الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَا يقتل هَذَا الرّجل ولماذا اعتقل فوعظه السّلطان واستعطفه وسكنَّ غيظه وتعطفه وتلا عَلَيْهِ {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخْرى} وأُطلق سراحه وتمَّ فِي نجاته نجاحه
فصل فِي وثوب الحشيشية على السُّلْطَان مرّة ثَانِيَة على عزاز وَكَانَت الأولى على حلب
قَالَ الْعِمَاد وَفِي حادي عشر ذِي الْقعدَة قفز الحششية على السُّلْطَان لَيْلَة الْأَحَد وَهُوَ نَازل على عزاز وَكَانَ للأمير جاولي الْأَسدي خيمة قريبَة من المنجنيقات وَكَانَ السُّلْطَان يحضر فِيهَا كلّ يَوْم لمشاهدة الْآلَات وترتيب الْمُهِمَّات وحضّ الرّجال والحث على الْقِتَال وَهُوَ بارٌ ببث أياديه قارٌ على الدَّهْر بكف عواديه والحشيشية فِي زِيّ الأجناد وقُوف والرّجال عِنْده صُفُوف إِذْ قفز واحدٌ مِنْهُم فَضرب رَأسه بسكينه فعاقته صَفَائِح الْحَدِيد المدفونة فِي كمته عَن تَمْكِينه ولفحت المدية خدّه فخدشته فقوّى السُّلْطَان قلبه وحاش رَأس الحشيشي إِلَيْهِ وجذبه وَوَقع عَلَيْهِ وَركبهُ وأدركه سيف الدّين يازكوج فَأخذ حشاشة الحشيشي وبضعه وقطعه وَجَاء آخر فاعترضه الْأَمِير دَاوُد بن منكلان فَمَنعه وجرحه الحشيشي فِي جنبه فَمَاتَ بعد أَيَّام وَجَاء آخر فعانقه الْأَمِير عَليّ بن أبي الفوارس وضمه من تَحت إبطَيْهِ وَبقيت يدُ الحشيشي من وَرَائه لَا يتَمَكَّن من الضَّرْب
وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ كشف مَا عراه من الكرب فَنَادَى اقتلوني مَعَه فقد قتلني وأذهب قوّتي وأذهلني فطعنه نَاصِر الدّين بن شيركوه بِسَيْفِهِ وَخرج آخر من الْخَيْمَة مُنْهَزِمًا وعَلى الفتك بِمن يُعَارضهُ مُقْدما فثار عَلَيْهِ أهل السُّوق فقطعوه
وَأما السُّلْطَان فَإِنَّهُ ركب وَجَاء إِلَى سرادقه وَقد خرعه الْحَادِث وقرعه الكارث وصوته جَهورِي وزئيره قسوّري وَدم خَدّه سَائل وَعطف روعه مائل وطوق كزاغنده بِتِلْكَ الضَّرْبَة مفكوك ونهج سَلَامَته مسلوك وَكَانَ سلا سَلَامَته وَأقَام الْقَوْم قِيَامَته وَمن بعد ذَلِك رعب ورهب وَاحْترز واحتجب وَضرب حول سرادقه على مِثَال خشب الخركاة تأزيرا وَوَثَّقَهُ تحجيرا وَجلسَ فِي بَيت الْخشب وبرز للنَّاس كالمحتجب وَمَا صرف إِلَّا من عرفه وَمن لم يعرفهُ صرفه وَإِذا ركب وَأبْصر من لَا يعرفهُ فِي موكبه أبعده ثمَّ سَأَلَ عَنهُ فَإِن كَانَ مستسعفا أَو مستسعدا أسعفه وأسعده
وَمن كتاب فاضلي إِلَى الْعَادِل السَّلامَة شَامِلَة والرّاحة بِحَمْد الله للجسم الشريف الناصري حَاصِلَة وَلم ينله من الحشيشي الملعون إِلَّا خدش قطرت مِنْهُ قطرات دم خَفِيفَة انْقَطَعت لوَقْتهَا واندملت لساعتها وَالرُّكُوب على رسمه والحصار لأعزاز على حكمه وَلَيْسَ فِي الْأَمر بِحَمْد الله مَا يضيق صَدرا وَلَا مَا يشغل سرا
وَقَالَ ابْن أبي طي لما فتح السُّلْطَان حصن بزاعا ومنبج أَيقَن من
