَقد حَال مذ بِنْتم فَأصْبح ياقوتا)
فنظمت فِي جَوَابه أبياتاً مِنْهَا
(هَنِيئًا لمصر حوز يُوسُف ملكهَا
…
بِأَمْر من الرَّحْمَن قد كَانَ موقوتا)
(وَمَا كَانَ فِيهَا قتلُ يُوسُف شاوراً
…
يماثل إِلَّا قتل دَاوُد جالوتا)
(وَقلت لقلبي أبشر الْيَوْم بالمنى
…
فقد نلْت مَا أملت بل حزت مَا شيتا)
قَالَ وَفِي هَذِه السّنة قتل العاضد بِالْقصرِ ابْني شاور الْكَامِل وأخاه يَعْنِي الطاري يَوْم الِاثْنَيْنِ الرَّابِع من جمادي الْآخِرَة وَذَلِكَ أَنه لما قتل شاور عاذوا بِالْقصرِ فَكَأَنَّمَا نزلُوا فِي الْقَبْر فَلَو أَنهم جاؤوا إِلَى أَسد الدّين سلمُوا وامتنعوا وعصموا فَإِنَّهُ سَاءَهُ قتل شاور وَإِن كَانَ أَمن بقتْله مَا حاذر
قلت الْكَامِل هُوَ شُجَاع بن شاور وَكَانَ لَهُ اخوان أَحدهمَا طي تقدم ذكر قتل ضرغام لَهُ وَالْآخر الطاري قَالَ الْفَقِيه أَبُو الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي السرُور الروحي فِي تَارِيخه أَخذ ابْنا شاور شُجَاع
الملقب بالكامل والطاري الملقب بالمعظم وَأَخُوهُ الملقب بِفَارِس الْمُسلمين فَقتلُوا ودير برؤوسهم
قَالَ لما وَلي صَلَاح الدّين سَاس الرّعية وَأظْهر لَهُم من الْعدْل مَا لم يعلموه فَاجْتمع أهل الْبِلَاد وكرهوه فأوقع براجلهم وأخرجهم من الْقَاهِرَة إخراجاً عنيفاً وَأخرج بعد ذَلِك فارسهم وشتت شملهم {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيةً بِما ظَلَمَوُا}
قَالَ وَلما كنت سنة سِتّ وَسِتِّينَ رفع جَمِيع المكوس صادرها وواردها جليلها وحقيرها وغزا بِلَاد الشَّام غزوتين
قَالَ ابْن شَدَّاد وَفِي الْمحرم من هَذِه السّنة توفّي ياروق الَّذِي تنْسب إِلَيْهِ الياروقية يَعْنِي الْمحلة الَّتِي بِظَاهِر حلب
قَالَ غَيره وفيهَا احْتَرَقَ جَامع حلب وأسواق الْبَز وَأخذ نور الدّين فِي عِمَارَته آخر السّنة