بحلب بِخُرُوج مَا فِي أَيْديهم من المعاقل والقلاع فعادوا إِلَى عَادَتهم فِي نصب الحبائل للسُّلْطَان فكاتبوا سِنَانًا صَاحب الحشيشية مرّة ثَانِيَة ورغبوه بالأموال والمواعيد وَحَمَلُوهُ على إِنْفَاذ من يفتك بالسلطان فَأرْسل لَعنه الله جمَاعَة من أَصْحَابه فجاؤوا بزِي الأجناد ودخلوا بَين الْمُقَاتلَة وباشروا الْحَرْب وأبلوا فِيهَا أحسن الْبلَاء وامتزجوا بأصحاب السُّلْطَان لَعَلَّهُم يَجدونَ فرْصَة ينتهزونها فَبَيْنَمَا السُّلْطَان يَوْمًا جَالس فِي خيمة جاولي وَالْحَرب قَائِمَة وَالسُّلْطَان مَشْغُول بِالنّظرِ إِلَى الْقِتَال إِذْ وثب عَلَيْهِ أحد الحشيشية وضربه بسكينة على رَأسه وَكَانَ رحمه الله محترزا خَائفًا من الحشيشية لَا ينْزع الزردية عَن بدنه وَلَا صَفَائِح الْحَدِيد عَن رَأسه فَلم تصنع ضَرْبَة الحشيشي شَيْئا لمَكَان صَفَائِح الْحَدِيد وأحس الحشيشي بصفائح الْحَدِيد على رَأس السُّلْطَان فسبح يَده بِالسَّكِينَةِ إِلَى خد السُّلْطَان فجرحه وَجرى الدَّم على وَجهه فتعتع السُّلْطَان لذَلِك
وَلما رأى الحشيشي ذَلِك هجم على السُّلْطَان وجذب رَأسه حَتَّى وَضعه على الأَرْض وَركبهُ لينحره وَكَانَ من حول السُّلْطَان قد أدركتهم دهشة أخذت بعقولهم
وَحضر فِي ذَلِك الْوَقْت سيف الدّين يازكوج وَقيل إِنَّه كَانَ حَاضرا فاخترط سَيْفه وَضرب الحشيشي فَقتله وَجَاء آخر من الحشيشية أَيْضا يقْصد السُّلْطَان فاعترضه الْأَمِير منكلان الْكرْدِي وضربه بِالسَّيْفِ وَسبق الحشيشي إِلَى منكلان فجرحه فِي جَبهته وَقَتله منكلان وَمَات
منكلان من ضَرْبَة الحشيشي بعد أَيَّام وَجَاء آخر من الباطنية فَحصل فِي سهم الْأَمِير عَليّ بن أبي الفوارس فهجم على الباطني وَدخل الباطني فِيهِ ليضربه فَأَخذه عَليّ تَحت إبطه وَبقيت يَد الباطني من وَرَائه لَا يتَمَكَّن من ضربه فصاح عَليّ اقْتُلُوهُ واقتلوني مَعَه فجَاء نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن شيركوه فطعن بطن الباطني بِسَيْفِهِ وَمَا زَالَ يُخضخضه فِيهِ حَتَّى سقط مَيتا وَنَجَا ابْن أبي الفوارس وَخرج آخر من الحشيشية مُنْهَزِمًا فَلَقِيَهُ الْأَمِير شهَاب الدّين مَحْمُود خَال السُّلْطَان فتنكب الباطني عَن طَرِيق شهَاب الدّين فقصده أَصْحَابه وقطعوه بِالسُّيُوفِ
وَأما السُّلْطَان فَإِنَّهُ ركب من وقته إِلَى سرادقه وَدَمه على خَدّه سَائل وَأخذ من ذَلِك الْوَقْت فِي الاحتراس والاحتراز وَضرب حول سرادقه مِثَال الخركاه وَنصب لَهُ فِي وسط سرادقه برجا من الْخشب كَانَ يجلس فِيهِ وينام وَلَا يدْخل عَلَيْهِ إِلَّا من يعرفهُ وَبَطلَت الْحَرْب فِي ذَلِك الْيَوْم وَخَافَ النَّاس على السُّلْطَان
واضطرب الْعَسْكَر وَخَافَ النَّاس بَعضهم من بعض فألجأت الْحَال إِلَى ركُوب السُّلْطَان ليشاهده النَّاس فَركب حَتَّى سكن الْعَسْكَر وَعَاد إِلَى خيمته وَأخذ فِي قتال عزاز فقاتلها مُدَّة ثَمَانِيَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا حَتَّى عجز من كَانَ فِيهَا وسألوا الْأمان فتسلمها حادي عشر ذِي الْحجَّة وَصعد إِلَيْهَا وَأصْلح مَا تهدم مِنْهَا ثمَّ أقطعها لِابْنِ أَخِيه تقيّ الدّين عمر
وَكَانَت عزاز أَولا للجفينة غُلَام نور الدّين فَلَمَّا ملك السُّلْطَان
منبج أَخذهَا مِنْهُ الْملك الصَّالح وقوّاها لَعَلَّه يحفظها من الْملك النَّاصِر فَلم يبلغ ذَلِك
وَلما فرغ السُّلْطَان من أَمر عزاز حقد على من بحلب لما فَعَلُوهُ من أَمر الحشيشية فَسَار حَتَّى نزل على حلب خَامِس عشر ذِي الْحجَّة وَضربت خيمته على رَأس الياروقية فَوق جبل جوشن وجبى أموالها وأقطع ضياعها وضيق على أَهلهَا وَلم يفسح لعسكره فِي مقاتلتها بل كَانَ يمْنَع أَن يدْخل إِلَيْهَا شَيْء أَو يخرج مِنْهَا أحد
وَكَانَ سعد الدّين كمشتكين فِي حارم وَكَانَت إقطاعه فِي يَد نوابه وَكَانَ انتزعها من يَد أَوْلَاد الداية بعد أَن عصى نائبها
وَكَانَ سَبَب خُرُوجه إِلَيْهَا أنّ السُّلْطَان لما نزل على عزاز خَافَ كمشتكين أَن ينْتَقل مِنْهَا إِلَى حارم فَخرج إِلَيْهَا فَلَمَّا نزل السُّلْطَان على حلب نَدم كمشتكين على كَونه خَارِجا فِي حارم وَخَافَ أَن يجْرِي بَين السُّلْطَان وَبَين الْأُمَرَاء الحلبيين صلح فَلَا يكون لَهُ فِيهِ ذكر وَلَا اسْم فراسل السُّلْطَان يتلطف مَعَه الْحَال وَيَقُول لَو فسح لي فِي الدُّخُول إِلَى حلب لسارعت فِي الْخدمَة وأصلحت الْأَمر على مَا يرومه السُّلْطَان وراسل أَيْضا الْملك الصَّالح والأمراء بحلب يَقُول لَهُم قد حصلت خَارِجا وَقد بلغتني أُمُور وَلَا بُد من طلبي من الْملك النَّاصِر ليأذن لي فِي الصيرورة إِلَيْكُم فَإِن الَّذِي قد حصل عِنْدِي لَا يمكنني الْكَلَام فِيهِ فراسل الْملك الصَّالح السُّلْطَان فِي الْأذن لَهُ فِي الدُّخُول إِلَى حلب فَأذن لَهُ وطلبوا الرهائن مِنْهُ فنفذ السُّلْطَان إِلَيْهِم رهينة شمس الدّين بن أبي المضاء الْخَطِيب والعماد كَاتب
الْإِنْشَاء وأنفذوا من حلب إِلَى السُّلْطَان رهينةً نصْرَة الدّين بن زنكي
وَحكى الْعِمَاد الْكَاتِب قَالَ لما حصلنا دَاخل حلب أُخذنا بِرَأْي الْعدْل ابْن العجمي وَجَعَلنَا فِي بَيت وَمنع منا غلماننا وَلم يحضر لنا طَعَام وَلَا مِصْبَاح وبتنا فِي أنكد عَيْش
وَفِي تِلْكَ اللَّيْلَة دخل كمشتكين إِلَى حلب فَلَمَّا أَصْبحُوا أُحضرت انا وَابْن أبي المضاء إِلَى مجْلِس الْملك الصَّالح وَكَانَ عِنْده ابْن عَمه عز الدّين مَسْعُود بن مودود وَجَمَاعَة من أَرْبَاب الدولة وَكَانَ صَاحب الْكَلَام الْعدْل ابْن العجمي فَأخذ يتحدث بلثغته ويترجم بلكنته وَيضْرب صفحا عني ويوهم الْجَمَاعَة أَنِّي بِأَنِّي
(وَمَا درى الغِمرُ بِأَنِّي امْرُؤ
…
أُميّز التبر من الترب)
(قد عارك الْأَهْوَال حَتَّى غَدا
…
بَين الورى كالصارم العضب)
(قد راضه الدّهر فَلْو أمَّه
…
بخطبه مَا ريع للخطب)
قَالَ وَعرضت نُسْخَة الْيَمين علينا وصرفنا وَلم يلْتَفت إِلَيْنَا
فَلَمَّا صَارا إِلَى السُّلْطَان وأخبراه بِمَا جرى فِي حَقّهمَا من الهوان علم أَن ذَلِك كَانَ حِيلَة عَلَيْهِ حَتَّى دخل كمشتكين إِلَى حلب فَأطلق نصْرَة الدّين وَقَاتل أهل حلب
وَلم يزل منازلا لحلب إِلَى انسلاخ سنة إِحْدَى وَسبعين وَخمْس مئة ثمَّ كَانَ مَا سَيَأْتِي ذكره